عند استعراض المواقف والسلوكات التي أنتجتها في الأيام الأخيرة بعض مكونات لجنة تعديل النظام الداخلي لمجلس النواب، يجد المرء نفسه أمام سؤال استنكاري كبير وفاضح: هل السياسة بلا أخلاق أو مبادئ إلى هذا الحد؟ الجواب بدا، مع الأسف، فاضحا أيضا من خلال ما اقترفه بعض برلمانيينا وسياسيينا، وكذلك من خلال التعليقات التي أدلوا بها عقب فعل الاقتراف الذي كشف العورات. بداية، إن المشكلة ليست في فريق التقدم الديمقراطي، ولا في اختفائه المتوهم من طرف البعض، فالفريق حتى إشعار آخر يتشكل من 20 نائبة ونائبا، وقد سبق للمجلس الدستوري أن قضى بصحة تشكيله، وبذلك فهو اليوم قائم، واقعا وقانونا، عكس ما خلصت إليه بعض الكتابات المتهافتة، ولكن المشكلة اليوم هي أكبر من كل هذا. المشكلة هي في وجود أطراف حزبية وبرلمانية وأخرى خفية لا ترى السياسة سوى لعبا، ولا تفهمها إلا كونها انفلاتا أخلاقيا، حتى أن أحد «ممثلي» هذه الأطراف في البرلمان، لم يخجل عندما سأله صحفي عن نكث فريقه لالتزام موقع، وتراجعه عن محضر تم التوقيع عليه، في الرد معترفا بالتراجع لأن «حيثيات أخرى ظهرت» على حد تعبيره... لقد سبق أن كتبنا هنا، وكتب غيرنا أيضا، عن موضوع العدد الأدنى من النواب المطلوب لتشكيل فريق في البرلمان، وأوردنا نماذج من برلمانات ديمقراطية عريقة، حيث تعتمد عددا قليلا لذلك، بغاية تمكين المؤسسة التشريعية من احتضان كل الحساسيات السياسية وتيارات الرأي بلا إقصاء أو هيمنة أو تحكم، وأيضا من أجل أن يبقى البرلمان هو الفضاء السياسي الرئيسي ضمن المنظومة الوطنية العامة، وقلنا، ارتباطا بذلك، بأن تغليب بعض المكونات الحزبية والبرلمانية عندنا لحساباتها الصغيرة يجعلها تدب وسط السجال البرلماني بلا بعد نظر، وهو ما تجلى مؤخرا في لجنة تعديل النظام الداخلي حيث ركز البعض كامل الرهان في هذه «العتبة»، وتحول النقاش إلى عبث في عبث، ونجح بعض التابعين في جر البلاد كلها إلى... المربع الأول، وهنا خطورة ما حصل. عندما يتفق البعض مساء على موقف، وفي الصباح الموالي يتراجع عنه كما لو أنه يغير جواربه، فمعنى ذلك أن شيئا ما أوحي له به ليلا، وجاء ليصرفه داخل اللجنة عبر لعبة طافحة بالقذارة، وعندما يقرر البعض الآخر تلخيص التوجيه الحزبي الذي يقدمه لبرلمانييه في ضرورة اقتراف القتل والتصفية في حق فريق قائم، أو في حق حزب يصر مذ كان على استقلالية قراره، فمعنى هذا أن جهات موجودة فعلا يزعجها هذا الصوت العقلاني المستقل، والذي لم يقبل اقتياده للهاوية، أو أن يساهم في جر البلاد إلى المنغلق.. لقد سبق أن تعرض حزب التقدم والاشتراكية لضغوط كبيرة أثناء خوض الانتخابات التشريعية الماضية في مناطق مختلفة، ثم تفاقمت هذه الضغوط واقتربت أحيانا من الممارسات المافيوزية عند تشكيل الفريق التقدمي الذي تعرض بعض أعضائه للضغط والتهديد، لكن كل هذه «البسالة» فشلت، وتشكل الفريق فعلا، وقرر القضاء الدستوري صحة تكوينه. واليوم هاهي ذات الجهات تعود لنفس السلوك، وإن بأدوات جديدة وتبع جدد، فتعمد هذه المرة لتوجيه ما تعتقد أنه سيكون الضربة القاضية لصوت تقدمي بلغ عمره اليوم سبعين سنة، وكان دائما قويا ولافتا في البرلمان ولو بنائب واحد أو نائبين، وحتى هذه الرعونة سيكون مصيرها الفشل لأن محركيها عمي لا يبصرون، ولا يفهمون، ولا يملكون عقلا أو بعد نظر. بعض الصغار الذين يظهرون اليوم في صورة الأحداث يعرف الجميع أنهم غارقون في أوساخ السياسة الفاسدة، وهم ينتفعون من ذلك ومما يصلهم من ريع ومغانم فردية، لكن «كبارهم» الذين يعلمونهم...، يجهلون أن فساد هؤلاء وعقمهم سيقود البلاد مباشرة إلى... الجدار، كما أن هؤلاء «الكبار» يبدو أنهم لم يتعلموا شيئا من كل السياقات التي عبرتنا وتواصل عبورها إلى اليوم بيننا وفي محيطنا الإقليمي، ولم يفهموا أن التحكم والهيمنة في الحياة السياسية والانتخابية، والتضييق على التعددية هي خطوات معاكسة لمنطق الزمن، ولن تحمل للبلاد ومؤسساتها إلا المخاطر. إنهم بلداء فعلا، وهذه هي خطورتهم الوحيدة، فلا عتب إذن على الجاهلين.