تاريخ كل أمة خط متصل، قد يصعد الخط أو يهبط، وقد يدور حول نفسه أو ينحني ولكنه لا ينقطع. ولعل كل أمة تنقب عن تاريخها وتصونه من أجل الرقي بحاضرها والتحضير لمستقبلها. وكذلك شأن المملكة المغربية التي اجتهد مؤرخوها لصون تفاصيل تاريخ يمتد لقرون طويلة عرف فيها المغرب عدة حضارات وساسه قادة وملوك وسلاطين. بيان اليوم حاولت النهل من كتب ومراجع ومخطوطات عديدة لتحضير هذه النافذة التاريخية لقرائها طيلة شهر رمضان الكريم، تطل من خلالها على ما مضى من مواقف ملوك وسلاطين المملكة اتجاه أبرز الأحداث. الحلقة 10: يوسف بن تاشفين (الجزء 3) بعدما ترطقنا في الحلقتين السابقتين إلى ولادة يوسف بن تاشفين ونسبه ونشأته وكذا التدرج في الحكم، ومرحلة النيابة على المغرب وتولي الحكم. سنتطرق في الحلقة الثالثة إلى الإمارة واتساع دولة المرابطين واستنجاد أهل الأندلس بهم وحكمها. الإمارة دولة المرابطين في أقصى اتساعها. استدعى يوسف أمراء المغرب وشيوخ القبائل من زناتة ومصمودة وغمارة لمبايعته، فبايعوه بالإمارة، ثم قرر أن يتابع فتوحاته، فغزا الدمنة من بلاد طنجة عام 465 ه الموافق 1072، وفتح بلاد علودان، ثم استولى على جبال غياثة وبني مكود وبني رعينة من أحواز تازة عام 467 ه الموافق 1074، وجعلها فاصلًا بينه وبين زناتة الهاربة إلى الشرق، وأصبحت منطقة تازة ثغرًا منيعًا بينه وبين زناتة. يُعتبر عام 467 ه عامًا فاصلًا في تاريخ دولة المرابطين، إذ بسط يوسف نفوذه على سائر المغرب الأقصى والشمالي باستثناء طنجةوسبتة. كانت سبتةوطنجة من أملاك الحموديين العلويين الذين بسطوا سيطرتهم على جنوب الأندلس أكثر من ربع قرن، وقد استنابوا عليهما من وثقوا بهم من الصقالبة، وظل الأمر كذلك إلى أن استقل بها الحاجب سكوت البرغواطي، وأطاعته قبائل غمارة، وظل يحكمها حتى قيام دولة المرابطين. بعد أن أخضع يوسف سائر المغرب، وأصبحت حدوده مجاورة لإمارة الحاجب، طلب منه الأمير يوسف المولاة والمظاهرة على أعداء المرابطين، كاد الحاجب أن يقبل بعرض يوسف لولا أن ثناه ابنه عن عزمه، عند ذلك بدأ يوسف بالتجهيز لقتال الحاجب، فجهز جيشًا من اثني عشر ألف فارس مرابطي وعشرين ألفًا من سائر القبائل، وأسند قيادته إلى صالح بن عمران وذلك عام 470 ه الموافق 1077، وأمره بمهاجمة طنجة، وعندما اقترب المرابطون منها برز إليهم الحاجب بجيشه وكان الحاجب شيخًا كبيرًا ناهز التسعين، وقال: «والله لا يسمع أهل سبتة طبول اللمتوني وأنا حيّ أبدًا»، وكان معه ابنه ضياء الدولة يحيى، جرت المعركة في وادي منى من أحواز طنجة، وقتل فيها الحاجب وانهزم جيشه، والتجأ ابنه يحيى إلى سبتة واعتصم بها، ودخل المرابطون طنجة وكتب القائد ابن عمران بالفتح لابن تاشفين. بعد فتح طنجة استأنف ابن تاشفين توسعه نحو الشرق لمطاردة زناتة التي لجأت إلى تلمسان. بدأ يوسف قتاله في تلمسان التي كان يحكمها الأمير العباس بن بختي من ولد يعلى بن محمد بن الخير المغراوي، أرسل يوسف قائده مزدلي لغزوها في عشرين ألف، واستطاع جيش المرابطين هزيمة جيش تلمسان، وأسر قائده معلي بن يعلي المغراوي الذي قُتل على الفور، وضُرب تجمع زناتة، ثم عاد جيش المرابطين إلى مراكش. يظهر من معركة تلمسان السريعة أنها لم تكن تهدف إلى الفتح والتمركز في المدينة، بل