إذا كانت الجغرافيا قد جعلتها من أجمل المناطق الطبيعية بالعالم، بل هناك من وصفها بجنة الله في الأرض، فإن التاريخ قسمها وأهلها بين بلدين يفصل بينهما سياج عال من التعقيدات السياسية والدينية، لا يعرف لها تاريخ محدد في النشأة، فذكرها لم يخلوا منه مصدر تاريخي من رحلة حانون وإلياذة هوميروس واحتلال الرومان إلى أن حاصرتها بوارج الاسبان إبان أزمة جزيرة “ليلى” مرورا بالعصر الوسيط حيث عرفت ازدهارا لا مثيل له، تقع على سفح جبل اسطوري اتخده هرقل عمادا له وسلكه طارق بن زياد ممرا للأندلس، لا تذكر إلا مقترنة بمدينة سبتة التي لا تبعد عنها إلا بسياج أقامته اسبانيا بعيد أزمة جزيرة ليلى أو “تورة” كما تسمى محليا، سكانها مهنتهم سبر أغوار المضيق إما بحثا عن السمك أو حملا لكل أنواع الممنوعات، تغنى بها الشعراء قديما، واتخذها الأمراء والمترفون من سبتة والاندلس متنزها واستراحة لهم، يسميها أهل قبيلة أنجرة “بليونش” بينما ينطق اسمها الاسبان الذين استعمروا المنطقة بعد البرتغاليين قبل أكثر من خمسمأئة عام “بنيونيس” وترجمتها إلى العربية تعني “قمم الجبال” فيما سماها الرومان قبل ذلك ب”اكسيليسيا”. تقع قرية “بليونش” الساحلية بأقصى شمال المغرب، وهي ملاصقة للسياج الفاصل مع سبتةالمحتلة من الجهة الغربية، لها مدخل وحيد يتفرع عن الطريق الرئيسية الرابطة بين مدينتي الفنيدق والقصر الصغير، تحيط بها الغابات إلا من جهة البحر حيث تطل على مضيق جبل طارق حيث تبدو من جهة الشمال الضفة الايبيرية بشكل واضح، تتقسم أحيائها إلى عدد من التجمعات السكانية التي يطلق عليها أحياء القرية وهي “التراب الأزرق” و”الحومة الكحلة” و”الكوش” و”الغروس” و”الجون” و”القصارين” و”الديوانة” في الجانب المغربي وأحياء “براكون” و”راس كبرييا” و”كورطا دييوس” في الجهة المحتلة من طرف اسبانيا، وكلها تقع على سفح جبل موسى، توجد بها نقطة حدودية كانت عصبا لاقتصادها ومصدرا رئيسيا لدخل سكانها الذين كانوا يعملون في التجارة والتهريب بين مدينة سبتةالمحتلة والمناطق المحررة من المغرب، وذلك قبل إغلاق النقطة الحدودية بعيد أزمة جزيرة “ليلى”. بليونش والتاريخ المشرق يرتبط تاريخ هذه المدينة ارتباطاً وثيقاً بتاريخ سبتة حيث شكلت خلال القرن الثاني عشر الميلادي متنزهاً لسكانها واستراحة لأمرائها ومترفيها وعن ذلك يذكر المؤرخون بإعجاب كبير غنى القرية ووفرة مياهها وخيراتها وجمال بساتينها وحدائقها إلى درجة أنها كانت تعتبر مورداً وخزاناً رئيسيا لسبتة، وهو الأمر الذي جعلها محط أطماع كل من غزى سبتة، من البرتغاليين والاسبان بعدهم، وازدهرت “بليونش” في العصر المريني فكانت ميناء يربط المغرب بالأندلس، حيث أقام بها عدد كبير من أعيان المغرب والأندلس على السواء، كأمراء العزفيين حكام سبتة، والأشراف القادمين من صقلية، كما أقام بها الغني بالله ملك غرناطة مع وزيره لسان الدين بن الخطيب