عبد السلام خلفي 1- عائلة مقاومة أب قاوم الاستعمار الفرنسي؛ دخل السجن من أجل الحرية؛ ماهى الوطن بالحرية والمرأة؛ لما رزق ببنت صاح قائلاً: "إنها الحرية إن شاء الله"؛ غير أن المستعمر لم يعجبه هذا التماهي بين الأنثى والحرية، فأبى أن يُطلق سراحه، وأضاف إلى سجله النضالي زمناً آخر داخل أسوار السجن. لم تكن الأم أقل حباً للوطن من الأب، فقد كانت من نساء هذا الوطن الأبي تخفي المقاومين في بيتها، وتخفي أسلحتهم تحت السرير. 2- طارق ينتفض مثل أبيه في الخامسة عشر، كان طارق يكره التاريخ، لأن "التاريخ –بالنسبة إليه- ليس ما كان ولكن ما أراد الكاتب أن يكون"؛ التاريخ بهذا المفهوم كذب مقنع؛ هذا ما درَّسه له أستاذ التاريخ ذي الجنسية الفلسطينية؛ لقد قال لهم ذات درس: "سكان المغرب هم الكنعانيون"، لم يتمالك طارق من الوقوف في وجهه؛ فانهال عليه "سعادة" المدير "بالشتم والقذف". أحس طارق الصغير بالإهانة؛ أحس أن وضعية الانتماء، حتى وإن كانت كذباً، هي التي ترفع من قيمة الأشخاص؛ فهذا الكذب هو الذي يجعل الإعلامي المغربي، مثلاً، يرفع من قدر فنان يغني بالفرنسية، ويفتح أمامه الأبواب، حتى وإن كان هذا الفنان ما زال يخطو خطواته الأولى في درب الفن؛ وهو نفس الكذب الذي يجعل نفس الإعلامي المغربي يحط من قيمة الفنان الأمازيغي (والمغربي عموماً) حتى وإن كان هذا الفنان قد وصل شأواً عظيماً في درجات الفن؛ ولذلك نرى الأول يتسلق الدرجات تلو الدرجات، وتُفرش الأرضُ تحت قدميه بالورود، في حين يُحتقر الثاني، وتُفرش تحت قدميه الأشواكُ، ويُرد إلى أسفل الدرجات. هكذا سيتجسَّد الكذبُ الرسمي، إذن، في صورة الإعلامي المغربي الذي فقد هويته، واستعار له وجهاً آخر غير وجهه؛ كما سيتجسد أيضاً في صورة مسؤولين كبار غرباء الانتماء، بيدهم السلطة والمال، ويسيرون مؤسسات شعب، تحول بقدرة قادر، إلى شعب كنعاني؛ وأما بالنسبة للحقيقة التي كان يحملها طارق (وما يزال) فلن تجد لها مجسَّماً غير "الشتم والقذف" الذي واجهه بها "سعادة المدير" عندما انتفض ضد الكذب، وغيْر الإنكار والإقصاء عندما لم يجد أمامه، وهو اليافع، غير مسؤولين كبار سرقوا منه لسانه، واستعاروا لهم وجوهاً غير وجوههم، وألسنة غير ألسنتهم، وهوية غير هويتهم. 3- طارق يبدأ رحلته الطويلة في البحث عن وجهه الحقيقي لم يستسلم طارق أبداً، ولذلك كان عليه أن يبدأ من حيث كان يلزم عليه أن يبدأ. لقد خرج يبحث لاستعادة وجهه الحقيقي الذي أخفاه عنه الكبار؛ خرج يبحث عن ذاته بإعادة تنظيمه وتنسيقه بين شذرات أنغام تسربت إليه خفية من مناغاة أمه لما كان صبياً، ومن إيقاعات اللغة التي حكم الكبار عليه أن لا يتعلمها؛ خرج من منزله يبحث عن بعض "أسلاك الفرامل و(بيدونات) مبيدات الحشرات" ليصنع منها آلاته الموسيقية الأولى؛ تلك الآلات التي ستتحول، فيما بعد، إلى لسانه الذي سيعبر به عن انتمائه؛ أخذ معه كل هذه الأدوات والآلات إلى دكان أبيه، وهناك شرع، على مسمع ومرأى من الأب، يعيد بناء هويته