تفاعلت رئاسة النيابة العامة مع البلاغ الصادر عن المندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج، والذي أثار وضعية المؤسسات السجنية من خلال ارتفاع عدد الساكنة بها وما ترتب عنه من اكتظاظ نتيجة تزايد وتيرة الاعتقال مع ما قد ينجم عن ذلك من اختلالات وآثار سلبية. وأشادت رئاسة النيابة العامة، ضمن بلاغ لها توصلت به هسبريس، بكل الجهود التي تبذلها المندوبية المذكورة بغاية تجويد ظروف إيواء هذه الساكنة بكل حمولاتها وحسن تدبير المؤسسات السجنية ومختلف المبادرات الجيدة الرامية إلى إعادة إدماج السجناء. وفي إطار الحق في الحصول على المعلومة المكرس بمقتضى الدستور والقانون، قدم المصدر ذاته بعض التوضيحات حول العوامل والإكراهات التي تتحكم في عدد نزلاء المؤسسات السجنية ببلادنا. وأوضح البلاغ ذاته أن التطور النوعي الذي عرفته مظاهر الجريمة في السنوات الأخيرة سواء من حيث خطورة الأفعال المرتكبة أو الوسائل المستعملة فيها أو طبيعة الأشخاص الذين يقترفونها، لا سيما الذين يوجدون في حالات العود، وما لذلك من انعكاس على طمأنينة وسكينة المواطن والمجتمع فرض على كل الجهات الساهرة على إنفاذ القانون التصدي لكافة هذه المظاهر بهدف الحفاظ على أمن وسلامة الأشخاص وحماية ممتلكاتهم. وفي هذا السياق، أورد المصدر ذاته أن المصالح الأمنية والشرطة القضائية بكل أصنافها بذلت وما زالت تبذل جهودا مضنية لمواجهة كل الخارجين عن القانون، وضبطهم وإحالتهم على النيابات العامة المختصة. وأبرز أن عدد هؤلاء الخارجين عن القانون بلغ خلال النصف الأول من السنة الجارية حوالي 309 آلاف و259 شخصا، أغلبهم من أجل الاتجار في المخدرات، وشغب الملاعب المرتبط بالتظاهرات الرياضية، وجرائم الأموال والجرائم المالية التي تندرج في إطار مواجهة الفساد المالي والاعتداء على الأشخاص سواء في إطار عصابات إجرامية أو السرقات الموصوفة أو غيرها من الجرائم الخطيرة. وأفادت رئاسة النيابة العامة بأن المجهودات التي قامت بها مصالح الشرطة القضائية بكل أصنافها، في إطار إسهامها في عدم الإفلات من العقاب وتطويق الفارين من العدالة، أسفرت عن توقيف حوالي 162 ألفا و545 شخصا كانوا موضوع برقيات بحث على الصعيد الوطني، خلال النصف الأول من هذه السنة الجارية، تمت إحالتهم على النيابات العامة المختصة من أجل اتخاذ الإجراء القانوني المناسب في حقهم. كما حرصت النيابات العامة أيضا على تنفيذ الأحكام الباتة القاضية بعقوبات سالبة للحرية الصادرة في مواجهة المحكومين في حالة سراح، مبرزة أن مصالح الشرطة القضائية بذلت مجهودات متميزة في سبيل ضبط هؤلاء المحكوم عليهم وإيداعهم بالمؤسسات السجنية المعنية. كما جرى كذلك، وفق البلاغ، إيداع مجموعة من الأشخاص الصادرة في مواجهتهم أوامر بالإكراه البدني بعدما تخلفوا عن أداء الغرامات المالية، أو الديون العمومية أو الخصوصية المتخلدة في ذمتهم وفق ما يفرضه القانون، مؤكدا أن كل هذه العوامل ساهمت في ارتفاع عدد ساكنة المؤسسات السجنية. وشددت رئاسة النيابة العامة على أنها باعتبارها الجهة المشرفة على حسن تنفيذها على حث النيابات العامة على التفاعل بالمسؤولية اللازمة مع الأشخاص المقدمين أمامها من أجل ارتكابهم للأفعال ذات الخطورة؛ وذلك في إطار الملاءمة والتوازن ما بين ضمان