لم يعيشوا حياتهم جزافا، بل كانت لهم رسالة أرادوا إيصالها للناس، إنهم أولياء الله الصالحين الذين خاضوا تجربة روحية وتأملا وجوديا لتحقيق الوعي بمقامات التقوى، وبما أننا في شهر العبادة والذكر، تأخذكم "بيان اليوم" طيلة أيام شهر رمضان المبارك، في صحبة أشهر أعلام التصوف في الإسلام، لنسافر معهم إلى عوالم العشق الإلهي، ونسبر أغوار عالم التصوف وخباياه، ولنتعرف أيضا على التنوع الكبير في أشكال الولاية والطرق إلى الله. الرحلة الثانية عشر: ابن سبعين "أعوذ بالله من همة تقف بل أعوذ بالله من عقل يقنع" فيلسوف صوفي أندلسي له إسهامات عديدة، وهو أبرز ممثل لمذهب الوحدة الوجودية المطلقة، وقد شغل أذهان المسلمين من خصومه وأنصاره بمواقفه وآراءه في الأندلس، المغرب، مصر والحجاز زمنا طويلا، حيث اختلاف فيه الناس بين الكفر والقطبانية، وحاز بذلك شهرة عظيمة في العالم الإسلامي. فأبرز ما يميزه أنه كان مفكرا ناقدا، استوعب كثيرا من الآراء والفلسفات الإسلامية وغير الإسلامية، ونقدها نقدا يدل على ذكائه وفطنته. لم ينل ابن سبعين شهرة في العالم الإسلامي وحسب، وإنما نال أيضا شهرة في العالم الغربي المسيحي، في بلاط الإمبراطور "فردريك الثاني" حاكم صقلية بأجوبته على أسئلة الإمبراطور الفلسفية، وعرفه كذلك البابا "أنوسنت الرابع" على أنه أعلم المسلمين في عصره، وعرفه بعض فلاسفة المسيحيين مثل الفيلسوف المسيحي الإسباني "ريموندو لوليو". لكن على الرغم من مكانته وشهرته هاته في الشرق والغرب، ظل مذهبه مجهولا أو شبه مجهول، إذ لم تلق مصنفاته قديما وحديثا عناية تذكر، فقديما لم يشرحها الشراح كما شرحوا كتب غيره من متفلسفي الصوفية كابن عربي وابن الفارض، وذلك لغموض أسلوب ابن سبعين في مصنفاته، وبقيت هذه المصنفات إلى الآن مخطوطة ومبعثرة هنا وهناك. هو عبد الحق بن إبراهيم بن محمد بن نصر بن محمد، ويكنى ب" أبي محمد" ويلقب ب"قطب الدين"، ولد في مرسية بالأندلس سنة (614 ه) لأسرة عريقة، درس العربية والآداب بالأندلس على جماعة من شيوخها، وشارك في دراسة منقول العلوم،ومن أشهر مؤلفاته "رسائل ابن سبعين التي جمعها وحققها الدكتور عبد الرحمن بدوي. هاجر من الأندلس حيث ضاق ذرعا بهجومهم وتضييقهم عليه، فقرر أن يغادر الأندلس إلى غيرها من البلاد،ليجد صدى وقبولا في غير الأندلس من البلدان الإسلامية، حيث انتهى المطاف به إلى مدينة سبتة وأقام هو وأتباعه في هذه المدينة لفترة داعيين الناس إلى طريقتهم الصوفية، ويقال أن ابن سبعين لما وصل إلى سبتة، أعجبت به امرأة من أهل المدينة، وعرضت عليه أن تتزوجه فقبل، فشيدت له منزلا وزاوية أقام فيهما. لكن الرياح لم تجر بما تشتهيه سفن ابن سبعين، إذ أخرجه فقهاء المغرب من ديارهم وأرسلوا قبله رسولا إلى مصر يحذر أهلها منه بدعوى أنه ملحد قائل بوحدة الخالق والمخلوق، فيقول: " أنا هو وهو أنا". بعد ذلك رحل إلى مكة مكرسا جهوده للدعوة إلى التصوف على طريقته، وكان يحج مع الحجاج في كل عام، ويلتزم الاعتمار على الدوام وظل مقيما بمكة إلى أن وافته المنية سنة 669 ه. كان ابن سبعين صوفيا يمزج التصوف بالفلسفة، وكانت الفلسفة أغلب عليه من التصوف، فيقول الذهبي عنه: "إنه كان صوفيا على قاعدة زهد الفلاسفة وتصوفهم"، ويقول عنه الفاسي: "وكان علم الفلسفة قد غلب عليه فأراد أن يظهره متسترا في ستر وخفا، وغير مصطلح الفلاسفة في بعض ألفاظه حتى لا تنفر النفس عن مقاله، وقد ادعى الترقي عن الفلسفة والتصوف لما انتحل من دعوى الإحاطة والتحقيق"، مما يقودنا إلى الاستنتاج بأن ثقافة الرجل مكونة من عناصر فلسفية وأخرى تصوفية.