الأصلية، فتنبعث أنغاماً طفولية حزينة؛ لا نعلم، بالضبط، في أي شيء كان يفكر فيه الأب وهو يستمع إلى "دندنات" ابنه، ولا نعرف كيف كان شعوره، وهو الخارج من السجن، عن مصير ابنه في مغرب الاستقلال. كل ما نعلمه هو أن طارقاً واصل مساره، وأن عبقريته في المدرسة تفتقت عن آلة موسيقية جديدة مادتها "سطل بلاستيكي" "يمر عبره قنب يعقد على قطعة خشب صغيرة"، ويشد الطرف الثاني "على عصا طويلة". كانت الأنغام تتميز بقوة وعناد أكبر، وكانت كلما انتظمت شذراتها كلما أحس طارق بالاقتراب من هويته العميقة. وسينتبه الأب المقاوم أو سيتأكد أن ابنه موهوب فنياً؛ ربما يكون قد رأى في هذا الابن امتداداً للمشروع الذي بدأه والأم؟ أو ربما يكون قد رأى في "دندناته" والأنغام المنبعثة من بين أنامله استمراراً لمقاومة من نوع آخر؟ ولذلك سيركب مع ابنه مغامرة البحث عن الهوية، تماماً كما ركب مغامرته هو عندما دخل السجن من أجل الوطن؛ وقد كان أول شيء قام به هو أنه اشترى له "للوتارا"؛ وكانت هذه، ربما، هي أول هدية يقدمها الأب لابنه؛ ثم إنه، لما تكسر هذا "اللوتار" في ظروف غامضة، أتاه ببيانو كان قد تخلى عنه أحد الفرنسيين؛ وأخيراً أتاه بمعلم الموسيقى: الحاج المعطي. وتوالت الأيام والطفل طارقٌ ما زال مصمما على ما ابتدأه. فكان كلما كبر كلما كبرت معه أحلام أن يصبح فناناً أو إن شئنا الدقة مقاوماً- فناناً؛ وهكذا سيلتحق بالمعهد الوطني للموسيقى، ثم بدار البريهي ثم باستوديوهات عين الشق بالدار البيضاء، ثم ببرنامج "مواهب" الذي كان يشرف عليه الأستاذ عبد النبي الجيراري في الستينيات. وبدون شك فإن طارقاً، هذا الشاب النحيف الذي كانه، والذي لم يكن يتحدث باللغة الأمازيغية؛ هذا الفتى الذي سيصبح أحد أعمدة مجموعة أوسمان، بل وأحد أكثر المدافعين عن الأمازيغية، سيحس أنه خُدع مرتين: في المرة الأولى: عندما قيل له أنت كنعاني، فانتفض أمام الأستاذ الفلسطيني معلناً انتماءه الأمازيغي؛ فكانت النتيجة "الشتم والسب" من طرف سلطة المدرسة. وفي المرة الثانية: عندما أراد أن يعبر فنياً باللغة الأمازيغية، فوجد نفسه عاجزاً عن ذلك إلا بما توحي به شذرات أنغام أدوات موسيقية تنبع من أسلاك الفرامل و(بيدونات) مبيدات الحشرات. 4- طارق يتلمس طريقه إلى وجهه الحقيقي في سنة 1970 سيلتحق طارق بمركز التكوين الفلاحي بضواحي مدينة تيفلت؛ وهناك ستستيقظ في دواخله كل الأنغام والإيقاعات الأمازيغية؛ لقد وجد نفسه محمولاً على صهوة الإيقاع الذي يسكنه؛ وعندما أتحفه، في أحد الأيام، صديقُه الحسين أيت بوفتاس ببعض الكنوز الغنائية الأمازيغية، انتفض الفتى مصفقاً ومردداً الكلمات وموقعاً على إيقاع قرون من التهميش والإقصاء. اندهش الصديق لعنفوان الانتفاضة، فقال له مقسماً: "أقسم بالله أنك أمازيغي". أحس طارق حينها بالحقيقة التي تسكنه، لكنه أسرها في نفسه، وعاد إلى الرباط. وفي العاصمة سيقطع الشاب كل التزاماته الفنية غير الأمازيغية، ويتخذ له، مع سعيد بيجعاض وامبارك