وغيرهم، ويغلب على قرية “بليونش” الطابع المدني، حيث تضم من الآثار بقايا متعددة لمساكن وحمامات ومساجد قديمة تنتظم في شكل مجموعات عمرانية، إضافة إلى بنيات ذات طابع عسكري دفاعي، كالأبراج المدعّمة بشرفة ومرقب، وقد كشفت التنقيبات الأثرية ما بين سنة 1972م وسنة 1978م، عن بنية فريدة من نوعها في الغرب الإسلامي، ويتعلق الأمر بالمونيا المرينية، وهي تجمعات سكنية مخصصة للنزهة والاستراحة كانت منتشرة بالأندلس خلال العصور الوسطى، وعن تقنيات متطورة في ميدان التهيئة الفلاحية والاستغلال المائي في الأراضي المجاورة، وخاصة السفوح الشمالية الشرقية لجبل موسى بالقرب من مركز القرية. وتعتبر قرية “بليونش” قرية فريدة من نوعها في العالم حيث أنها مقسمة بين دولتين وتمتد مساكن أهلها إلى داخل المنطقة المحتلة من سبتة، لم يكن اسمها متداولا كثيرا بين الناس، قبل أحداث جريرة “ليلى” أو “تورة”، حيث أصبحت هذه القرية المنسية على ثخوم إحدى أقدم المستعمرات في العالم محط اهتمام مختلف وسائل الاعلام الدولية وكذا محطة لمئات الزوار من الوفود الشعبية والمدنية التي كانت تتظاهر قبالة الجزيرة التي كادة تتسبب في مواجهة عسكرية بين المغرب واسبانيا. “بليونش” قرية بجنسيتين كان سكان قرية “بليونش” غير معنيين بالوضع السياسي التي توجد عليه قريتهم الصغيرة التي يوجد جزء منها تحت نفوذ الاستعمار الاسباني فيما يوجد الجزء الثاني في المناطق المغربية المحررة، وهي وضعية شاذة ليس لها مثيل في العالم إلا في القرى الفلسطينية التي يفصلها الجدار العازل، وفي قرية “الغجر” اللبنانية التي فصلها الخط الازرق. وارتبطت “بليونش” بمدينة سبتةالمحتلة، حيث كان الناس يعتبرونها منفذهم الوحيد إلى العالم المتحضر، حيث كانت الطريق الوحيدة نحو مدينة الفنيدق غير معبدة ووعرة الاجتياز خاصة في فصل الشتاء، فأقرب المستشفيات موجودة بسبتة كما أن الطريق الأسهل والأقرب للتسوق والتبضع والسياحة له مخرج واحد يمر بالضرورة من نقطة الحدود الصغيرة الفاصلة بين طرفي القرية، والتي لم يكن الناس بها يعيرونها اهتمام، خاصة أنها جزء من حياتهم وهم دائموا التنقل خلالها دون مشاكل بل دون الاضطرار لحمل جواز السفر في أحيان كثيرة نظرا للعلاقات الانسانية والتعامل اليومي والمعرفة الموجودة بين حراس النقطة الحدودية سواء المغاربة أو الاسبان مع سكان القرية، وكذلك لامتداد القرية ومساكن العائلات الواحدة الى داخل المناطق المحتلة، وسكان القرية كان أغلبهم يعمل في التجارة وتهريب مختلف أنواع السلع من سبتة نحو كل مناطق المغرب كما أن القرية كانت أشبه بسوق كبير نظرا لتوافد التجار من مختلف مناطق المغرب للتبضع بها، هذا فيما كان يشتغل جزء أخر من سكان القرية بالصيد التقليدي، وكل ذلك إضافة إلى قرب الناس هناك من الحضارة الاوروبية التي تطبع الحياة بسبتةالمحتلة، جعل من سكان “بليونش” يعيشون في مستوى