"…أن تكون مُؤمنًا بقضية لا يعني الكثير، أما أن تقرّر أن تُناضل من أجلها فأنت تُقرّر حينها أن تحيا أسطورتك الذاتية، يعني أن لديك قلبًا ينبض وعقلًا يضيء فتشعر حينها بأنك تحيا إنسانيتك، وتستشعر وجودك، فإذا كان صنع السلام أصعب من خوض الحرب لأن صنعه والمحافظة عليه يتطلبان الشجاعة ويفترضان أحياناً مقاربات جديدة وصعبة، إلا أن ذلك يبقى رهينا بالتمتع بشخصية مدنية مُحببة ورأسمال ضخم من الإرادة والطموح والعمل والمثابرة والعزيمة للوصول إلى الهدف، شعرن دومًا بقلوبهن النابضة وعقولهن المضيئة بذلك الإنسان القابع في نفوسهن برغم القيود التي فرضها عليهن المجتمع لا لشيء إلا لكونهن ملحقات بتاء التأنيث، وبرغم ذلك قررن أن يحملهن تاء التأنيث سلاحا في نضالهن، ينتشرن في التاريخ كالزهرات الجميلات يمنحن الأمل ويتركن حلما لدى الجميع يقول: أنا المرأة، أنا النضال، أنا الحرية، أنا الإنسان دون تمييز… فتدافعن نحو الحرية وحماية حقوق الإنسان بشجاعة ومُثابرة، ناضلن في سبيل الحقيقة والعدالة والأمل والإصلاح والسلام، دافعْن عن القضية الإنسانية وحملن لأجلها راية الحرية والديمقراطية والحفاظ على كرامة الإنسان، حتى كوفئن أخيرا بتسجيل أسمائهن في وصية ألفريد نوبل التي كتبها تكفيراً عن شعوره بالذنب لاختراعه الديناميت القاتل، إنهن مناضلات دافعن عن الحياة وحصلن على نوبل….". الحلقة 1 / الجزء الأول ماري كوري.. النضال الذي قتل صاحبه حكاية حب ونضال ومقاومة وغبار ذرّي "..إنها الوحيدة من بين المشاهير الذين لم تغيّرهم الشهرة ولم تُبدل صفاتهم"، هكذا انطلق ألبرت آينشتاين يَكتب مُدوناً في سجلّها الرّسمي في مَعرض كلامه عن زميلة سبقته فوق دروب المعرفة والبحث العلمي، وآينشتاين لم يَقصد في كلامه هنا سوى تلك الفتاة التي اجتاحها الفقر في إحدى القرى البولونية النائية قبل أن تخلق ازدواجية لنوبل وجائزته التي حصلت عليها لمرتين متتاليتين في الفيزياء عام 1903 والكيمياء عام 1911 وتُحقق بالتالي الاستثناء الفريد والنهائي لكل من حصل على هذه الجائزة ذكراً كان أم أنثى…". ولادة مضطربة هي ماري كوري أو مانيا سكلودوفسكي تلك الفتاة البولونية الشقراء التي حملت قامتها النحيلة وطموحاتها الكبيرة وغادرت إقامتها الاعتيادية حيث العاصمة البولونية فرصوليا (ولدت يوم السابع من شهر نوفمبر 1867) إلى بلد الأنوار والعلم المستنار باريس، رحلت وتركت معلمها الأول ووالدها عالم الفيزياء فلاديسلاف سكلودوفسكي يحاول أن يوازي بين أبحاثه الصغيرة وبين رعاية أشقائها وشقيقاتها الأربعة (صوفي، بدونيا، هيلينا، جوزيف) بعد وفاة والدتها التي لم تساعد حالة الفقر التي أخذت تجتاح البلاد منذ استيلاء القيصر عليها عام 1872 في إخماد نيران مرض السل الذي اشتعل سريعاً في جسدها، وأدى إلى وفاتها واضطر معه الأب الفيزيائي إلى تأجير جزء من منزل العائلة وبعض غرفه للطلبة هناك بهدف تأمين شيئ ولو قليل من الدخل له ولأبنائه. من الذهب إلى الفولكلور ما أن حطت ماري سكلودوفيا الرحال في بلد الأنوار حتى تلقفتها جامعة