مشاهدات في بادية الخليج اليومية الثالثة عشْرة ناولني الرجل السمين ملفي.. أما تذكرة الطائرة فأمرني بأن آخذها من الخطوط السعودية بجانب فندق شيراطون بالبيضاء. كن حريصا على الوقت.. عندي لك سؤال أرجوك.. قلت له قبل أن أغادر وأنا مرتبك من فرط الفرحة. تفضل سمعت أننا سندرس عندكم في القرى النائية وليس في المدن كما أخبرتمونا ابتسم وقال: حتى وإن كانت قرية..القرى عندنا نموذجية وليست كما هو الحال عندكم.. جميع الخدمات متوفرة فيها... توكل على الله ولا تهتم بالإشاعات سترى بعينك.. واشكر ربك على تعيينك في مكة عمرة وحج .. من مثلك يا ولد..! لم تسعني الأرض فرحا ومرحا.. وغادرت مكتب الرجل السمين وأنا أشعر بسعادة لا يمكن وصفها بجرة قلم.. مع السلامة رافقتك السلامة يا أنتَ. .... حركة المطار هذا المساء ليست عادية، عشرات من المدرسين يحملون حقائبهم كل واحد معه عدد من أفراد أسرته، إنها الفرصة المناسبة لكي يرى البعض منهم مطار محمد الخامس لأول مرة.. المسافرون المتوجهون إلى المملكة العربية السعودية الرحلة رقم 731 عليهم الالتحاق بالبوابة رقم2. عناق حار بين الأهل والأحباب... كان الحشد يثير فضول بعض الأجانب المسافرين في اتجاه الشمال، في صالة الانتظار لم نكن نحن أساتذة البعثة نعرف بعضنا البعض، والذين تصطحبهم زوجاتهم وأطفالهم كانوا في بداية ربط علاقات ودية، لكن سرعان ما سيتم الاستغناء عن هذا التعارف وهذه العلاقة حين تبين أن وجهة كل واحد منا مختلفة عن الآخر.. وإن كانت نفس الطائرة تقلنا فمدة ست ساعات أو ما يزيد كافية لنودع بعضنا بعضا.. ستحط الطائرة أولا بمطار الملك عبد العزيز الدولي بمدينة جدة ومن بعد ذلك ستقلع إلى مطار الملك خالد الدولي الرياض. كانت نساء بعض الأساتذة لا تزال في لباس العرس.. لأن البعض منا قرر أن يتزوج قبل سفره ويأخذ معه زوجته.. أما معظم النساء المغربيات فقد ارتدين جلبابا وشالا أسودين. ومنهن من وصلتها التعليمات مسبقا وارتدت الزيَّ الخليجيَّ وهاهي الآن ومن المطار خلعت جلدها المغربي وارتدت جلدا خليجيا.. أقول جلدا وليس لباسا.. زوجها هو الآخر يرتدي زيا أبيض يصل إلى الكعبين وترك لحيته دون أن يعيرها بالا مذ عرف أنه مسافر إلى الحجاز.. أكيد أنه سمع بأن الشكل هناك مهم.. فيكفي أن تكون لحيتك طويلة لكي تكسب ود الناس هناك.. ففي نظرهم بإسدالك لحيتك وقصك شاربك ولباسك ثوبا إلى الكعبين أنت ملتزم بالسنة. كان العاملون والعاملات جميعهم يحسون بأن هناك حركة غير عادية في هذه الرحلة الفريدة من نوعها.. رغم تعودهم على هذه الفوضى في أيام العمرة والحج.. لكن سرعان ما سيتبدد هذا الإحساس لما علموا أنها رحلة أساتذة مغاربة وجهتهم المملكة العربية السعودية. معظم الإخوة السعوديين تعرفهم من لباسهم وسمنتهم، وقد وقفوا في صف بعيد.. منهم من تراه دخل إلى المرحاض ليغير اللباس الإفرنجي ويرتدي الثوب الأبيض الرسمي في بلده الذي هو عبارة عن «غطرة» حمراء منقطة بالأبيض أو بيضاء ناصعة وضع عليها عقال دائري أسود. أحدهم غير لباسه في الفندق لأنه كان يدرك بأنه لن يقوى على تغيير البذلة في المطار من فرط السُّكْر.. كان المسكين يتمايل يمنة ويسرة.. وكنا نتساءل في استغراب: يقولون بأن الخمر محرم في المملكة وهذا السعودي السكران سيركب معنا الطائرة فكيف سيكون حاله من طرف سلطات بلاده إذا وصل هناك يا ترى..؟ .... ها نحن نصعد الطائرة الضخمة «البوينغ 747» التي حطت منذ برهة على مدرج المطار قادمة من السينغال . لم يكن في الطائرة ركاب كثيرون، فقط بعض السينغاليين الذين تمدد بعضهم على المقاعد الثلاثة في نوم عميق، والبعض يتفرج من نافدة الطائرة على المطار. فوضى عارمة على مدخل الطائرة، صراخ الأطفال الصغار، هناك الرجل مع زوجته ومعهم ثلاثة أو أربعة أطفال، الرضيع منهم والصغير، وجميعهم في حاجة إلى قسط من النوم لينام من كثرة التعب والإرهاق كان أتعس يوم ربما في حياة هؤلاء المضيفات المهنية . أُقفلتْ أبوابُ الطائرة بإحكام وارتفع صوت المحرك معلنا بدء الرحلة. كنا نتهافت على النوافذ لنرى كثيرا من الأسر والعائلات يلوحون بأياديهم من مقصورة سطح المطار، لا يمكن لأي طبيب نفسي مختص أن يحدد بالتحديد شعور هؤلاء الأساتذة جميعا. الفرحة بركوب الطائرة لأول مرة والخوف من ركوبها في آنٍ، الفرحة بالهجرة والخوف من عواقبها، خصوصا لأولئك الذين تعودوا على العيش بين أسرهم ولأول مرة يودعون الجو الأسري وما أكثرهم..! كان السعودي السكران تائها وهو حائر في أي المقاعد يجلس والمضيفة تتعامل معه بأدب مبالغ فيه طالبة منه الجلوس في المقعد المخصص له.. لكنه كان يجيبها بصوت جهوري.. مالَكْشْ دعوة بيا..أجلسْ وين ما أنا أبْغا أجلس.. هذه طيارتنا.. وأنتِ مالكشْ دعوة.. كان الرجل واقفا في طريقي حائلاً بيني وبين مقعدي.. فقلت له بأدب : لو سمحت.. افسحْ لي المجال لأجلس في مقعدي .. إيشْ تقولْ يا أنت..؟ افسح لي الطريق أرجوك.. هي طيارة أبوك علشانْ أفسح لك الطريق.. عرفت بأن الرجل في حالة لا تستحق الرد عليه.. وأن القلم مرفوع عليه في هذه الساعة.. إضافة إلى غمزة خفيفة من عين المضيفة وهي تتوسل إلي بأن أتمالك أعصابي وألاَّ أرد عليه بالمثل. كان الرجل في صالة الانتظار سكرانا نعم.. لكنه كان مسالما وغاية في الوداعة.. وبمجرد صعوده الطائرة تغيرت لهجته وطريقة كلامه وأصبح عدوانيا أكثر من اللازم. هكذا هي عادتهم تقول المضيفة هامسة إليّ وسترى ما يدهشك أكثر لما تكون بينهم.. سترى «الحكرة» أكثر من هاذ الحكرة اللي محكورين فبلادنا قالت المضيفة .. بدأ الإعلان عن بداية الرحلة..الإخبار بدرجة الحرارة داخل وخارج الطائرة..ساعة انطلاق الرحلة من مطار البيضاء وساعة وصولها إلى مطار جدة..علو الطائرة وارتفاعها عن سطح الأرض..أبواب الإنقاذ عند الضرورة..مكان وجود سترة النجاة تحت المقعد وكيفية نفخها وارتدائها. كنا نحن منشغلين عن شروحات المضيفة بالضحك واللامبالاة..نضحك على مثل هذه الإرشادات التي كنا نعتبرها مجرد تعبير إنشائي سخيف..لذلك كانت المضيفة المسكينة تتعب نفسها في الشرح دون أن يهتم بإشاراتها ووجودها أمامنا أحد. ها هي الطائرة الآن تتدحرج رويدا رويدا عبر مدرج المطار..ران الصمت على الجميع..والصمت هنا ينم على الخوف من الآتي أكثر مما ينم على أنه واجب أخلاقي وحضاري. تزداد سرعة الطائرة على المدرج فيتعالى أزيزها..