إن الحديث عن قطاع التربية والتكوين بالمغرب يبقى حديثا ذو شجون يحبل بالعديد من المتناقضات والتحديات الفار قة، كما يجد كل متأهب يدلف لخوض غمار السجال في حيثيات تفاصيله الشاملة نفسه أمام مأزق حقيقي يصعب الانفلات من وطأة إساره المتخم بشتى أشكال التجريبية السياسية والتقنوقراطية المتعاقبة ، مما من شانه أن لا يفضي قط إلى تمكين الدارس المهتم الخروج بتصور استراتيجي منسجم ومتناغم في الموضوع، ولعل مرد ذلك بالأساس ينتهي إلى تضافر عوامل اجتماعية وثقافية متنافرة شكلت سندا مرجعيا لطبيعة السياسة التعليمية المتبعة بصدد هذا الموضوع في بلادنا . 1 – جذور المسألة التعليمية بالمغرب : والمتأمل اللبيب في مسار وتاريخ التربية بالمغرب أول ما يلفت انتباهه الحيرة التي انتابت النخبة الحاكمة بعد استقلال المغرب، فقد وجدت نفسها أمام ضغط شعبي جارف يفرض نوعا من إجبارية التعليم، وبطبيعة الحال لم يكن ليغيب عن ذهن الطبقة الحاكمة الدلالات السياسية والأبعاد الطبقية والاجتماعية لهذه الظاهرة، مما جعلها تلجأ إلى البحث بسرعة عن حلول لهذا المشكل، فكانت النتيجة تقديم حلول توفيقية وسطى، سميت فيما بعد بالاختيارات الأساسية لسياستنا التعليمية والمعبر عنها ب " المبادئ الأربعة " : ( التعميم/ التوحيد / التعريب / مغربة الأطر ). بيد أن هذه المبادئ الأربعة يصعب وهي منفصلة أن تصلح لكي تكون أساسا وقاعدة صلبة لسياسة تعليمية جديدة، لسبب بسيط لأن هذه المبادئ ليست في حقيقة الأمر مبادئا ولا أسسا أو اختيارات جديدة، وإنما هي مجرد حلول توفيقية وسطى صيغت مباشرة بعد استقلال المغرب سنة 1957 من طرف لجنة ملكية مختصة تبصم مكوناتها رؤى وتصورات متباينة، وتأكيدا لهذا الثابت نورد الحدث التاريخي المتجسد في عقد مناظرة " إيفران " بأمر من الملك الراحل الحسن الثاني الذي ألقى خطابا متميزا في المناظرة طرح فيه طبيعة العلاقة التي يجب أن تقوم بين المبادئ الوطنية الأربعة المحددة للسياسة التعليمية في المغرب، فلاحظ وعلى ضوء ما سلف من التجارب أن هذه المبادئ كانت شعارات وطنية أنتجت مفعولا، غير أن الجمع بينها أبطل مفاعيلها فكانت النتائج سلبية، ومن هنا يقول الملك الراحل وجب إعادة النظر في علاقات هذه المبادئ بعضها ببعض، وهو يرى أن التجربة أصبحت تفرض اتباع المسار التالي: المغربة أولا ثم بعد إتمامها يبدأ التعريب وبعد إتمامه يأتي التعميم، وفي نهاية المسار سيتخذ التوحيد معناه الحقيقي الذي سيمكن المغاربة من دمج حضارتهم في التقدم الذي يطبع القرن العشرين المنصرم . ولذلك فقد كان من الطبيعي أن تنتهي المناظرة دون أن تتوصل إلى استخلاص أية قرارات، ومهما يكن الأمر وعلى الرغم من كثرة الاختلالات والنواقص المسجلة في ميدان التربية، فإن المدرسة المغربية خلال فترتي الستينيات والسبعينيات وإلى حدود النصف الثاني من عقد الثمانينيات لم تكن وسيلة لإعادة الإنتاج وفقا للأطروحة السوسيولوجية التي عمل "بيير بورديو" على تحويلها من النظرية الماركسية إلى الحقل التربوي والتعليمي، بل على العكس من ذلك نجد أن أبناء الفقراء والطبقات الاجتماعية الضعيفة قد استطاعوا بواسطة المدرسة أن ينجحوا في الارتقاء إلى أعلى المراتب والمناصب الاجتماعية، لأن الدولة كان لديها ما يكفي من الإمكانيات لتوفير مجانية التعليم لأغلب الفئات الشعبية التي لجأت إلى تعزيز تعليمها بمنح تشجيعية داعمة قصد الإقبال على استكمال مسارها الدراسي . كما أن الكشف عن جذور الأزمة المركبة للمسألة التعليمية بالمغرب التي نقاسي اليوم من وطأتها الحادة، يقتضي منا الوقوف بنوع من التمعن عند المخططات الوطنية الخماسية والثلاثية التي تناولت المعضلة التعليمة من خلال تجددها وتعاقبها انطلاقا من الستينيات إلى غاية 1992 أملا في فهم طبيعة الإشكال الذي يمكنه أن يفتح لنا مستقبلا منادح وسوانح