العموري، طريقاً آخر، حيث ستسيطر على تفكيره وتفكير أصدقائه فكرة تأسيس مجموعة موسيقية أمازيغية. لقد كان قَسَم بوفتّاس صحيحاً، إذ لم تكن الحقيقة التي أحس بها بضواحي تيفلت سوى حقيقة النداء الأصيل الذي جاءه من بعيد؛ صوت الانتماء إلى هوية ما زالت تتلحّف بإيقاع الأرض الأمازيغية. انضم إلى الجماعة فنانون آخرون، منهم القرفي اليزيد وبلعيد العكاف. وعلى حين غرة، ظهرت لهم في الأفق الجمعية المغربية للبحث والتبادل الثقافي تتهادى، وتناديهم بأسمائهم علهم يسمعون. وكان بالجمعية رجل كبير، رجل منح للأمازيغية كل ما استطاع؛ ولم يكن هذا الرجل غير الأستاذ إبراهيم أخياط؛ هذا الرجل، ومعه آخرون، لم يقتصر فقط على الاحتضان الفني لهؤلاء الشباب، فاشترى لهم الأدوات الموسيقية والملابس الموحّدة، ولكن منحهم أيضاً كل الأجوبة التي كانت تقض أسئلتُها الهوياتية مضجع طارق. ومع مرور الوقت، واستقامة العود، ظهر كُتّاب أمازيغ من أمثال: المرحوم علي صدقي أزايكو، والمرحوم عبد الله الرحماني الجشتيمي، ومحمد مستاوي وعمر أمرير والصافي مومن علي ملحن المجموعة.
5- الفنان طارق يقتنع بوجهه الحقيقي توالت الحفلات والأنشطة، وبدأت الفرقة تشق طريقها بثبات، وبدأت الجماهير كما رجال الأعمال يتهافتون على الفرقة؛ وظهر إبراهيم أخياط، بسيارته الصغيرة، يتنقل بالمجموعة من مكان إلى آخر، ومن مدينة إلى أخرى، مقدّما المجموعة، وممرراً لأكثر من رسالة. فقد كان أثناء الطريق يحدثهم "عن ضرورة صحوة الوعي بالذات الأمازيغية للمغرب"، وكان يقنعهم ب "أن الأمازيغية ليست قضية عرق خالص أو نزعة انغلاقية، بل هي قضية جميع المغاربة دون تمييز، وأنها القضية التي يمكن أن تعيد الاعتبار لمغرب مستقل ومتحرر من أية تبعية للمشرق أو الغرب". اقتنع الفنان الشاب بما قاله له إبراهيم أخياط وبما قاله له آخرون وبما استنتجه بنفسه. اقتنع بمبدأ "خدمة الأمازيغية كأساس للهوية الوطنية، والموسيقى كأساس للموسيقى المغربية". ولم يكن سن طارق يتجاوز آنذاك 24 سنة. ورغم ذلك أحس أو اقتنع أنه يحمل على عاتقه "مسؤولية تاريخية"؛ كان صموتاً ينأى بنفسه عن مخالطة المعجبين؛ ولكنه كان أكثر تصميماً على أن تواصل أوسمان مشوارها الفني رغم تشويش المشاغبين الذين كانوا أحياناً يطالبون أعضاء الفرقة بعدم الغناء بالأمازيغية. لقد كان معتزاً بأمازيغيته؛ ولذلك فإنه بقدر ما كان يرفض الكذب التاريخي كما كان يُدرّسه له الأستاذ الفلسطيني، كان يرفض أن تُختزل هويته في لهجة أو شلحة أو فلكلور؛ وبقدر ما كان يرفض أن يطلق على شعب عظيم كالشعب الأمازيغي صفة "البربري"، كان يرفض أيضاً أن ينغلق فنه على جماعة دون غيرها. هذا ما تحتفظ به التسجيلات الصوتية التي سجلها طارق في الإذاعات الوطنية منذ السبعينيات من القرن الماضي. 