حماية سلامة المواطنين وممتلكاتهم من جهة، والحفاظ على حقوق وحريات المشتبه فيهم من جهة أخرى، مع مراعاة وضعية الطاقة الاستيعابية للمؤسسات السجنية. وانسجاما مع هذا التوجه، ووعيا من النيابات العامة بضرورة عقلنة تدبير الاعتقال، قال البلاغ، فقد دأبت على عدم اللجوء إلى إعماله إلا عند الضرورة، وهو ما تعكسه نسبة الاعتقال التي لم تتجاوز 24 في المائة من بين المقدمين أمامها والبالغ عددهم (309 آلاف و259)، خلال النصف الأول من هذه السنة، معتبرة إياها نسبة جد معقولة مقارنة مع النسب المرتفعة المسجلة لدى بعض الدول الأخرى. وأكد المصدر نفسه أن عدد المعتقلين احتياطيا بالمؤسسات السجنية عرف إلى غاية شهر يوليوز من هذه السنة انخفاضا، حيث بلغ حوالي 39 في المائة مقابل 40 في المائة خلال الفترة نفسها من السنة الماضية، بخلاف النسب المسجلة خلال السنوات الفارطة الممتدة من سنة 2010 التي تراوحت ما بين 38 في المائة و47 في المائة؛ وهو ما يوحي بأن تدبير الاعتقال يتماشى مع تطور الجريمة صعودا أو نزولا منذ أمد بعيد. وقال البلاغ إن معدلات الاعتقال الاحتياطي لا ترقى إلى طموح رئاسة النيابة العامة رغم الجهود المبذولة في هذا الإطار، إلا أنها تبقى مقبولة مقارنة مع نسب الاعتقال الاحتياطي المسجلة في بعض دول الاتحاد الأوروبي بحسب الأرقام التي نشرها مجلس أوروبا خلال سنة 2022، كما هو الحال بالنسبة لهولندا 45،2% وبلجيكا 38،4%، وفرنسا 28،5 %، وإيطاليا 31،5%، والدانمارك 41،3%، واللكسومبورغ 43،3%. وعلى الرغم من انخفاض نسبة الاعتقال خلال النصف الأول من هذه السنة والجهود المبذولة من طرف النيابات العامة بشأن ترشيد الاعتقال الاحتياطي، فإن فئات مختلفة داخل المجتمع دأبت، في مناسبات عديدة وعبر العديد من المنابر بما في ذلك وسائط التواصل الاجتماعي، على المطالبة بتفعيل آلية الاعتقال لردع مرتكبي الجرائم حتى ولو كانت بسيطة بدل المتابعة في حالة سراح. ومع ذلك، أضاف البلاغ، فإن قضاة النيابة العامة يلتزمون بالتطبيق السليم للقانون دون تأثر بما ذكر حيث يجنحون في إطار اعتماد مبدأ الملاءمة إلى عقلنة تدبير وضعية الاعتقال، واعتمادها في مستواها الأدنى بالنسبة لأغلبية الأشخاص المقدمين أمامها، وهو الاتجاه نفسه الذي يعتمده قضاة التحقيق في إطار سلطتهم التقديرية واستقلاليتهم. وأشار إلى أنه تبعا للتفاعل الإيجابي بين رئاسة النيابة العامة والمصالح المركزية للشرطة القضائية بكل أصنافها الهادف إلى الرفع من النجاعة القضائية من خلال ترشيد إنجاز الأبحاث الجنائية داخل أجل معقول، فقد أصبحت الأبحاث تنجز في أغلبها خلال ثلاثة أشهر مع إحالة العديد من المعنيين بها على النيابات العامة المختصة حيث يتخذ تدبير الاعتقال الاحتياطي في حق القليل منهم متى توفرت موجبات لذلك، لا سيما خطورة الأفعال أو انعدام الضمانات. وأوضح أن تصنيف الساكنة السجنية فقد توزعت خلال سنة 2022 على حوالي 30 في المائة من أجل الاتجار في المخدرات، و31 في المائة في إطار الجرائم المالية وجرائم الأموال، و30 في المائة من أجل جرائم الاعتداءات الخطيرة على الأشخاص، كالقتل أو تكوين عصابات إجرامية أو استعمال السلاح الأبيض إلى آخره. وذكر بلاغ رئاسة النيابة العامة بأن القضايا الزجرية بالمحاكم تشكل حوالي 62 في المائة من مجموع