مما لا ريب فيه أن أعرق الروابط الاجتماعية وأقدمها، التي حظيت باهتمام الإنسان وأضفى عليها هالة من القدسية منذ أن وجد فوق هذه البسيطة، هي رابطة الزواج التي تجمع بين الذكر والأنثى، وتمنح البشرية استمراريتها وديمومتها، ويحقق من خلالها الإنسان غرائزه الفطرية، بما فيها من لذةٍ ومتعةٍ وانسجامٍ وتكاثر.. والتي أولتها الشرائع السماوية اهتماماً كبيراً، وجعل منها الإسلام علاقة متميزة، وبوأها المكانة العالية، ووصفها الله عز وجل بالميثاق الغليظ والرباط الوثيق، لما تحمل بين طياتها وثناياها من أسرار الخلق، وأسرار البقاء، وأسرار الحياة، لأنها نعمة من أجلٍّ نعم الله على خلقه، وآية من آياته التي تدل على كمال عظمته وحكمته، مصداقا لقول تعالى: "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم منْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ" الروم، وقوله تعالى: واللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِّنْ الْطَّيِّبَات، النحل. ومن أجل هذه الغايات السامية، حاربت الشريعة الإسلامية الرهبانية لكونها تتصادم مع فطرة الإنسان وتتعارض مع ميوله وأشواقه وغرائز، وحرمت على المسلم القادر المتيسر أن يمتنع عن الزواج ويزهد فيه بنية الرهبانية والتفرغ للعبادة والتقرب إلى الله لأن الزواج فطرة إنسانية "فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون" الروم. وقد حثَّ عليه قدوتنا صلى الله عليه وسلم بقوله في حديث ابن مسعود: "يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ؛ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ". وبعد أن تحدثنا في الأجزاء السبعة السابقة عن الزواج المختلط ومشاكله، وزواج الفيزا ومخاطرها، وزواج الشباب اليافع بالمسنين، وتطرقنا زواج الانترنيت ومسبباته، و انتقلنا منه إلى حق المرأة في ما تنتح يداها من ثروة أثناء الحياة الزوجية فيغبنها جشع الزوج الذي لا يعترف بتضحياتها من أجل أسرتها. بعد هذا وذاك ارتأيت أن أطرح عى نفسي وعلى القراء الكرام السؤوال التالي "ما هي الصورة والشروط والضوابط التي حددتها الشريعة الإسلامية للزواج، حتى يكون مثاليا، يقوي الأواصر، ويعلي الوشائج، ويوثق العلاقات، ويبعث على الراحة النفسية والطمأنينة القلبية، والتعاون على أعباء الحياة الاجتماعية، بدأً من الخطبة إلى الإنجاب، أدباً وخلقاً سلوكاً؟؟؟. وللإجابة أبدأ بالقولة الغربية الشائعة والتي لا ريب في صدقيتها: "أن المقدمات السليمة تؤدي إلى النتائج السليمة"، وعليه فأن التزام الزوجين وأهلهما بتعاليم الشرع الحنيف، لاشك يقود إلى الزواج المثالي العامر بالسعادة والعطاء الذي صفه المولى سبحانه وتعالى بالتعبير الإلهي الرائع "هن لباس لكم وانتم لباس لهم" وأوصى رسولنا الكريم الأولياء بضرورة تيسيره وتبسيطه، بقوله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أعظم النكاح بركة أيسره مؤونة"، مؤكدا على احترام حقِّ الفتاة في اختيار شريك حياتها وتزويجها ممن يكون كفءً لها قال: « إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، ألا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عظيم » جاعلا صلوات الله عليه من الاهتمام بالأهل والحنو عليهم وحبهم معيارا لخيرية الرجل، بقوله: "خيركم.. خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي". (رواه الترمذي وابن ماجة). فهل نحن من خيار الناس؟. أي هل نعرف ما لزوجاتنا علينا من حقوق ونسعى لأدائها فنكون بذلك أزواجًا مثاليًن؟ كما قال صلى الله عليه وسلم "إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج" (متفق عليه). فليس بغريب أن يوجه هذا التساؤل للأزواج دون الزوجات، لأن العنف الجنسي في معظم أحواله يقع من الأزواج على زوجاتهم، وفي غالبيته يكون بسبب جهل أو تجاهل معظم الأزواج للنصوص الإسلامية من الكتاب والسنة التي تناولت العلاقة الزوجية بينهما، وقلما يقع من الزوجة، لأن المرأة بطبيعتها رقيقة ومسالمة، وعادة ما تسكت عن كل ما يقع عليها من عنف جنسي، طاوية جناحيها على آلامها، حتى تتخلص من لَوم وتجريح الزوج الذي لا تتمنى إلا أن تعيش بصحبته يراعي حقوقها ويحافظ على مشاعرها أكثر من أي شيء. ولا شك أن جهل الأزواج أو تجاهلهم للضوابط الشرعية هو السبب الرئيس للنزاعات الزوجية، والدافع الأساس للشقاق والطلاق، ومن المؤكد أن الثقافة الجنسية الخاطئة أو القاصرة المشبعة بالأفكار والعواطف والأحاسيس الذكورية الخاطئة والمشوهة، هي التي تجعل معظم الأزواج لا يدركون أن العلاقة الحميمة هي علاقة قائمة على الحب والمودة والاحترام بين الطرفين، فيتعاملون على ضوئها مع الزوجة على أنها أداة ووسيلة للمتعة فقط، حتى لو كانت تلك المتعة قائمة على أساليب التعذيب المختلفة كالغلظة والإهانة والضرب، وكل ما يتعارض مع المعنى الأسمى للعلاقة الزوجية الصحيحة، ويدخل في نطاق ما يسمى عند الحقوقيين بالعنف الجنسي الذي يشكل صدمة قوية جداً بالنسبة للزوجة التي ترسم دائماً صورة وردية لحياتها بعد الزواج، مبنية على الحب والمعروف كما نص عليها سبحانه وتعالى في قوله: "وعاشروهن بالمعروف" النساء، وقوله تعالى: "ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف "البقرة، وقوله تعالى: " والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياءُ بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر " التوبة، وغير ذلك من الآيات. لكنها، مع الأسف، تصطدم بواقع مخالف لتلك التعاليم الإلهية حين تقابل بالعنف والغلظة حتى في اللقاءات الحميمية التي تحولت من لقاءات كلها حب وألفة، إلى فعل ميكانيكي عدواني قائم على فعل الاغتصاب، ولذة الاقتحام العدواني العارم و العنف المشتهى الذي يرزح في لاوعي أكثرية الأزواج، وخيالهم الجنسي المأزوم الذي لم تعد معه ظاهرة العنف الجنسي تقتصر على حوادث الاغتصاب، التي تفرض مثل هذا العنف، بحكم ممانعة المرأة المغتصبة ضد مغتصبها، بل صارت طقسا من طقوس الجنس يمارسه الأزواج المهووسون بالعنف المجاني وكأنهم يخوضون حربا لإثبات الذات. ويظهر ذلك جليا من نظر بعض الفقهاء المتطرفين للمرأة، على أنها مصدر للمتعة وفي نفس الوقت أصل لكل البلايا، وما أعدوه لهذا الكائن المغري والمخيف في نفس الآن، من ترسانة فتاوى مجحفة تدعو في مجملها إلى التعامل معها بحذر شديد، بحجّة أنّها مصدر الغواية، وتضع حدودا فاصلة بين عالمها وعالم الرجال، وتحيطها برقابة صارمة تجيز كل أشكال العنف الجنسي ضدها، وترفض حقها في مقاضاة زوجها إذا ما عاشرها دون رضاها. وكل ذلك بدعوى حماية مصير ومرتكزات الأسرة المسلمة على اعتبار أن "الأسرة العمودية القائمة على طاعة الزوجة لزوجها وانصرافها لخدمته وتلبية رغباته، وقبولها شغل المواقع الأدنى في هرمية الأسرة الاستبدادية المبنية على أحادية القرار، هي -بالنسبة لحراس الفقه المتشدد- الأسرة الأمثل التي تضمن للمجتمع المسلم الاستقرار والسلام والطمأنينة".. ومن أكبر المآسي التي نخشاها هو تماهي المعنفة مع مغتصبها وانتفاء استقلاليتها، لتصير أمة بمحض إرادتها، ويصبح سجّانها في ذهنها وبين جوانحها، مستسلمة له لا ترى من حياة سوى حياة الاستعباد، معتقدة أنّ كلّ تحرّر بدعة وكلّ استقلال ضلالة وكل ضلالة توجب سخط الزوج الذي هو من سخط ولعنة الله. وبذلك يكون أعداء المرأة وأنصار الفقه التقليدي، قد نجحوا في أسر المرأة داخل قمقم رهيب، ورهنوا مصيرها ومصير الأمة بتعاويذهم التراثية الرافضة لمناقشة كل ما له صلة بعلاقتها الحميمية مع زوجها، وكأنها سر دولة أو جيش، أو كأن الدين جاء فقط ليدعو للصلاة والصيام ولا علاقة له بمشاكل الناس اليومية، التي يدخلونها في نطاق البدع والضلال والعيب وقلة الأدب والحياء، فيعترضون، دون دليلا