أوغل الجنرال السيسي برفق في مرقاة السلطة العسكرية إلى أعلى منزلة فيها ثم قاد ومن ورائه "خير أجناد الأرض" و"شعب الله المختار" ومن يدور في فلكه "ثورة شعبية عسكرية" في مصر ستلهج بها الألسن حينا من الدهر وذلك لحماية البلاد من التفتت والفساد والاستبداد و"الأخونة" و"السورنة" ومحاربة "الباطل" المنتفش المنتعش في الثالث من يوليو 2013 ، وقد تفرق الناس واختلفوا في وصف حركة الجيش بين الثورة والانقلاب . وبعد أقل من سنة قاد الجنرال برايوت تشان أوتشا تحركا عسكريا للجيش التايلاندي في الثاني والعشرين من ماي 2014 ،وقد تواطأ الجميع على نعته بالانقلاب العسكري و استغل "المغرضون" "الحاسدون" ممن تفصلهم عن الإنصاف أستار صفيقة وحجب كثيفة هذا الانقلاب لمقارنته بما حدث في أرض الكنانة ووصفه أيضا بالانقلاب . وفي ما يلي مقارنة "بريئة" بين الحدثين للوقوف عند الفروق والاختلافات التي تثبت "تهافت" الاتجاه الذي يصف "ثورة" السيسي بالانقلاب ، وأول فرق يمكن الانتباه إليه بين البلدين هو طبيعة النظام السياسي ففي تايلاند ملكية يسود فيها ملك يوصف بأنه نصف إلاه تمنحه صفته وأتباعه وضع تشريعات بصيغة إلاهية ، أما في أرض الفراعنة فنجد نظاما جمهوريا قمة السلطة فيه لرئيس منتخب لا يخاف في الله لومة لائم ولا سطوة ظالم ولا سلطة حاكم ، وكل مؤسساته منتخبة تستمد شرعيتها من الشعب وتعمل على إنفاذ رغبته وإرادته. وما يفسر هذا الكلام هو قيام قائد الانقلاب في تايلاند دون مهادنة أو مداهنة بالتصريح عبر التلفزيون الرسمي باستيلائه على كل السلطات ، أما في بلاد الأهرام فإن الجنرال السيسي قد أكد عبر التلفزيون عن عدم رغبته في نيل شرف حكم مصر الذي كان يحلم به منذ أمد بعيد بمباركة الزعيمين الخالدين قائدي انجازات 1967 وكامب ديفيد وإن كان أصبح مشيرا ثم رئيسا فالعبرة بالنوايا لأن الأعمال بالنيات وتجري الرياح بما لا تشتهي السفن ، فهل يلام الرجل على ما لا يطيق؟ وبمراجعة إرهاصات ما قبل تحرك الجيشين نلاحظ أنه في تايلاند قد استمرت الأزمة السياسية الأخيرة حوالي ستة أشهر توسط الجيش فيها بين طرفي الأزمة السياسية ورعى جولتي حوار بين الطرفين، وقد كان الأمر مختلفا في أرض النيل فقد كان الجيش طرفا في الازمة السياسية حرصا على بقاء الدولة وفرض النظام، وقد اقترح مبادرة نقلها عن المعارضة للرئيس المنتخب محمد مرسي الذي رفضها بالموافقة عليها في آخر خطاب رسمي له مما فرض على الجنرال "المتدين" حمل نفسه على ما تكره في ساعة العسرة هاته فأمر "غير راض" الجيش بالتحرك و"الثورة" لانتشال الأمة من مستنقع الفتنة واتقاء نار الفوضى التي لا تصيب الذين ظلموا خاصة ، فهل بعد هذا يشكك منصف في "ثورة" الجيش المصري؟ ثم إنه بالنظر إلى لحظة تلاوة البيانين تتضح التفاوتات الآتية ; في تايلاند تلا قائد الانقلاب بيانه جالسا بين أعضاء المجلس العسكري خالعا قبعته تغطي وجهه ملامح الطمأنينة ، أما في مصر فقد تلا السيسي بيانه مرتديا قبعته واقفا بين رفاق "الثورة" العسكريين والمدنيين تعلو وجهه سحنة الخوف والترقب على مصير الوطن فأعظم به من سلوك وأكرم به من رجل ، هذه صفات وأخلاق الجنرالين فهل يستويان مثلا ؟ قد يشتبه الأمر على البعض في مرحلتي إلقاء البيان وقبله ولكن الاجراءات اللاحقة لا تدع مجالا لارتياب المبطلين في اختلاف المشهدين ، فقد أعلن الجنرال أوتشا تعطيل الدستور جزئيا وحل مجلس الشيوخ واعتقل طرفي الأزمة وحوالي مائتي شخصية سياسية وجامعية وقد جاءت الإجراءات في مصر على خلاف ذلك فقد علق السيسي العمل بالدستور كليا وليس جزئيا لأن الثورة تنسخ ما قبلها كما أنه لم يحل مجلس الشيوخ وإنما حل مجلس الشورى واعتقل الرئيس المنتخب ومؤيديه فقط وبالمقابل تمت مكافأة أنصار "ثورة" العسكر وإكرام وفادتهم بجنيهات مرصودة ومناصب موعودة ، واعتقل حوالي عشرين ألفا من المعارضين ، فهل بقي من شك في البون الشاسع بين المشهدين ؟ ولعل ردود الفعل تجاه الحدثين من قبل أمريكا تزيل الغشاوة عن العيون والوقر من الآذان ، فقد هددت أمريكا باحتمال تعليق المساعدات المقدرة بعشرة ملايين دولار لتايلاند ، أما في الحالة المصرية فقد جمدت أمريكا جزءا من المعونة العسكرية بالفعل نكاية في "ثورة " السيسي ،وما نقموا منه إلا أن انحاز إلى إرادة أكثر من أربعين مليون مصري ممن لم تخب في نفوسهم بواعث الأمل خرجوا دفعة واحدة في الثلاثين من يونيو لأكثر من ست ساعات تحت قيظ الظهيرة ،ولأن أمريكا أخذت على حين غرة لأن مكالمات وزيري دفاع البلدين لم تكن بالطول الكافي . أفبعد هذه الاختلافات البينة والفروق الواضحة بين المشهدين المصري والتايلاندي يصر المتربصون على اعتبار الثالث من يوليو انقلابا عسكريا ، ما لهم كيف يحكمون ؟ أحمد هيهات