تضئ لنا فسحة من الأمل، بقدر ما يمكنه أن يشرع أبوابه إزاء أخطار محدقة، بناء على إفادة من مقولة الدانماركي جلين هولندرن : " كلما كبرت الأخطار، كلما عظم ما من شأنها أن ينقذنا "، وهكذا نجد أن هذه المخططات لم تأت بشئ جديد، باستثناء المخطط الخماسي الأول (1960– 1965) الذي دشن في بداية الستينيات انطلاقة حقيقية في الجانب المتعلق بمسار التعليم في المغرب، فقد نظر المخطط إلى قضية التعليم من زاويتين : زاوية عامة حيث ربط التعليم بالتنمية الشاملة الصناعية والفلاحية والثقافية والاجتماعية، وزاوية خاصة اعتبر فيها التعليم بمثابة مشكل وطني يحمل معه تراكمات الأزمنة الماضية، التي تجعل من حق مختلف القوى الحية في البلاد الارتكان نحو مناقشته، ومنذ ذلك الوقت أصبح هذا التقليد ساري المفعول بله مستحكما في بنيات الدولة والمجتمع وليس أكثر دلالة على ذلك من نموذج الميثاق الوطني للتربية والتكوين . 2 – محاولة في تشخيص أزمة المسألة التربوية بالمغرب : إن وظيفة وزارة التربية الوطنية لا يمكن حصرها في مجرد طلاء النوافذ وصباغة الجدران، وتوفير البنية التحتية والمؤسساتية بشكل عام، بقدر ما يفرض عليها واقع الأمر امتلاك رؤية استراتيجية فعالة ومنظورا مستقبليا متقدما ذو أمد بعيد يحمل معه ما يكفي من مواصفات الحكامة الجيدة، وبموازاة ذلك لم تتوان الوزارة المعنية في ابتكار كاريكولوم يتضمن تخطيطا للأفعال، وفي نفس الوقت اعتماد برامج ومناهج جلها مستورد ومنقول من الخارج، إذ لا ضير في ذلك فالتربية لا يمكن اختزالها في ما هومحلي وممعن في البناء الهوياتي، بل لا مندوحة من النزوع والتلاقح الكوني الذي ينهل من السدى الفكري لثقافة الحق في العيش المشترك والمصير المشترك ، شريطة عدم التفريط في مكونات الشخصية المغربية، والوضع نصب الأعين دوما وأبدا حصيلة التراكمات والتجارب الوطنية المحققة في هذا المجال . لذلك لا مشاحة في أن تشكل قضية التربية والتكوين المحور الأساسي للخطاب الملكي بمناسبة الذكرى الستون لثورة الملك والشعب بتاريخ 20 غشت سنة 2013 ، حيث قدم جلالة الملك تشخيصا لوضعية القطاع، ونوه بالمجهودات التي قامت بها الحكومات السابقة، ثم نبه إلى ضرورة العمل من أجل تجاوز الوضع الراهن للتعليم الذي " أصبح أكثر سوءا، مقارنة بما كان عليه الوضع قبل أزيد من عشرين سنة"، وتأكيدا لضمان نجاح أي إصلاح تربوي، فقد دعا الخطاب نفسه إلى ضرورة فصل الزمن التربوي عن الزمن السياسي، كما شدد الخطاب الملكي على أنه " لا ينبغي إقحام القطاع التربوي في الإطار السياسي المحض، ولا أن يخضع تدبيره للمزايدات أو الصراعات السياسوية، بل يجب وضعه في إطاره الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، غايته تكوين وتأهيل الموارد البشرية، للاندماج في دينامية التنمية، وذلك من خلال اعتماد نظام تربوي ناجع " . 3 – المدخل القيمي كآلية للإصلاح التربوي بالمغرب : وعليه فقد كان من أحد المداخل الهامة التي تم رصدها بالخصوص في سياق إضفاء نفس جديد على منظومة برامج ومناهج التربية في بلادنا، العمل على إدراج بعد مفاهيمي يضمر في ثناياه معالم تربوية وحقوقية تتماهى مع مايسمى ب " مفاهيم- قيم " التي وسع مجال مداها ليشمل القيم الوطنية والعقدية والحضارية وقيم حقوق الإنسان ومبادئها الكونية، علما أن مبحث الأكسيولوجيا حديث الظهور جدا حتى على المستوى الدولي، حيث بدأت أولى المقالات تصدر في هذا الموضوع سنة 1912 على يد عالم الاجتماع الأمريكي تشارلز كولي (1864 – 1929 ) الذي دافع في أطروحاته الفكرية عن الوحدة الأخلاقية للمجتمع، وقد كان من الأهمية بمكان أن يتم استدماج هذا المبدأ القيمي الجديد بين دفتي مناهجنا التربوية التي عرفت تنقية دقيقة من جميع المفاهيم التي تشكل خطابا ثقافيا مناهضا في جوهره للمنظومة التربوية والحقوقية المثلى . لكن إلى أي حد يمكننا أن نقيس أثرا حقيقيا ومؤشرات ملموسة لتوجه تربوي من هذا القبيل، بحيث تتبدى نتائجه بشكل واضح لا مواربة فيه على أرض الواقع، بين أحضان مؤسساتنا التربوية، وفي التمظهرات المسلكية لناشئتنا من الأطفال، وفي وجدان وضمائر أطرنا التربوية والإدارية بمختلف مراكزها ودرجاتها التي تتبوؤها في هرم ومواقع المسؤولية داخل الدولة، لأن هذه الصنافة الشبكية التي ترتكز على مفهوم ومبادئ " القيم " تحيلنا إلى ضرورة توفر تربة ملائمة لاحتضانها، تتميز بحب الوطن والخلق القويم والنزاهة والتجرد ونكران الذات، وما يستتبع ذلك من خصال السلوك المدني والمواطنة الحقة التي تربأ عن الأنانيات الضيقة وتنبذ العنف والتمييز . ويمكن لنا أن نستأنس في هذا السياق بوجهة نظر الدكتور طه حسين في كتابه القيم " مستقبل الثقافة في مصر " الذي ألفه خلال عقد الثلاثينيات من القرن العشرين بعد إعلان بريطانيا انعتاق دولة مصر من نير الاستعمار الأجنبي، وكانت الأمة المصرية في حاجة إلى ملاحظات ونصائح ابنها البار هذا، فكتب يقول في معمعان كتابه الذي لا يزال يحضى براهنية كبرى " وقد حاولت أمم قبلنا أن تتبين أسباب فساد التعليم فوجدت أن مرجع الفساد هو الهيئة المركزية المشرفة على التعليم، لأنها هي المسؤولة عن الخطط الدراسية، وعن المناهج وعن النظام المدرسي .. " . قد نجد في حكم القيمة هذا، أو في هذه الرؤية ما ينبئنا بعمومية التقييم أو عدم التجاوب مع سياقات ومفاهيم حاضرنا، ولكنه يبقى صادقا في تمثله وصاحب غيرة كبرى على بلده، وليس ببعيد عنه يقف الدكتور حسن أوريد في نفس المنحى تقريبا، وذلك من خلال مؤلفه الجديد " من أجل ثورة ثقافية بالمغرب " خاصة وأن صدور كتابه هذا جاء متساوقا مع الفترة الزمنية التي واكبت هدير الجلبة الكبرى التي أثارها الإعلام الوطني بالمغرب حول مخطط البرنامج الاستعجالي، إذ توقف أستاذ العلوم السياسية عند هذا المنعطف المثير للجدل، ليخط بقلمه الرصين " ألم ينطو البرنامج الاستعجالي في التعليم على فضائح، وقد اعتقد أصحابه أن التربية هي عرض للجوانب المادية منه، وليس للمحتوى ؟ فأين البرنامج وهل من تقييم فمحاسبة ؟ " . 4 – الطموح المشروع طريقنا نحو النجح المأمول : صحيح فالعبرة ليست بكثرة المناهج والبرامج المعدة لفائدة المدرسة العامة والخاصة بالمغراب، بل إن محتد قيمة القيم وجوهره المكين يتلخص بالأساس في مدى تنفيذها، وبالتالي فلن نجازف بالمطلق لنرتقي بمعضلة قطاع التعليم إلى ما هو بنيوي وذلك استنادا إلى طبيعة الحيثيات ذات الطابع الوطني المذكورة في بداية هذا المقال، وإنما يتعلق الأمر أساسا باختلالات على مستوى التدبير، في المقابل وكما وضحت بعض الأبحاث الفكرية الجديرة بالاهتمام فإن التعليم الحديث بالمغرب لم ينشأ بفعل تطور داخلي لمجتمعنا المغربي، فالمدارس الحديثة ليست تطورا ذاتيا للجامع والمسجد وللقرويين وفروعها، بل إن آليات التعليم الحديث غرست مع امتداد وتغلغل الحمايتين الفرنسية والإسبانية بالمغرب . ورغم كل الإكراهات فنحن لن نعدم ذلك المشروع المجتمعي المتوافق حوله والمتمثل بالخصوص في تراثنا التربوي العريق واجتهاداتنا التفاعلية والتأصيلية في الحاضر، والسعي نحو الاقتداء ببعض النماذج الكونية المعاصرة من قبيل خطة الإصلاح التي نفذتها دولة ماليزيا في أواخر الخمسينيات من القرن المنصرم فكانت نتائجها بالفعل جد باهرة، وكذلك تجارب دول آسيا الشرقية التي حققت بفضل التعليمين الابتدائي والإعدادي أرقاما قياسية في الجانب المتعلق بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية، ولعمري فإننا سنظل في هذا المجال مدينين على الدوام لقوام ذلك المنهاج الثلاثي الراقي المتأسس على كل من : المنهاج التكنولوجي، والمنهاج الإنساني، والمنهاج الأخلاقي، نظرا لكونه عماد تقدمنا المنشود .