القضايا الرائجة بها، وأن قضاة الحكم يبذلون مجهودات جبارة من أجل تصفيتها داخل آجال معقولة رغم إكراهات عديدة مرتبطة بالجانب القانوني والواقعي، ولا سيما مسألة التبليغ. كما أشار البلاغ إلى أن رئاسة النيابة العامة ما فتئت تعمل جاهدة على مواكبة موضوع الاعتقال، والتفاعل مع وضعية المؤسسات السجنية التي تعرف بعضها اكتظاظا في ساكنتها من خلال توجيه عمل النيابات العامة بمقتضى دوريات أو عقد اجتماعات مع مسؤوليها، وأيضا عبر تنظيم دورات تكوينية في هذا المجال، مع الأخذ بعين الاعتبار التلازم بين مواجهة استفحال الجريمة وحماية المواطن والمجتمع من آثارها كأولوية، انطلاقا من مبدأ التزامات الدولة في هذا الاتجاه، وتفاديا لنسف جهود المصالح الأمنية والشرطة القضائية في محاربة الجريمة من جهة، وتكريسا لدور القضاء في تفعيل مبدأ حماية حقوق الأشخاص والجماعات وحريتهم وأمنهم القضائي طبقا لمقتضيات المادة 117 من الدستور. واعتبرت رئاسة النيابة أن المبالغة في اعتماد المرونة في الإبقاء على المتورطين في جرائم تتسم بنوع من الخطورة في حالة سراح سوف تكون له عواقب وخيمة على أمن المجتمع والأفراد على حد سواء. وانطلاقا من هذه الإكراهات، أورد البلاغ، أن مقاربة معالجة الجريمة تختلف من دولة إلى أخرى حسب خصوصيتها والثقافة السائدة لدى مواطنيها، وبالنسبة لبلادنا فإن الأمر يتطلب العمل المتواصل من أجل تغيير الثقافة السائدة حاليا لدى فئات من المواطنين الذين يرون أن العدالة الجنائية الناجعة تكمن في الاعتقال وأن الردع الصائب هو العقوبات السالبة للحرية في جميع القضايا، وإلا فإن هذه العدالة تبقى منتقدة وغير مجدية، علما أن القضاء بصفة عامة لا يأبه بهذا الاتجاه، وإنما يحرص على التطبيق السليم والملائم للقانون. وأمام هذه الوضعية، شددت رئاسة النيابة العامة على أن الأمر يقتضي معالجة موضوع اكتظاظ المؤسسات السجنية من خلال مقاربات متعددة تروم أنسنة المؤسسات السجنية، وتوفير الظروف الملائمة للعاملين بها لأداء مهامهم بيسر، مع استحضار استمرارية ضمان أمن وسلامة المجتمع. وأكدت على أهمية ما ورد ببلاغ المندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج من حيث تشخيص وضعية المؤسسات السجنية والمطالبة بالإسراع بإيجاد الحلول الكفيلة لمعالجة إشكالية الاكتظاظ بالمؤسسات السجنية لتفادي الانعكاسات المشار إليها بالبلاغ. كما أكدت أنها سوف تواصل دورها التأطيري والتحسيسي لقضاة النيابة العامة لاتخاذ ما يلزم من تدابير وفق ما يفرضه القانون من أجل بذل المزيد من الجهود ما أمكن بهدف ترشيد الاعتقال الاحتياطي في أفق تحقق الأهداف المأمولة السالف ذكرها. وعبرت رئاسة النيابة العامة عزمها على الدعوة لعقد لقاء خلال شهر شتنبر المقبل يجمع المؤسسات والجهات المعنية لمناقشة الموضوع، وكل الآراء والمقترحات والإمكانيات المناسبة لتجاوز كل الصعوبات والإكراهات التي ترتبط بتدبير الاعتقال الاحتياطي ووضعية المؤسسات السجنية في أفق تدخل المشرع في المنظور القريب لإيجاد الحلول التشريعية المنتظرة، سواء ما يتعلق بسن مقتضيات حديثة من شأنها تعزيز بدائل الاعتقال الاحتياطي والتعجيل بإخراج المقتضيات المتعلقة ببدائل العقوبات السالبة للحرية وأيضا قانون المسطرة الجنائية والقانون الجنائي بصفة عامة.