6-أوسمان تغني لكل المغاربة منذ سنة 1976، أي سنة تسجيل فرقة أوسمان لأولى أغانيها، سيتفاجأ طارق كيف أن المغاربة بجميع انتماءاتهم اللسانية قد انتفضت في دواخلهم ( مثله تماماً ) الهويةُ العميقةُ للأرض التي ينتمون إليها؛ فقد لاحظ كيف أصبح المعجبون والمعجبات يترنمون مع "تاكنداوت" و"تيلاس" و"ياغاغ إيريفي" و "غاساد ما يوفا". وسينتبه إلى تهافت معدو البرامج على الفرقة. أحس طارق وصحبه أنهم لا يغنون للأمازيغ فقط، ولكنهم يغنون لجميع المغاربة. كان إحساساً أشبه ما يكون بالانتشاء؛ وهذا ليس لأنهم كسروا طابو الفلكلرة الذي كانت توسم به الأمازيغية، ولكن أيضاً لأنهم نقلوا الأمازيغية فنياً من المحلية إلى الوطنية، ومن التقليدانية إلى الحداثة. وتوالت السهرات والأنشطة في المدن المغربية، وفي أوروبا. ورغم أن الفرقة لم تكن أحياناً تُعوض على تنقلاتها أو تُعوض بشكل سيء، وبالرغم من القرصنة، فإنها لم تستلم، لأن مهمتها الأساسية كانت هي إعادة الاعتبار للثقافة الأمازيغية، وهي الرسالة التي كان يلقنهم إياها إبراهيم أخياط عند كل رحلة أو برنامج. لقد كان جميع أعضاء المجموعة ملتزمين بقضيتهم الفنية؛ كانوا يرفضون أن يتحولوا إلى بوق سياسي لأي جهة مهما كانت؛ وكانوا جميعاً مقتنعين بأخلاق المناضل المتقشف الذي لا يحول أبداً فنه إلى سلعة رخيصة تباع في أسواق النخاسة الفنية. ولذلك رفضوا كل الإغراءات المادية من طرف أولاء الذين أرادوا أن يجعلوا منهم فناني المناسبات. ولذلك، فإنه بالرغم من أن فرقة أوسمان لم تُعمّر غير أربع سنوات، فإنها بصمت الحياة الفنية المغربية. وهو ما اعترف ويعترف به العديد من النقاد والمثقفين والمتتبعين للشأن الفني الأمازيغي. وتظل الأسئلة الحارقة مع ذلك هي: إلى أي حد اهتممنا بروائعنا الثقافية والفنية؟ وإلى أي حد أخذنا بيد الفنان الأمازيغي؟ ولماذا ما يزال هذا الفنان، إلى اليوم، يحتل المرتبة الأخيرة من المواطنة في الاستفادة من مؤسسات بلاده؟ وهذا كله في الوقت الذي تُفتح فيه الأبواب لكل من هب ودب شرقاً وغرباً؛ لماذا ما زلنا نرضى بالذل والذل لا يرضى بنا؟ - عود على بدء لقد زاوجت عائلة المعروفي بين المقاومة من أجل استرداد الأرض وبين الهوية من أجل استرداد الانتماء؛ فقاومت الاستعمار ودخل الأب السجن؛ ثم اشترى الأب – رغم قلة ذات اليد – للابن "اللوتار"، واشترى له البيانو المستعمل، وأحضر له معلم موسيقى؛ وفي جميع هذه الحالات يبدو لنا الأب كما لو أنه ينبه الابن إلى أن استرداد الأرض لن يكتمل إلا باسترداد الهوية؛ وأن استرداد الهوية لن يكتمل إلا بالربط بين استرداد الأرض وميلاد الحرية التي تتماهى في العمق بولادة المرأة. فلأن الأرض في ثقافتنا لا تتجسد إلا في المرأة بوصفها كائنا أنثوياً بامتياز، فإن حرية الوطن تفترض حرية المرأة أو ولادتها الجديدة. هذا ما عبر عنه الوالد عندما أخبر بميلاد ابنته وهو ما يزال في السجن؛ فهل استطاع طارق أن يواصل طريق الأب والأم؛ هل استطاع أن يمازج بين حرية الأرض وحرية الهوية وحرية المرأة؟ هل استطاع أن يترجم هذه الفلسفة في أنغامه الأمازيغية؟ بل هل استطعنا، نحن جميعاً، أن نفهم هذه الرسالة؟ رسالة الأب والأم؟ رسالة طارق؟ رسالة أوسمان؟.