باريس التي أخذ الجميع فيها يشعر بذكاء هذه الفتاة الريفية ذات الصفات والملامح الجدية والثياب القاتمة والشعر الأشقر الناعم، الفتاة التي تأبى الجلوس إلا في المقعد الأمامي الأول لحصة الفيزياء المحببة لها في جامعة السوربون التي دخلتها عام 1891 بعد أن عملت لسنوات في الريف البولندي تصنع الأزياء التقليدية وترقص وتلعب وتلهو وتغني مع الأطفال هناك كلما سنحت لها الفرصة بذلك، وقبل أن تلبي الدعوة الرسمية من شقيقتها بدونيا التي كانت قد تزوجت زميلا لها يدرس الطب في باريس ويقيم فيها، محملة بشهادتها الثانوية التي حصلت عليها ولم تتجاوز بعد السادسة عشر المزينة بالتقدير الذهبي الخالص الذي زرع البهجة على الأب وأسرتها ومنحها إجازة قصيرة لزيادة الريف والتعرّف على الفولكلور البولوني الشعبي والأزياء التقليدية والرقص والغناء، وحاولت فيه تدريس الأطفال اللغة البولونية وإحياء التراث القومي في نفوسهم. الفتاة الغريبة ذات الاسم العجيب كانت نظرات الاستغراب والدهشة تصيب الجميع داخل حصة الفيزياء كلما حضرت ماري وأصرت على الجلوس في المقعد الأمامي الذي لا يبتعد كثيرا عن الشاب الصغير ذي العينين الزرقاوين الذي عين معيدا في الكلية قبل أن يصبح رئيسا لفرع الفيزياء والكيمياء في الكلية، إنه بيير كوري الذي سترتبط به فيما بعد ويصبح زوجها وشريك عملها القادم، حينها يبدأ أحدهما بالتساؤل ويجيب الجميع: إنها الفتاة الغريبة ذات الاسم العجيب، لكن ماري تحاول تفادي سماع هذه الكلمات أو نظرات الاستغراب وربما الاستحقار والاستخفاف قليلا بهذه الريفية البسيطة ذات اللباس القاتم، تحاول أن تتغلب على كافة العقبات التي تعترضها التي على رأسها جهلها التام باللغة الفرنسية، وباتت قليلة الاختلاط بالطلبة الفرنسيين بسبب خجلها مكتفية ببعض من زملائها البولونيين، أما الجنس الآخر فقد كان آخر همومها كونها بقيت متعطشة إلى العلم وأرادت تحقيق حلم والدها لحظات وداعه له وهي في الرابعة والعشرين وفي خضم عناقها له مودعة ومتمتمة له بالقول "…. لا تجزع يا أبي، لن أغيب سوى سنتين أو ثلاثة فقط ثم أعود إليك حاملة شهاداتي العليا ونعيش معا.."، ففضلت أن تعيش بمفردها في غرفة صغيرة ليس لها نور سوى نور مصباح الغاز القديم، صديقها الدائم البرد الذي يضرب في الليل ويختبئ في النهار، فلا مال لديها ولا وقت لتؤمن التدفئة أو تشتري قطعة من اللحم تتغذى عليها، تفضل الاكتفاء من الطعام بقطعة من الخبز وقليل من الزبدة حتى أصيبت جراء ذلك الإهمال بسوء التغذية وفقر الدم واضطرت شقيقتها بدونيا التي هرعت إليها وزوجها إلى حملها واصطحابها والإقامة معها في منزلها، وما أن استعادت عافيتها حتى عادت أدراجها إلى غرفتها المظلمة رافضة المكوث مع شقيقتها وزوجها مفضلة الاهتمام بنفسها وتحمل مصاريف وأعباء حياتها بمفردها. احترام ومحبة المؤلف كان العديد ممن تعرفوا على الفتاة الريفية ماري قد أخذوا يلاحظون (وفي هذه المرحلة تحديدا)، مدى قدرتها على التنظيم والدقة في كل شيء، صبرها، عنادها، إصرارها، حب معرفتها لكل شيء