اجتماعي جيد، كما أن عددا كبيرا من أبناء القرية يحملون الجنسيتين المغربية والاسبانية. “ليلى” الجزيرة التي غيرت حياة سكان “بليونش” لم يكن صيف عام 2002 كسابقيه بالنسبة لسكان “بليونش” الذين انتبهوا فجر 11 يوليوز 2002 إلى الوجه الآخر لإسبانيا التي كشرت عن أنيابها وأظهرت عداءا غير مسبوق تجاههم، بل وحاصرت قريتهم وجزيرة “تورة”، التي لا تبعد عن ساحلهم إلا ببضع أمتار والتي كانوا يتخذونها مرعى لأغنامهم نظرا لوفرة العشب الجيد بها، ببوارجها العسكرية، كما حلقت فوق رؤوسهم مروحياتها الحربية معلنة عن بداية صفحة جديدة من العلاقة ومن المعانات. يحكي السيد “مفضل الحماني” عن ذلك اليوم قائلا “تفاجئنا منذ فجر ذلك اليوم بتلك الحشود الكبيرة من الجنود الاسبان الذين كانوا منتشرين في الجانب الآخر من الحدود وكذلك عدد الزوارق العسكرية التي كانت تجوب المياه قبالة “تورة” كما أن هدير المروحيات العسكرية لم يتوقف للحظة، لم نستسغ الأمر في البداية.. لكن بعد تواتر الأنباء ووضوح ما حدث عرفنا حينها أننا كنا في الخط الأول للمواجهة مع عدو اعتبرناه دائما جارنا في حين كان هو ينظر لنا دائما أننا أعدائه” وكانت قرية “بليونش” في تلك الايام وبحكم أنها أقرب نقطة لجزيرة “ليلى” أو “تورة” كما تسمى محليا، محجا لمئات المواطنين والوفود الشعبية والجمعوية التي تقاطرت للاحتجاج أمام الجزيرة بعدما قامت القوات العسكرية الاسبانية بغزوها واعتقال بعض الجنود المغاربة الذين كانوا فوقها، حيث شكل هذا الحدث مفرقا تاريخيا في حياة أهل القرية، الذين أغلقت في وجههم منذ ذلك التاريخ الحدود مما أدى إلى كساد تجارتهم وفصلوا عن باقي عائلاتهم الموجودة بالجانب المحتل من القرية والتي يفصل جزئيها سياج كبير، ولم يعد أمامهم إلا مضيق جبل طارق وخلفهم طريق وحيدة تقودهم إلى باقي المغرب. يضيف السيد “مفضل الحماني” قائلا “لم نكن نعلم ونحن مندفعون نرمي الحجارة نحو المضيق إلى جانب كل الذين قصدوا قريتنا للاحتجاج على ما فعله الاسبان، نعلم أن ذلك اليوم سيكون آخر عهدنا بالتجارة من سبتة، ليس ذلك فقط بل حرمنا من التواصل العادي مع أقاربنا في أحياء بليونش الموجودة داخل المنطقة المحتلة في “براكون” و”راس كبرييا” و”كورطا دييوس”، عندما كانت الطريق سالكة كنا نتواصل في الأفراح والأعياد وبشكل يومي أما الآن الوضع مختلف ومعقد، فإذا أردنا صلة الرحم علينا أن نقطع عشرات الكيلومترات لنصافح خال أو عمة كنت أمر عليها كل صباح وبيتها لا يبعد عن بيتي إلا بضعة أمتار”. ومنذ اندلاع النزاع بين المغرب واسبانيا على جزيرة “ليلى” اتخدت السلطات المغربية قرارا بإغلاق النقطة الحدودية لبليونش، الشيء الذي جعل سكان القرية يجدون أنفسهم في وضع جديد، حيث يضطرون إلى التوجه نحو معبر باب سبتة الذي يبعد عن “بليونش” بحوالي 13 كيلومتر إن هم أرادوا دخول المدينةالمحتلة وبنفس المسافة تقريبا إن هم أرادوا