خمرة أبي نواس بعد أن احتسى أبو نؤاس أول كأس من خمر أديرة هيت وعانات ، أحس ان أكثر من سبعة آلاف سنة، قد هبطت إلى جوفه هي تاريخ صنع الخمر في هذه البلاد القديمة ،آنذاك،التفت إلى نديمه قائلا: لا تحدثني عن الشعر بعد الآن، لا تطلب مني أن أقرأ لك شعرا، أحس الآن إنني شاعر لم يعد بحاجة إلى قول الشعر، اعظم الشعراء هم أولئك الذين لم يقولوا الشعر! بل إنني صرت أود أن أنسى شعري القديم كله، لا تذكرني به رجاء، حتى قصيدة دع عنك لومي؛ القها في أول موقد نار يصادفك! سأله النديم: كيف يا أبا نؤاس؟ ما أعرفه؛ لا يمكن أن يكون المرء شاعرا إن لم يقل الشعر! لقد أحس الشعراء الحقيقيون أن الشعر أعظم من أن يقال، لم يتجرأوا على خرق أحاسيسهم، خافوا أن يفرطوا بما لديهم من شعر في أحشائهم، خشوا أن يكذبوا ويخطئوا في تحويل شعورهم إلى كلمات، فيفتعلوا الشعر، ويقسوا على مشاعرهم وعلى من يسمعونهم! حين لا يخرج إلا ربع ما لديهم من شعر فيقولون هذا هو كل القصيدة. يكونون قد ارتكبوا جناية كبرى لكن أن يحصل الناس من الشاعر على ربع قصيدة؛ خير من أن لا يحصلوا على شيء منه! ولكن ربع القصيدة لا تكون شعرا مادام الجزء الأعظم من القصيدة ظل غائصا في لحم الأحشاء! من أدرك ذلك هو الشاعر الحقيقي؛ لذلك التزم الصمت، أو كف عن قول الشعر بعد سنوات من قول شعر ناقص! وهذا ما أحس إنني قد وصلته الآن بعد هذه الجرعة الرائعة من خمرة هيت وعانات . ولكن كثيرين صاروا ينظمون الشعر هذه الأيام يتكسبون به أو ليحظوا بمكانة بين الناس، هل ستترك الشعر تحت رحمتهم! هؤلاء لا يشعرون! كيف يقول الشعر من لا يشعر؟ هم زنابير تحشر نفسها بين عسل النحل، زنابير بطنين عال، تلسع ولا تنفع، ومصيرها إلى الزوال حتما، أقول لك رغم إن الناس يقولون إنني شاعر، لكنني أول من يشك بنفسي؛ فأكتفي الآن بشعر في أعماقي بنكهة هذه الخمرة العظيمة! ابتسم نديمه قائلا: غدا لن أسقيك خمرا، كي لا احرم الناس من شعرك! ضحك أبو نؤاس قائلا : تكون بذلك قد قتلتني، وقتلت الشعر معي أيها الأحمق! ثم جذب الزق إليه واتكأ! ولكن، أين هو البحر؟ منذ زمن طويل وأنت تكتب لي : اشتر سنارة بشص متين حاد، وخيط طويل، طويل! سنذهب معا إلى الصيد؛ فالبحر زاخر بالسمك الكبير اللذيذ! وتارة تكتب لي : سنغطس عميقاً، فهناك الكثير من اللؤلؤ والمرجان، والنبات الشافي، وربما نجد عشبة الخلود! لا تصدق من يقول لك أن ماء البحر ملح أجاج؛ حتى لو كان لسانك! وفي أخرى تقول: قد يهبنا البحر لمسة حنونة، فيجعلنا نرى ابنته الأبدية: تلك الحسناء الفاتنة التي نصفها سمكة! وتصر أن تبقى ظريفا، رغم كآبتك في الآونة الأخيرة: لا تجعلنا نختلف، هي لي منذ الآن! منذ زمن طويل وأنا أسير في الصحارى وشعاب الجبال إليك، سرت طويلا، أطول من خيط سنارتي ملايين المرات، حتى خلتني قد ابتلعت شص سنارتي، وإن السنارة صارت في يدك، أعذرني يا صديقي؛ إنه مجرد ظن! ما في زوادتي من ماء وخبز يكاد ينفد،وهذه سنارتي يا صديقي، بخيط طويل طويل، وشص لا يفلت منه حتى سمك السراب! نعم يا صديقي هذه سنارتي جاهزة، ولكن أين هو البحر؟