تريد أن تفعله، تعرف ماذا تريد وتسعى بالتالي إليه بكل قوتها وصفاء ذهنها، فما كانت تريده ليس مالا أو جمالا أو نسبا أو رجلا حتى، فقط تريد المزيد من المعرفة والعلم حتى أخذ نجمها البولوني يَشع في سماء العلم والمعرفة.. وكان أُول الملاحظين هو أستاذ الفيزياء بيير كوري الذي أدرك سريعا ذكاء هذه الفتاة الخارق وجديتها النادرة، وانطلق يَقترب منها شيئا فشيئا حتى تم له اللقاء الأول عام 1893 بعد أن نجح في لفت انتباهها بهدوء وبساطة ووضوح للأفكار، إضافة إلى شخصيته التي توحي لها دائما بالثقة والمَحبة، حتى ذهب ليكتب في مفكرته أثر ذلك اللقاء الأول يقول ".. إن النبوغ العلمي نادر جدا لدى النساء، لكنني اجتمعت الليلة بفتاة جميلة الطلعة نيرة الفكر وسعدت كثيرا بمعرفتها واكتشاف نبوغها وأن التحدث إليها عذب جداً…."، فكان لبيير سحره الخاص، فهو ذكي طبيعي الأناقة تزين وجهه لحية صغيرة تتمناها وترغبها كل فتاة تقريبا، تسطع من فوقها عينان زرقاوان جميلتان وذكيتان.. انطلق بيير كوري من باريس وانحدر من أسرة علماء تصنف بالمبدعين والعباقرة، كيف لا وقد استطاع أن يصبح أستاذا معيدا في كلية العلوم وهو لم يتجاوز بعد التاسعة عشر، وينتقل منها لترؤس فرع الفيزياء والكيمياء في الكلية، إضافة إلى أنه عرف جيدا كيف يوقع بها وأين تختبئ نقاط الضعف فيها، فهي تريد المعرفة والعلم، لهذا كانت هديته الأولى لها عبارة عن كتاب علمي من تأليفه كتب عليه عبارات منمقة كإهداء قال فيه "…إلى الآنسة سكلودوفسكا مع احترام ومحبة المؤلف…". الزواج… خيانة وطن أم أيام للعسل استطاع الشاب الجميل والأستاذ بيير أن يستميل ويستلطف ويملك جزء من قلب الفتاة الشقراء ماري بعد حصولها على كتابه وعلى مَحبته واحترام الكاتب لها كما هي حتما، وانطلق من خلال هديته إلى الاتصال بها وزيارتها على الدوام في غرفتها الصغيرة، يَتجادلان وينفقان الساعات تلو الساعات في الأحاديث العلمية، حتى أخذت اللقاءات تطول وتطول مع مرور الوقت وتقدم طالبا الزواج منها وما كان منها إلا أن رفضته بداية وترددت فيه معتبرة إياه خيانة لوطنها بولونيا الذي يجب عليها التضحية لأجله والعودة إليه، وعادت بالفعل، وهنا تمسك بيير بطلبه وأخذ يلاحقها برسائل الحب والعشق محاولا إقناعها تارة بالعاطفة وتارة أخرى بالمنطق، يحاول أن يتحاور معها بالعلم والمعرفة حتى بات صعبا عليها الإفلات منه خاصة بعد أن أبدى رغبته واستعداده للحاق بها إلى موطنها بولونيا والإقامة معها هناك والعمل كمدرس للغة الفرنسية، وبما أنها تعلم جيدا أي تضحية هذه التي سيقدمها بيير، فقد قررت العودة إلى باريس حتى كاد قلب بيير أن ينفجر من السعادة بعد أن انفطر قلبه من الحب والعشق وأضحى متيما بها حتى أخمصيه، لكن مع ذلك كان عليه أن ينتظر عدة أشهر قبل أن يتم الزواج ويدخلها إلى القفص الذهبي الفرنسي ويبدأ في قضاء أيام العسل السعيدة. ماري سكلودوفسكا… أم ماري كوري العالمان المتزوجان يتقاسمان الطريق نحو التألق بشكل طبيعي وبسيط كان السادس والعشرون من شهر غشت من العام 1893 