الوصول إلى الجزء المحتل من قريتهم، كما انتشرت بين شباب القرية البطالة بشكل كبير خاصة أن “بليونش” ليست لديها أي موارد أو منافذ للعمل إلا في اتجاه مدينة سبتةالمحتلة. شاطئ بليونش محاصر بالأسلاك الشائكة وعن معانات الشباب مع البطالة يقول “عمر م” : “منذ إغلاق الحدود والآفاق في العيش الكريم مغلقة في وجهنا، أغلب الشباب بالقرية لا يعملون حاليا، نحن في حالة ترقب لأن موردنا الان أصبح مرتبط بمرور المخدرات من منطقتنا، حيث يفرض على كل من يود ضمان سرية عملية نقل الحشيش عبر المضيق أن يدفع إتاوات للشباب تتراوح ما بين 100 درهم و300 درهم للفرد حسب عدد الموجودين” وعن هذا الأمر علمت “شمال بوست” أن المنطقة الممتدة من بليونش إلى القصر الصغير لا زالت تعرف عمليات بين الحين والآخر لنقل المخدرات في اتجاه اوروبا، حيث يقوم المهربون بتحميلها على مثن زوارق سريعة في نقط محددة وهي العملية التي يفرض فيها بالضرورة شراء صمت شباب تلك المنطقة عن طريق دفع مبلغ مالي لكل من يحضر العملية وهذا الأمر أصبح عرفا بين سكان الشريط الساحلي الشمالي للمغرب الممتد من بليونش إلى القصر الصغير. بليونش العطشى التي تسقي سبتة عرفت دائما “بليونش” بوفرة المياه العذبة بها والتي تتدفق من جبل موسى طول السنة وبكميات كبيرة، وقد اعتمدت عليها دائما مدينة سبتة في توفير مياهها، كما أن وفرة الماء بها جعلها دائما محط أطماع كل من يحتل سبتة، وإلى يومنا هذا لا تزال سبتة تعتمد على “بليونش” في توفير نسبة كبيرة من احتياجها للماء الصالح للشرب، حيث يوجد بقرية “بليونش” العديد من الخزانات الضخمة التي تزود المدينةالمحتلة بالماء. وتمتلك الخزانات المائية التي تزود المدينةالمحتلة بالماء مجموعة من العائلات ب”بليونش” كعائلة “الشلاف” التي تقع تلك الخزانات فوق أراضيهم، حيث يتوفرون على ظهائر سلطانية منحت لهم بموجبها حق الاستفادة من تعويضات الإسبان الذين يستغلون مياه خزاناتهم، لكن هذا الأمر وبفعل تعدد الخزانات وتوجيه أغلب مياهها نحو الثغر المحتل جعل بعض أحياء القرية تعاني من خصاص شديد وندرة في المياه، حيث يضطرون إلى قطع مسافات طويلة للسقي، كما هو حال “الحومة الكحلة” وعن هذه المعاناة يقول “عبد الصمد الهيشو” : “مع كل صيف تزيد معاناتنا مع نذرة المياه، ومع تعنت السلطات التي لا تتحمل مسؤولياتها في حفر آبار لنا لنروي عطشنا وعطش ماشيتنا، إننا نضطر لقطع مسافات طويلة نحو الاحياء الاخرى من أجل الحصول على الماء” غزارة المياه ووفرتها بقرية “بليونش” لا تعني بالضرورة توزيعا عادلا لها بشكل يضمن ري عطش كل سكانها، فمن جهة عدم تحمل المجالس المتعاقبة على الحكم في جماعتها للمسؤولية، ومن جهة أخرى استمرار سلطات سبتة في امتصاص كميات ضخمة من مياه القرية في غياب تام لأي مراقبة من جانب السلطات المغربية، عوامل كلها تجعل عددا كبيرا من أهالي القرية عطشى حتى إشعار آخر.