من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس، على التحدث أو الكتابة عن الجنس بين الأزواج من وجهة نظر إسلامية على أنه حرام ومكروه ومتناقض مع الحياء، ويضفون عليه حجبا من الأسرار والغموض. وكلنا يعلم أنه في عالم الأسرار والغموض تنشأ الأفكار الخاطئة والممارسات الشاذة وتنمو وتتشعب دون رقيب أو حسيب، وبسببه يعاني الشباب من وطأة الأسئلة الملحة والمشاعر الحائرة، في أخطر مرحلة من حياتهم " المراهقة" بما تحويه من متغيرات نفسية وجنسية وفسيولوجية وحتى مظهرية، وخاصة عند الزواج حيث يصبح الزوجان الشابان في مواجهة حقيقية مع أمر الجنس، ويحتاجان إلى ممارسة واقعية وصحيحة وهما في الحقيقة لم يتأهلا له، فيواجه كل منهما الآخر بكل مخزونه من الخجل والخوف والأفكار الخاطئة والممارسات المغلوطة، لأصول العلاقة الجنسية التي يدركون منها غير الجانب الوظيفي فقط للجنس أي الجانب الأدائي الذي يؤدي إلى إنجاب الأطفال لكن ما حول هذا الجانب فهو دائماً به نقص كبير. ومع الأسف الشديد، يلزم الكثير من الأزواج الصمت، في هذه الحالة، فلا الزوج يشكو من توتر العلاقة أو العجز عن القيام بعلاقة كاملة أو عدم القدرة على إسعاد زوجته، ولا الزوجة تملك شجاعة البوح بمعاناتها من عدم الإشباع الذي لا يعرف زوجها كيف يحققه لها، فتبدو الأسرة سعيدة والبيت راسخا مستقرًا، وفجأة تبدأ الموقف العاصف، والمشادة الغاضبة، وتشتعل النيران، ونسمع دعاوى الطلاق والانفصال، يسوق لها كل طرف بحجج يحاول إقناع الأهل بأنها أسباب موضوعية وقوية، ولكنها في حقيقتها بعيد كل البعد عن السبب الحقيقي للخلاف الذي يتوارى خلف أستار من الخجل والجهل، ولا يعلمه إلا الله والزوجان اللذان يعانيان من جهل، غير مقبول، لمسلمات ضرورية لمنع تعثر الزواج في مراحله الأولى( مرحلة الخطبة) فالحديث والكتابة عن العلاقة الجنسية بين الأزواج كجزء أساسي من الحياة عموما ومن الحياة الزوجية خصوصا، بما تستحق من الاهتمام والعناية بغية نشر الوعي الجنسي والثقافة الجنسية أو التربية الأسرية، والتي لا تقع في باب الحرام والحلال بل في باب ما ينفع الأزواج ويحقق مصلحتهم ولدينا في القرآن والسنة نماذج شواهد كثيرة تبين كيف عالج القرآن الكريم كثيرًا من القضايا التي لها علاقة بالأعضاء التناسلية أو بالمتعة الجنسية، فقدم بذلك للمؤمنين ثقافة جنسية رصينة، وقد ورد في السنة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "كان النبي–ص-أشد حياء من العذراء في خدرها"، رواه الشيخان. ولم يمنع هذا الحياء الجم-بل البالغ أقصى درجات الكمال-رسول الله-ص-من أن يعلم الناس أمور الجنس ويستمع إلى أسئلتهم وشكاواهم المتعلقة بالجنس في سماحة ويسر، حتى وإن كانت بعض تلك الأسئلة والشكاوي صارخة التعبير. وأنقل هنا قولا للشيخ يوسف القرضاوي الذي يُضرب به المثال في القرن العشرين وفي الدنيا كلها في الإيمان الراسخ والعلم الواسع والاعتدال، خصصه كله للحديث عن الإسلام والجنس حيث قال:"إن العلاقة الجنسية بين الزوجين أمر له خطره وأثره في الحياة الزوجية، وقد يؤدي عدم الاهتمام بها أو وضعها في غير موضعها إلى تكدير هذه الحياة وإصابتها بالاضطراب والتعاسة، وقد يفضي تراكم الأخطاء فيها إلى تدمير الحياة الزوجية والإتيان عليها من القواعد، وربما يظن بعض الناس أن الدين أهمل هذه الناحية برغم أهميته، وربما توهم آخرون أن الدين أسمى وأطهر من أن يتدخل في هذه الناحية بالتربية والتوجيه أو بالتشريع والتنظيم بناء على نظرة بعض الأديان إلى الجنس على أنه "قذارة وهبوط حيواني". والواقع أن الإسلام لم يغفل هذا الجانب الحساس من حياة الإنسان وحياة الأسرة وكان له في ذلك أوامره ونواهيه سواء منها ما كان له طبيعة الوصايا الأخلاقية، أم كان له طبيعة القوانين الإلزامية. فهل سينصرف مجهود العلماء إلي تعليم الناس ما ينفعهم بدل الوصايه عليهم فقط؟؟؟..