تاريخ الجفاف والجوع مليء بالعبر تقترن المجاعات في تاريخ المغرب الكبير بشح التساقطات وما تخلفه من مواسم جافة، حيث ارتبط انتشار الجوع على مر التاريخ بتعاقب سنتين أو أكثر من الجفاف، أما الجفاف العابر الذي يشمل سنة واحدة لم يكن ليؤدي بالضرورة إلى انتشار الجوع، بمجتمعات اكتسبت خبرة تاريخية في مواجهة السنوات العجاف، عبر ادخار الأقوات والعمل على تجديد مطمورات (خزائن) الحبوب في كل موسم فلاحي. أدت المجاعات المتعاقبة إلى تغيير عميق للسلوك الغذائي المغاربي، أهم ما ميزه هو جنوح النظام الغذائي وعودته لمرحلة القطف، هكذا برزت الحاجة إلى البحث بالغابات وقطف ما يسكن آلام الجوع ويؤخر هلاك الجسد. لكن رغم فداحة ما فعله الجوع بالإنسان، ظل هذا الأخير ينظر إلى مشكلة الجفاف نظرة قدرية، معتبرا أنها مجرد عقاب إلهي يُرفع بالصلاة والدعاء وإعلان الثوبة الجماعية. جراد معروض للبيع بمراكش عام الجوع 1945 شهد التاريخ المغاربي تعاقب فترات متعددة للجفاف الفتاك والذي يمتد لموسمين أو أكثر، وقد مرت المنطقة بفترات جفاف وجوع دورية، من بينها الفترة الممتدة لأربع سنوات متعاقبة ما بين 1519 -1522، وفترة أخرى بارزة امتدت لسبع سنوات ما بين 1626 –1632. تتعدد الفترات المتعاقبة وتتباين في انتشارها بين انتشار عام يغطي المنطقة بأسرها، وآخر شبه عام يغطي تونس وشرق الجزائر أو المغرب وغرب الجزائر، ويرتبط هذا التباين بطبيعة الكتل الهوائية وحركتها. إن تعاقب فترات الجفاف بشكل دوري وشبه مستقر، يوضح طبيعة المناخ المتوسطي، حيث يعد الجفاف المناخي خاصية مميزة له وليست بطارئة. التقلبات المناخية تزيد من حدة الجفاف ودرجة فتكه تتميز الفترة الراهنة مقارنة بالقرون السابقة باختلاف واضح، يتجلى في التراجع المنتظم لكمية التساقطات وتزايد تطرف درجة الحرارة، خلال الفترة الحالية وبالضبط الأسبوع الأخير من أبريل 2023 سجل غرب البحر الأبيض المتوسط، درجات حرارة أعلى بمقدار 20 درجة مئوية عن المعتاد خلال نفس الفترة من السنة، بشبه الجزيرة الإيبيرية تم تجاوز الرقم القياسي الوطني لشهر أبريل بهامش كبير جدًا، حيث تم تسجيل 36.9 درجة مئوية و38.8 درجة مئوية على التوالي في الأجزاء الجنوبية من شبه الجزيرة. أما في المغرب فقد تم تحطيم العديد من معدلات شهر أبريل في جميع أنحاء البلاد، حيث تجاوزت درجات الحرارة 41 درجة مئوية في بعض المدن مثل سيدي سليمان ومراكش وتارودانت. وفي الجزائر تجاوزت درجات الحرارة 40 درجة مئوية في مغنية ومعسكر وغيرهما. تراجع حقينة سد إدريس الأول (حدود إقليمي تازة وتاونات) تتأكد أكثر حدة التطرف المناخي من خلال الانخفاض غير الاعتيادي أيضا لدرجات الحرارة خلال الثلث الأخير من شهر ماي 2023، إذ لم تتعدى درجة الحرارة ببعض المدن المغربية (فاس، طنجة، تازة...) 20 درجة مئوية فقط. وبالتالي فإن التقلبات المناخية ستكون قاسية جدا على المنطقة المغاربية التي يبدو أنها معرضة لدرجات حرارة متطرفة تتسم باتساع المدى الحراري، والاتجاه العام نحو نظام بيئي جديد عنوانه التصحر الشامل. وفي هذا السياق، تشهد البلدان المغاربية منذ سنة 2021 جفافا قاسيا وشاملا، خصوصا خلال الموسم الفلاحي الحالي 2022 -2023، فشح المطر قضى بشكل تام على الزراعة البورية، فعلى سبيل المثال لم تتجاوز حصيلة إنتاج الحبوب بتونس 12.5% من حاجيات البلاد، المقدرة بحوالي 32 مليون قنطار، نفس التراجع طبع إنتاج الزيتون جراء الآثار القاسية للجفاف، التي أضحت تهدد بقاء ضيعات الغراسة البورية وخصوصا الزيتون، الذي يعد مصدر المكون الغذائي