كانت تهدف لضرب الزناتيين الفارين من فاس، مما يدل على عودة القائد مزدلي المبكرة دون أن يثبت أقدام المرابطين في تلك المنطقة. بعد عملية تلمسان، اتجه يوسف نحو الريف، الذي كان يحكمه بيت أبي العافية، وكان قد تركه ولم يأخذ منه إلا منطقة تازة وما جاورها. فغزاها عام 473 ه الموافق 1079، وفتح أكرسيف ومليلة وسائر بلاد المغرب، وضرب مدينة تكرور ولم تُعمر بعد ذلك مدة طويلة، وكان الدافع إلى ذلك حتى لا تتخذها زناتة حصنًا لمقاومة المرابطين. بعد الاستيلاء على الريف عاد المرابطون للقضاء على زناتة تلمسان وإخضاعها، سار يوسف نحوها وفي طريقه فتح وجدة وبلاد بني يزناسن وذلك عام 474 ه الموافق 1080، ثم وصل إلى عاصمة المغرب الأوسط وضرب عليها الحصار، حتى استسلمت فقتل أميرها العباس بن يعلى، وولى عليها محمد بن تنيغمر، وصارت ثغرًا للمرابطين بدلًا عن ثغر تازة، ثم تتبع يوسف زناتة شرقًا فاستولى على وهران وتنس وجبال وانشريش ووادي الشلف حتى دخل مدينة الجزائر، وتوقف عند حدود مملكة بجاية التي يحكمها بنو حماد وهم فرع من صنهاجة. بنى يوسف في مدينة الجزائر جامعًا لا يزال إلى اليوم ويعرف بالجامع الكبير. بعد أن أمن يوسف حدوده الشرقية عاد إلى مراكش عام 475 ه الموافق 1081. في السنة التالية وجه يوسف ابنه المعز في جيش إلى سبتة لفتحها، حيث كانت المدينة الوحيدة التي لم تخضع له، فحاصرها المعز برًا وبحرًا، ودارت بين الجيشين معركة بحرية كانت سجالًا، إلى أن أرسل المعتمد بن عباد سفينة ضخمة رجحت كفة المعركة لصالح المرابطين، وانهزم والي سبتة ضياء الدولة يحيى ثم قتل، وكان فتح سبتة في ربيع الآخر 477 ه الموافق 1084. حُكم الأندلس كانت ميادين الجهاد أمام المرابطين متعددة، فهناك الجنوب وأفريقيا، ولكنهم أقلعوا عن هذا الاتجاه بسبب وجود الأمير أبي بكر بن عمر الذي اختار الصحراء ميدانًا لجهاده، وكان هناك مجال نحو الشرق حيث توقف الفتح عند حدود بجاية التي يحكمها بنو حماد الصنهاجيين، ولكن يوسف آثر ألا يتقدم شرقًا بسبب القرابة التي تربطه ببني حماد. بعد أن أطلت دولة المرابطين على شواطئ البحر المتوسط التي كانت عرضة لغارات الفرنجة، كان لا بدّ من اتخاذ إجراءات وقائية لصد هذه الغارات، يضاف إلى ذلك أوضاع الأندلس المضطربة بعد سقوط الخلافة الأموية وقيام دول الطوائف، وآلت أوضاع الأندلس إلى السوء، وأصبح لا حول لها ولا قوة مما شجع النصارى على توجيه الضربات المتتالية للمسلمين. استمرت حالة التردي في الأندلس حتى استطاع ألفونسو السادس الاستيلاء على طليطلة عام 478 ه الموافق 1085، ثم واصل غاراته حتى استطاع الاستيلاء على المدن والقرى مابين وادي الحجارة إلى طلبيرة، ثم بدأ ألفونسو في الضغط على مملكتي بطليوس وإشبيلية، وأرسل إلى المتوكل بن الأفطس أمير بطليوس يطلب إليه تسليم بعض الحصون والقلاع المتاخمة لحدوده مع تأدية الجزية. استنجاد أهل الأندلس بالمرابطين رسمة للملك الفونسو لحظة دخوله طليطلة. أرسل المتوكل بن الأفطس أمير بطليوس رسالة إلى يوسف بن تاشفين يرثي إليه حالهم وما آل إليه أمرهم وقال: «لما كان نور الهدى دليلك وسبيل الخير سبيلك، وصح العلم بأنك لدولة الإسلام أعز ناصر، وعلى غزو الشرك أقدر قادر، وجب أن تستدعى لما أعضل الداء، وتستغاث فيما أحاط