في الثامن عشر من الشهر الجاري (دجنبر) خلدت الإنسانية اليوم العالمي للغة العربية. ويأتي الاحتفاء بهذا اليوم تطبيقا لإعلان الأممالمتحدة اعتبار اليوم جزءا من مبادرة تسعى إلى الاحتفال بالتعدد اللغوي والتنوع الثقافي وترويج المساواة في استخدام اللغات الست الرسمية في الأممالمتحدة، إضافة إلى القيمة الاعتبارية لهذه اللغات في التداول السياسي والإعلامي. وتُبرز قراءة الإعلان المنشور في وثائق الأممالمتحدة الشاغل الرئيس الثاوي وراء الاحتفاء باللغات الست الرسمية في المنظمة الذي يكمن في محاربة الهيمنة اللغوية ومنطق القوة اللسانية، أو لغة الإمبراطورية بتعبير رواد الدراسات بعد الكولونيالية، الذي يلغي الوجود اللغوي للكيانات التي لا تتمتع بنفوذ سياسي قوي. إذ يرام من عناوين التعدد والتسامح والتشارك الواردة في الخطاب الأممي مشاركة جميع الدول والكيانات المختلفة بفعالية في سير المنظمة وتدبير أفضل للقضايا الدولية المختلفة. وهذا متاح حين تعطى للغات نفس القيمة التداولية والاعتبارية داخليا باستعمالها في التواصل بين الدول الأعضاء وكل الجهات الفاعلة المشاركة في عمل الأممالمتحدة وخارجيا من خلال الخطاب الموجه إلى الجمهور على نطاق أوسع. ويجرنا الاحتفاء باليوم العالمي للغة العربية إلى إبداء الملاحظات التالية: أولى الملاحظات أن الاحتفاء في حد ذاته اعتراف بعالمية العربية لغة رسمية لأرقى منبر سياسي وثقافي في العالم. إذ تحظى لغة الضاد بمكانة مرموقة بين لغات العالم فهي اللغة الرسمية للعديد من الدول، ولغة الدين لكل مسلمي العالم، وثالث لغات العالم من حيث سعة انتشارها وسعة مناطقها، وأكثر اللغات انتشارا في عالم النت حسب تقرير المعرفة2009. كل هذه المقومات منحتها خاصيتين متلازمتين: التعبير عن العمق الحضاري والهوياتي للانتماء القومي المشترك بين عناصر الأمة، وآلية ولوج مجتمع المعرفة كما تصرح بذلك تقارير التنمية البشرية المختلفة الصادرة عن المنظمات الإقليمية والدولية. عزة العربية من عزة أمتها. لقد غدت العربية لغة رسمية في لائحة لغات الأممالمتحدة إبان قوة النظام العربي. فمن المعلوم أن قرار ترسيم لغة الضاد صدر بعد نحو شهرين من أهم إنجاز عسكري حققته الجيوش العربية ضد الاحتلال الصهيوني في أكتوبر 1973 باعتماد اللغة العربية الرسمية في الأممالمتحدة في 18 ديسمبر من نفس السنة. ويومها ترددت في الساحة الدولية مقولة تبشر أو تتصور أن العرب يمكن أن يشكلوا القوة السادسة في عالم ذلك الزمان. وهكذا يمكن القول أن قوة اللغة بقوة الناطقين بها، وهوانها بهوانهم. لذا سيتذكر العالم الدورة الخامسة عشرة للجمعية العامة للأمم المتحدة لعام 1960 والتي سميت "دورة الرؤساء" التي شهدت أول خطاب سياسي باللغة العربية يلقى من فوق منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة على لسان عبد الناصر رئيس الجمهورية العربية المتحدة ممثلا لحركة عدم الانحياز. إن اختيار اليوم للاحتفاء بالعربية في الأممالمتحدة كان عفويا عكس التعامل معه اللغات الأخرى. فيوم اللغة الانجليزية 23 أبريل مرتبط بشكسبير، ويوم الروسية 6 يونيو بشاعرهم الكبير بوشكن، والصينية بتاريخ وفاة سانغجيه، والفرنسية 20 مارس بيوم الفرانكفونية الدولي، والإسبانية يوم 12 أكتوبر بيوم الثقافة الدولي. في حين لم يؤطر الاحتفال بالعربية بأي حدث تاريخي أو ثقافي يؤرخ لحضارتها ويرسم معالم وجودها، وإنما كان الهدف سياسيا بامتياز، يتمثل في التأريخ لترسيمها في المنظمة الأممية. وكأن الرسالة الكامنة تتلخص في نقل العربية من الإطار "الدولتي" الخاص إلى الإطار العالمي. إذا كانت استفادة العالم بوجود العربية في منابر التداول الرسمي كبيرة، فإن لغة الضاد قد استفادت الشيء الكثير. فقد استطاعت تحيين مصطلحاتها وتعبيراتها وفق حاجة المنظمة وفروعها القطاعية، من خلال دائرتي الترجمة الشفوية والتحريرية التي غدت مرجعا اجتهاديا معتبرا في المعجمية العربية وإطارا لجمع خيرة مترجمي العالم العربي. وهكذا، استطاعت العربية أن تصبح لغة عالمية يحتفى بها ويراهن عليها في التداول الرسمي أمميا. لكن في المقابل تتصاعد الحملة ضد تموقعاتها الجديدة، حتى وجدنا من يطالب من أبناء جلدتنا بإلغاء وجودها ضمن اللغات العالمية الرسمية في الأممالمتحدة لأسباب منها ما هو مالي ومنها ما هو تداولي أي عدم استعمال ممثلي الدول العربية للغة العربية في الاممالمتحدة في خطبهم وعدم وجود مترجمين عرب أكفاء يجيدون العربية. وهي تبريرات واهية ومختلقة للتعبير عن أزمة أصحاب القرار في التعامل مع الإشكال اللغوي والعمق الهوياتي. لكن الاحتفاء هذه السنة لم يكن عاديا، فقد صادف عودة حقيقية للعربية من خلال ملمحين: ثورات الربيع العربي التي كانت إعلانا عن عودة الروح إلى الجسم العربي بمختلف مكوناته الإثنية وأطيافه الاجتماعية. لذا لم يفاجأ العالم بانتشار العدوى الثورية من قطر عربي إلى آخر، ولم تستطع الالتفافات المختلفة التأثير على مسار الأحداث، لأن الهم مشترك والمصير واحد. فالربيع الذي بدأ من المغرب العربي متجها نحو المشرق العربي ليس عبثيا في اختياراته ولا في وجهته بل هو تعبير صادق عن المشترك الجمعي بين أبناء الأمة الواحدة تتجلى بعض ملامحه في الإحساس الوجداني المعبر عن الانتماء الواحد أو الترابط الشعاراتي بين ثوار الساحات. أو ما سماه حسن حنفي بالتأسيس للوحدة الثورية التي عبر عنها سابقا بأشكال مختلفة مع حركات التحرر القومي. وفي هذا الخضم ستظل العربية أحد أهم عناوين المشترك الجمعي، وعودتها مرهونة بعودة القوة العربية. مظهر آخر لعودة العربية هو انتصار القطب الهوياتي في الانتخابات الديمقراطية التي شهدتها بعض دول الربيع العربي. ابتداء بتونس ومرورا بالمغرب والمحطة الحالية مصر تتكرر التجارب وتتماثل في صورة واحدة: حين يمنح للشعب هامشا للاختيار يختار هويته وانتماءه العربي. لذا فالرسالة التي قدمتها الشعوب لأصحاب القرار الجدد هي أن زمن الانتماءات البديلة قد ولى وأن الاختيار هوياتي حيث العربية جوهر الانتماء. وبتعبير الرئيس التونسي فإن غلبة "التيارات الثورية الديمقراطية التي تريد التجذر في الهوية وإطلاق الحريات" يتيح فتح ملف واقع العربية بكل جرأة وحسم باعتباره "واحدا من أهم ملفات مرحلة التأسيس للعرب الجدد بعد أن ننفض عنا آخر غبار وعار الاستبداد الذي جعل منا أمة عاقرا". ستظل العربية عنوان الاستقلال الحقيقي والثورة الحقيقية لشعوب المنطقة. بل هي عنوان التغيير الديمقراطي المنشود الذي يجعل احتفاء العالم بالعربية له وقعا ومعنى في وطننا. فكلما حضرت لغة الضاد في سياستنا وتقوت في برامجنا التربوية والإعلامية والإدارية كانت دليلا على انتقالنا نحو الدمقرطة والحرية. لأن الشعب حينما يُخَير يختار حريته....وهويته.