الأساسي "الزيت" وقوام المائدة المغاربية. خريطة توضح التطرف المحتمل لدرجات الحرارة اليومية خلال نفس الفترة من السنة تزداد خطورة الجفاف من خلال أثره المباشر على الموارد المائية سواء السطحية أو الباطنية، خصوصا وأن المنطقة تضم أودية وطنية فقط، تشكل التساقطات مصدر تغذيتها الوحيد، مما أدى ويؤدي إلى تراجع صبيبها بشكل فادح، الشيء الذي أثر بشكل واضح على حقينة السدود سواء الموجهة للشرب أو السقي، التي لا تتعدى نسبة ملئها في الغالب 30%، هنا يبرز شبح العطش الذي يعد أشد فتكا بالإنسان من خطر الجوع، خصوصا وأن الفجوة بين العرض والطلب المائيين تتزايد بشكل مقلق جدا. فعلى سبيل المثال فقد انطلقت تونس في تقسيط مياه الشرب بمدينة الحمامات، وهذا الإجراء يعتبر متوقعا أيضا بالجزائر والمغرب، أمام إصرار المغاربيين وخصوصا المغرب وبدرجة أقل تونس، على مضاعفة الاستثمارات الفلاحية أو ما يمكن تسميته "بالرأسملة الشاملة للقطاع الفلاحي"، وبالتالي مضاعفة الصادرات الفلاحية وجلب المزيد من العملة الصعبة ومراكمة المزيد من الأرباح، على حساب الأمن المائي – الغذائي الوطني. في هذا السياق حقق المغرب نجاحا فلاحيا باهرا واستثنائيا، إذا أصبح منصة حقيقية لتصدير الكثير من أنواع الخضر والفواكه المستهلكة للماء، من قبيل الطماطم والفراولة وكذلك البطيخ الأحمر الذي لازال يزرع بمناطق جافة مهددة بالعطش، دون أن ننسى زراعة الأفوكادو حيث يعد المغرب ثالث مصدر إفريقي لهذا المنتوج، الذي يكلف كيلو غرام واحد منه حوالي 1000 لتر من الماء حسب المختصين، ورغم استنزافه للثروة المائية هناك توجه عام للاستثمار في "الذهب الأخضر" كما يلقب، فقد بلغت صادراته حوالي 000 17 طن نحو الأسواق الدولية سنة 2019، مقابل 1500 طن سنة 2009. وعموما يكفي تأمل توسع مساحة أغلب المزروعات، فحسب وزارة الفلاحة المغربية فقد قفزت مساحة زراعة الحوامض من 87 ألف هكتار في سنة 2008 إلى 126ألف هكتار سنة 2018، كما ارتفعت المساحة المزروعة بالفواكه الحمراء من 2.900 هكتار إلى 7.200 هكتار خلال نفس الفترة، 50% منها مخصصة لتوت الأرض (الفراولة). ضيعة لزراعة الفراولة بالشمال الغربي للمغرب تطرح الحالة المغربية مفارقة واضحة، فهي من جهة تتناقض مع الوضعية المائية الحرجة بالبلد ومن جهة ثانية تبرز التركيز المفرط على "رهان التصدير الموجه للخارج وخصوصا للاتحاد الأوربي" وطغيانه على السياسة الفلاحية المغربية. أدى هذا "الاختيار الاستراتيجي" إلى التركيز على بعض المنتجات ذات الاستهلاك الأوربي الواسع، مقابل تهميش المنتجات الاستهلاكية الأساسية للمغاربة وأولها القمح وبعض أنواع الخضر. وعموما فقد كانت تداعيات سنة جافة واحدة قادرة على كشف خطر هذا التوجه الرأسمالي على سلة غذاء المغاربة، حيث سُجل نقص حاد في الخضر الأساسية "البصل، البطاطس، الطماطم"، بسبب استمرار التصدير في ظل تقلص المساحة المزروعة المرتبط بآثار الجفاف. في هذا السياق، تجب الإشارة إلى الزراعة البورية شكلت على الدوام الضمانة الحقيقية للأمن الغذائي بالمنطقة المغاربية، حيث توفر الحبوب والخضر الموسمية على اختلافها كما تشكل مصدر زيت الزيتون، وبالتالي فتعاقب الجفاف كشف الخلل الذي أحدثه التركيز الرأسمالي على الزراعة المتخصصة الموجهة للأسواق الدولية، وتهميش المنتجات ذات الاستهلاك الواسع وطنيا، ولعل حالة إنتاج زيت الزيتون بالمغرب توضح هذه المفارقة، إذ يُسجل في هذا الصدد تناقض صارخ، يتجلى في نقص العرض الداخلي لزيت الزيتون مقابل ارتفاع حجم الصادرات لسنة 2022 مقارنة بسنة 2021 ، فخلال نفس الفترة سجلت زيادة قدرها 47% أي تضاعف حجم الصادرات في ظل النقص الشديد لهذه المادة الحيوية بالأسواق المغربية، مما أدى إلى تضاعف ثمن اللتر الواحد من الزيت الذي انتقل من 30 درهما أي ما يعادل ثلاثة دولارات في سنوات الإنتاج العادي، إلى 60 درهما وهو ما يعادل 6 دولار خلال النصف الثاني من سنة 2022، رغم أن المغرب يعد خامس منتج عالمي للزيتون. إجراءات استعجالية تطوق شبح الجوع والعطش تتطلب أزمة الجوع والعطش التي يبدو أنها قدر المغاربيين، في ظل التراجع المهول للثروة المائية، إجراءات عميقة ومتعددة، تمكن من اتخاذ خطوات تصحيحية تضمن للمغاربيين الماء والغذاء بغض النظر عن الظروف الدولية أو حتى الداخلية، وبالتالي التغلب على تحدي الجفاف. ولعل أبرز هذه الإجراءات تلك المتمثلة في إطلاق مشاريع كبرى لتحلية مياه البحر الموجهة لأغراض الشرب والسقي، إلى جانب تأهيل قطاع معالجة المياه العادمة، لتخفيف أعباء الطلب المائي خصوصا المتعلق بالأنشطة الصناعية وسقي المساحات الخضراء والموجه بعض الخدمات الحضرية. بموازاة هذه المشاريع يجب الاستثمار في قنوات كبرى لنقل المياه من أقطاب التحلية الساحلية إلى المناطق الداخلية، ولما لا الاستثمار في أنهار صناعية كبرى، وفي هذا السياق فقد كانت ليبيا القذافي سباقة لهذا المشروع الضخم، لذلك فالتجربة الليبية ربما تشكل نموذجا لباقي الدول المغاربية. لن تكتمل فعالية المشاريع الكبرى لتحلية مياه البحر ومعالجة المياه العادمة، إلا بتقييم شامل للسياسة الفلاحية وما حققته على مستوى الأمن الغذائي للدول المغاربية، تقييم سيمكن بلا شك من مراجعة التوجهات التي تتنافى مع مبدأ الأمن المائي – الغذائي، وعلى رأسها إعادة النظر في الزراعات المستهلكة للماء "الأفوكادو، البطيخ الأحمر، الفراولة..." مقابل رد الاعتبار للمنتجات الوطنية التي تشكل قوام النظام الغذائي المغاربي، من خلال العمل على تثمينها والبحث عن سبل تطويرها بشكل يتوافق مع العرض المائي والطلب الاستهلاكي. ولا شك أن تطوير زراعة الحبوب وخصوصا القمح والشعير، يحظى بأهمية بالغة وأولوية لا جدال فيها، نظرا لمكانة هذا المنتوج في النظام الغذائي المغاربي، كما يجب العمل على تطوير غراسة الأشجار المثمرة وجعلها اختيارا فلاحيا استراتيجيا، وتأتي غراسة الزيتون على رأس غراسات الأمن الغذائي – المائي، إلى جانب غراسة التين واللوز والصبار، أنواع معروفة باستهلاكها المعقول للمياه، مقابل إصدار قوانين ملزمة تمنع زراعة وغراسة بعض الأنواع الدخيلة على البيئة المتوسطية والمعروفة باستنزافها للثروة المائية. كما تفرض أزمة الغذاء أيضا مراجعة شاملة لسياسة التصدير بالنسبة لمنتجات الاستهلاك اليومي "الحبوب، الزيت، البصل، البطاطس، الطماطم، البرتقال، التفاح...". والعمل أيضا على تعميم السقي بالتنقيط بالاستغلاليات المتوسطة والصغرى خصوصا. إن النظر إلى تسارع التقلبات المناخية وما يرافقها من تطرف مناحي، سمته الأساسية اتساع المدى الحراري وتزايد حدة الجفاف، يتطلب من المنطقة المغاربية التي تعد بؤرة ساخنة للتقلبات المناخية، ومن أكثر المناطق المهددة بالتصحر الشامل وما يرافقه من توترات سياسية وحركات سكانية إيكولوجية، إبداء الإرادة السياسية الحقيقية لتصحيح السياسات الاقتصادية وتبني رؤية مستقبلية استراتيجية بعيدة المدى، تراهن على ضمان الأمن المائي – الغذائي، وتجنب منزلقات الرأسملة الشاملة للقطاع الفلاحي، الذي أصبح خاضعا لمنطق الدولار والرفاه الغذائي بدل الخضوع لمنطق الاكتفاء الغذائي والأمن المائي القومي.