وتزداد ضربات القلب خفقانا.. ها هي ذي الطائرة تتجه بمقدمتها نحو الجو، معظم الركاب يحسون بدوار غير عادي، كانت نتيجته في الغالب مدعاة للتقيؤ. من أعالي الجو كانت أنوار مدينة الدارالبيضاء تبدو باهتة جدا كأنها شمعدانات متناثرة هنا وهناك، وبعض طائرات تنتظر وصول وقت طيرانها.. وأنت في الجو..سرعان ما تذهب تلك الهيبة التي كانت لك على هذا المطار الدولي الذي يعتبر أكبر مطارات المملكة..إذ يبدو لك مطارا عاديا مقارنة مع باقي مطارات الدنيا..خصوصا للذين سبق لهم النزول والركوب من مطارات أخرى. وتعلو الطائرة في الجو لتغادر أجواء البلاد في اتجاه أجواء بلدان أخرى قبل أن تصل إلى وجهتها المقصودة. بدأت المضيفات في توزيع وجبات الأكل على المسافرين..ضوضاء عارمة من جديد.. كانت المضيفات تمسكن رؤوسهن بأيديهن من فرط الصداع وتكالُبِ طلبات الزبائن..خصوصا الذين يصطحبون أطفالا صغارا.. عافاكم اجلسوا الأرض..خلونا نخدمو فخاطرنا .. لم يعر أحدٌ اهتماما لطلب ورجاء المضيفات لهم بالجلوس في المقاعد حتى يسهل عليهن توزيع وجبة العشاء، أو حليب الأطفال الرضع على الأمهات. الكل يتكلم ولا أحد يسمع.. إنها فوضى الحواس التي لا تجد نشوتها إلا في نكهة الفوضى. ونحن في السماء كأننا في سوق أسبوعي .. نعم سوق أسبوعي في أعالي الجو . بعد الأكل وزعت المشروبات..أنواع العصير والشاي والقهوة.. كنت في حاجة لشرب فنجان قهوة من فرط الضجيج..أنا الوحيد الذي ليس لديه صديق أو أصدقاء يشاركهم الحديث..حديث فج وغير ذي مضمون يُذكر بكل تأكيد..وحمدت الله على ذلك وإلا كنت انخرطت معه أو معهم في هذه الفوضى المرتجلة . كنت فقط أراقب ما يدور أمام عيني في حيرة وصمت وأنا أردد مع نفسي: ماذا لو كان معنا ركاب غربيون في هذه الطائرة..ربما كانوا قد فضلوا النزول بالمظلات إلى الأرض بدل مواصلة رحلتهم معنا .. بدأت الطائرة تميل يمنة ويسرة وإنذار عبر مكبر الصوت يطلب من الركاب أن يلزموا مقاعدهم ويربطوا الأحزمة لأننا دخلنا في مطبات هوائية . فترى القوم يجرون إلى مقاعدهم ويسرعون إلى ربط الأحزمة.. وقف الشاب الوسيم عبد النبي في بذلته الأنيقة ، يحمل كناشا وقلما وهو يدون أسماء بعض الأساتذة المعيينن في مكة..أو في جدة أو في الدمام وباقي المناطق الأخرى..كي يبقى الاتصال والتنسيق بيننا فيما بعد.. ها هي الطائرة الآن في الأجواء السعودية.. صوت المضيف هذه المرة يعلن اقترابنا من منطقة الإحرام لمن يريد العمرة.. وتبدأ الفوضى من جديد..الازدحام في مؤخرة الطائرة على بيوت النظافة التي اتخذت كمستودع لتغيير الملابس لمن لم يستعد للإحرام من قبل .. قليلون هم الذين لبسوا ثوب الإحرام من مطار محمد الخامس ولبسوا عليه جلابيب مغربية حتى يسهل نزعها عليه في الطائرة وهو جالس مكانه.. ونحن نحلق فوق مطار مدينة جدة بدت لنا الأضواء قوية عكس ما رأيناه سابقا عشرات المرات في مدينة البيضاء. وكلما اقتربت الطائرة من الأرض رأيت الشوارع العريضة والطرقات الواسعة وكأنك في دولة غربية.. وعدة طائرات من مختلف دول العالم..متراصة بحيث لا يمكنك عدها..ليس الأمر كما كان عليه في مطار البيضاء.. صاح أحد الأساتذة: انظروا أسطول الطائرات من مختلف الأحجام والأنواع..لا مقارنة لمطارهم مع مطارنا البئيس.. كان المنظر رائعا ونحن في الجو..