تكشف مجموع التفاعلات التي برزت بعد تقديم المضامين الرئيسية للمراجعة الدستورية عن مخاض حاد من أجل إخراج مشروع الدستور من عنق الزجاجة، وخاصة بعد المواقف التي تم التعبير عنها بوضوح ضد ما اعتبر إرهاصات انقلاب هوياتي ومرجعي تمثل في بوادر التراجع عن المقتضيات الدستورية الحالية ذات العلاقة بالهوية المغربية والمرجعية الإسلامية للدولة والمجتمع. والتوجه عوضا عن ذلك إلى إدماج مقتضيات جديدة تضعف ما تم النص عليه رغم محدوديته، وذلك في الوقت الذي كانت التطلعات تسير نحو تعزيز تماسك الهوية المغربية وتقوية موقع المرجعية الإسلامية للمجتمع والدولة، وفق ما جاء في الخطاب الملكي ل9 مارس. للأسف ثمة استهانة عند البعض بخطورة قضايا الهوية والمرجعية في الوثيقة الدستورية، وكذا بعلاقتها العضوية بالنظام السياسي البرلماني والحكومي المقترح في تلك الوثيقة، ونقف هنا عند عنصرين يمثلان النموذج الجلي لاستيعاب هذه الخطورة. فعلى مستوى قضايا الهوية، تفيد تجارب العديد من الدول التي «لغمت» نظامها الدستوري بعناصر التنافر الهوياتي والمحاصصة سواء منها الطائفية كلبنان أو المذهبية- الإثنية كالعراق أو اللغوية كبلجيكا، (تفيد) أن نظامها الديموقراطي مهما بلغت جودته من الناحية المعيارية، فإنه يبقى مشلولا بفعل المحاصصة القائمة في الحياة السياسية. وللعلم، فإن المحاصصة قبل أن تتشكل كنظام لتوزيع السلطة والثروة وفق الحصص بين مجموع مكونات البلاد، تكون بداياتها بإقرار مقتضيات دستورية تؤسس للتنافر بين مكونات الهوية، ولا تضع قواعد للجمع والتكامل بينها، وتُضعف من سمو الانتماء الوطني لمصلحة الانتماء للهويات الفرعية، والنتيجة هو ترك نظام المحاصصة يتشكل كواقع فعلي وثقافة مهيمنة قبل الانتقال إلى ترسيمه، ثم يكون لفشل المحاصصة دور مفصلي في تفكيك الدولة وتجزئتها. قد يبدو مثل ذلك أمرا مستحيلا، لكن التسلح بوعي استراتيجي مستقبلي يفرض عدم استبعاد مثل هذه المآلات، وخاصة بعد أن ظهرت مخاطر الانزلاق إلي اعتماد نظام هوياتي هلامي متعدد الروافد، بما فيها الهامشية جدا، ودون خيط ناظم يضمن تكاملها، بل يأتي الاعتراف الدستوري بها ليمثل المستند في تغذية الاحتجاجات الهوياتية الهادفة لتكريس التمايز والانفصال عن باقي الهويات الفرعية المفترض أنها منافسة. والمطالبة بفك الارتباط بما يرمز لها، أو تأسيس روابط هامشية لتعزيز القدرة على المنافسة، وهو ما ظهرت إرهاصاته بوضوح في الاستجابة من قبل البعض في مشروع الصياغة الدستورية لدعوات تقليص العلاقة بالعالم العربي والإسلامي، وإضعاف البعد العربي في الهوية المغربية، وتأسيس ثنائية العربية في مقابل الأمازيغية، وإعطاء المكون الثقافي العبري بعدا هوياتيا مشوشا يخدم سياسة الخلط. وهي دعوات لا تستند على مرتكزات علمية ومناقضة للواقع التاريخي والجغرافي والاجتماعي، وخاصة ما يهم الارتباط العضوي للمغرب بالعالم العربي- الإسلامي. أما على مستوى المرجعية الإسلامية، فإن بعض الصيغ التي جرى تداول كيفية النص عليها في الوثيقة الدستورية، حولت المغرب من دولة إسلامية إلى بلد مسلم، كما لم يتم ضبط العلاقة بين المرأة والرجل المرتبطة بالتشريع الأسري بمقتضيات صريحة، مثل ما حصل في مدونة الأسرة، وعوض النص على أن الدولة تكفل حرية ممارسة الشعائر الدينية كما كان في الدستور الحالي أصبح الحديث على النص على حرية المعتقد في إطار عدم المس بالنظام العام وهي قاعدة من الناحية النظرية لا تمثل مشكلا لكن وضعها في السياق المغربي يحيل على إشكالات أخرى مرتبطة عضويا بالأمن الروحي والوحدة المذهبية، بما يعني تقديم هدية لكل من دعاة التنصير الأمريكي، وللعاملين من أجل علمنة متطرفة على الطريقة الفرنسية، وللرافضين للوحدة المذهبية الدينية للمغرب، وهي عناصر ثلاث شكلت أساس توجهات الأمن الروحي والعقدي في مواجهة تحديات مغرب هذا القرن، وذلك حتى لا يتعرض للذوبان والاندثار في زمن العولمة الجارفة. في زمن الربيع الديموقراطي لم يعد مقبولا فرض دستور يُحرف حقيقة المجتمع والدولة، أو يُؤسس لزرع الفوضى والتفكك في بنية المجتمع والدولة، وإلا فقد الدستور شرعيته الديموقراطية، ولهذا، فإن توجس عدد من الجهات والفعاليات إن لم نقل توجست من حيثيات حالة التوتر والاستقطاب الثنائي الحاد الذي ظهر في الأيام الماضية حول قضايا المرجعية والهوية في مشروع الدستور المعدل، توجس مشروع والتطور الديموقراطي لبلادنا يتطلب معالجة الاختلالات بوضوح وحزم. لقد صحح بلاغ الديوان الملكي ليوم الجمعة جزءا من الخلل الذي ظهر جليا في مسار المراجعة الدستورية وعرضه لتشويش كبير كان من شأنه استمراره أن يخدم دعوات التشكيك في مصداقية وجدية مشروع الإصلاح الدستوري، وهو تصحيح طال مستويين مفصليين، هما منهجية تدبير التشاور حول مشروع الوثيقة الدستورية وتمكين أعضا الآلية السياسية من مسودة الدستور، والثاني التأكيد على الإطار العام الحاكم في التعاطي مع مضمون هذه المسودة والمتمثلة في كل من «التوافق الإيجابي، والغيرة الوطنية، والتشبث المتين بثوابت الأمة، والإلتزام الديموقراطي». ونعتبر أن مجموع القوى السياسية والنقابية والمدنية المعنية بمستقبل الديموقراطية المغربية مطالبة بتحمل مسؤوليتها في المرحلة القادمة، حتى تتمكن من إخراج الدستور من عنق الزجاجة ويقع اعتماد دستور ديموقراطي لا يضع المغرب في صدام مع هويته ومرجعيته.