آخر يوم في حياة الآنسة مانيا سكلودوفسكا وبداية جديدة لتاريخ جديد يحمل اسما جديدا هو السيدة ماري كوري، فاليوم أكمل بيير كوري التجهيزات الخاصة بالقفص الذهبي المنمق بالعطر الباريسي والمضيء كأنوارها حتما، فقد وجد أخيرا المرأة التي ستشاركه مراحل علمه وطفرات حياته المستقبلية، المرأة التي لا تزال تبحث عن فستان يليق بهذه المناسبة السعيدة فما تحتويه خزانتها وغرفتها الصغيرة المظلمة ليس سوى ثوب المختبر الذي لا يعد ملكا لها ويدخل في ملكية الكلية، وما كان أمامها سوى أن تطلب من والدة صهرها أن تُعيرها ثوباً يمكن أن تحوله بعد الزفاف إلى ثوب للعمل، وهو الأمر الذي رفضته وانزعجت منه شقيقتها بدونيا التي أخذت المبادرة وأحضرت خياطا وقماشا جديدا وصنعت للعروس ماري ثوبا جميلا من الصوف الكحلي اللون يرتفع في أعلاه بلوز مقلمة باللونين الكحلي والأزرق حتى بدت العروس الجميلة أشبه بحوريات نهر السين الجميل اللواتي أخذن يتغندرن في الشوارع الباريسية المضاءة وكاد أن ينسى بيير حور العين التي يسمع عنها وتعيش في الجنة بعد الموت، بدت أنيقة وسعيدة رغم غياب الثوب الأبيض والغداء التقليدي والهدايا الثمينة التي لم تجاريها فرحتها بحضور والدها الذي بات فخورا بها، وازدانت وجنتاها حينما أخذ يتحدث إلى والدي بيير وبلغة فرنسية سليمة وبدأ يقول ببساطة لهما "سوف تكون ماري جديرة بالاهتمام والمحبة، فمنذ ولدت هذه الفتاة لم تسبب لي أي متاعب..". شهرزاد في باريس كان الزواج بَسيطا للزوجين، زواج مدني اقتصر على بعض أفراد العائلة وبعض المقربين ليس إلا، وانطلقا سريعا إلى بداية مشوار حياتهما الزوجية في شقة صغيرة متواضعة اختاراها معا، يرفرفان كعصفورين أخذ الحب السامي يختبئ دائما تحت جناحيهما، يصعد من القلب ليستقر في العقل ويحوْله سريعا إلى طاقة وعمل لا تحدي وغيرة وحسد، يدندنان دائما بكلمات الحب والعشق وكأن شهرزاد بعثت إلى باريس وانطلق أميرها شهريار يروي لها قصة من قصص ألف ليلة وليلة السعيدة ويقول "…سنبدأ حياتنا المثيرة وسأكون أميرا وأنت الأميرة، لن أسمح بشيء بيننا من الفراق فشموع قلبي دائما في احتراق، صادفتك بالليل في باريس واجتاح قلبي عاصفة وهستيريا وغيرة، إنها ثورة خرساء، سكون واجتياح ووجع وحب وعشق وحيرة، بالأمس يا تاج البنات كنت بزي الطالبات بضفائر كسنابل ترقص بين العَبرات، والعيد حط بياضه بين الشفاه الباسمات، سنسير معا عمر الكفاح والنجاح، سترقص أمانينا معا وتتعانق أرواحنا معا حتى يحين الصبح وصوت الديك صاح، لن نترك أحدا يدوس مفاتيح القصائد أو يصلب عصافير الصباح، أين أنت يا شهرزاد..؟، أين اختفيت؟، هل رضيت! هل قبلت! أم رفضت أم أبيت!!، أين أنت، فترد الأميرة شهرزاد: اسأل الظن يا رجل الصعاب، فأنا اخترتك وحدي وجنبك أبدا لا أهاب، ستحميني حتماً من ليل الذئاب، وستطير بي كما وعدتني إلى أهلي وأبي وموطني كلما طال الغياب، فالحب فينا سيحيا بلا سقف ولا جدران ولا باب، فالحب بلا وطن غياب ووطن بلا حب عذاب واغتراب، وأنت لي الوطن، والحب فيك قد رمى سهمه وأصاب…".