الجزيرة من البلاء، فقد كانت طوائف العدو تطيف بها عند إفراط تسلطها واعتدائها، وشدة ظلمها واستشرائها، ولم يزل دأبها التشكيك والعناد، ودأبنا الإذعان والانقياد، حتى نفذ الطارف والتلاد، وأتى على الظاهر والباطن النفاد، وأيقنوا الآن بضعف المتن، وقويت أطماعهم في افتتاح المدن، وأُضرمت في كل جهة نارهم، ورويت من دماء المسلمين أسنتهم وشفارهم، ومن أخطأه القتل منهم فإنما هم في أيديهم أسرى وسبايا، يمتحنونهم بأنواع المحن والبلايا، فيا لله ويا للمسلمين، أيسطو هكذا بالحق الإفك، ويغلب التوحيد الشرك، ويظهر على الإيمان الكفر، ألا ناصرًا لهذا الدين المهتضم، ألا حاميًا لما استبيح من حمى الحرم، وما أحضك على الجهاد بما في كتاب الله، فإنكم له أتلى، ولا بما في حديث رسول الله، فإنكم إلى معرفته أهدى، وفي كتابي هذا الذي يحمله إليكم الفقيه الواعظ، مسائل مجمله يفصلها ويشرحها، ومشتمل على نكت هو يبينها لكم ويوضحها، وقد عولت على بيانه، ووثقت بفصاحة لسانه، والسلام»، فلما وصلت الرسالة لابن تاشفين أكرم حامليها وطمأنهم، ووعدهم بالإمداد والعبور للأندلس، وفتح باب الجهاد في سبيل الله عندما تسنح الفرصة، وتزول العوائق التي تقف في طريق المرابطين. ثم كان اجتماع قرطبة، حيث عقد مؤتمر شعبي شارك فيه مجموعة من أمراء وأعيان الأندلس، واجتمعوا بالقاضي عبيد الله بن محمد بن أدهم، وقالوا له: «ألا تنظر ما فيه المسلمون من الصغار والذلة، وإعطائهم الجزية بعد أن كانوا يأخذونها، وقد غلب على البلاد الفرنج، ولم يبقى إلا القليل، وإن دام هذا عادت نصرانية، وقد رأينا رأيًا نعرضه عليك، قال: وما هو، قالوا: نكتب إلى عرب أفريقية ونبذل لهم إذ وصلوا إلينا شطر أموالنا، ونخرج معهم مجاهدين في سبيل الله، قال ابن أدهم: المرابطون أصلح منهم وأقرب إلينا، فقالوا: كاتب أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، واسأله العبور إلينا، وإعانتنا بما يتيسر من الجند». وفي غرة جمادى الأولى من عام 479 ه أرسل ابن عباد رسالة لابن تاشفين: «إلى حضرة الإمام أمير المسلمين، إنا نحن العرب في هذه الأندلس، قد تلفت قبائلنا وتفرق جمعنا، وتوالى علينا هذا العدو المجرم اللعين أذفنش، أسر المسلمين وأخذ البلاد والقلاع والحصون، وليس لنا طاقة على نصرة جاره ولا أخيه، وقد سائت الأحوال وانقطعت الآمال، وأنت أيدك الله ملك المغرب، استنصرت بالله ثم بك، واستغثت بحرمكم، لتجوزوا لجهاد هذا العدو الكافر، والسلام على حضرتكم السامية، ورحمة الله تعالى وبركاته»، ولما وصل الكتاب لابن تاشفين أكرم حامليها، ثم استشار قادته وأمراءه، وأشاروا عليه بعبور الأندلس، فأرسل للمعتمد رسالة: «من أمير المسلمين إلى المعتمد بن عباد، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد، فإنه وصل خطابكم المكرم، فوافقنا على ما تضمنه من استدعائنا لنصرتك، وما ذكرته من كربتك، فنحن يمين لشمالك ومبادرون لنصرتك وحمايتك، وإنه لا يمكننا الجواز إلا أن تسلم لنا الجزيرة الخضراء، تكون لنا، لكي يكون إليك على أيدينا متى شئنا، فأن رأيت ذلك فأشهد به نفسك، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته»، ووافق المعتمد بن عباد على تسليم المدينة للمرابطين، وبذلك وافق المرابطون على العبور للأندلس.