أثار إصرار بعض الإدارات العمومية على استعمال اللغة الفرنسية في تعاملاتها الورقية مع المواطنين بدل اللغة العربية جدلا كبيرا في المغرب في الآوونة الآخرة، وبالرغم من أن الدستور ينص صراحة على أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية بالبلاد إلا أن القضاء لم يستطع الحسم فيه بشكل نهائي. وفي نطاق تطبيق مقتضيات الدستور سبق للوزير الأول السابق عبد الرحمن اليوسفي أن وجه منشورا موضوعه : '' استعمال اللغة العربية '' وهو المنشور رقم 98 / 58 المؤرخ في 22 شعبان 1419 ( الموافق ل 11 دجنبر 1998 )، وجهه إلى الوزاراء وكتاب الدولة، والذي جاء فيه ''... بأن الإدارات العمومية والمؤسسات العامة والجماعات المحلية ملزمة باستعمال اللغة العربية...، في جميع معاملاتها، سواء فيما بينها أو مع المواطنين ...'' والذي طلب منهم فيه :( ... دعوة كافة المسؤولين والأطر و الموظفين العاملين بالإدارات العمومية والمؤسسات العامة الخاضعة لوصايتهم . وكذا الجماعات المحلية، إلى استعمال اللغة العربية في تحرير المراسلات والوثائق الإدارية، وإخبارهم بأنه يمنع استعمال لغة اخرى غيرها ... ''، وقد سار الوزير الأول، عباس الفاسي، على نفس التوجه من خلال منشوره رقم 4 / 2008 بتاريخ 15 ربيع الآخر 1429 الموافق ل 22 أبريل .2008 وفي قضية اليوم، سنتوقف على قانونية استعمال اللغة العربية في كافة تعاملات الإدارات من خلال دعوى قضائية سبق أن رفعها النقيب عبد الرحمان بنعمرو أمام المحكمة الإدارية بالرباط في مواجهة الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، وهو الحكم الذي حدد تعويضا عن الضرر المعنوي، خمسة آلاف درهم ( 5000 درهم ). دعوى قضائية تلقى مكتب النقيب عبد الرحمان بنعمرو مراسلة محررة بلغة أجنبية ( الفرنسية ) من الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، فأرجعها لهذا الأخير مطالبا بتعريبها، لكن الصندوق رفض الاستجابة للطلب، الشيء الذي دفعه إلى رفع دعوى قضائية في الموضوع، ومطالبة المحكمة القضاء على الصندوق (مرتكب الفعل)، ووزارة التنمية الاجتماعية (الوصية إذ ذاك على الصندوق)، والدولة المغربية (المسؤولة عن أخطاء موظفيها ومصالحها الإدارية) القضاء، على وجه التضامن بين الثلاثة المذكورين، بتعويض معين عن الأضرار المادية والمعنوية التي أصابته بسبب عدم استعمال اللغة العربية في التواصل معه. وبتاريخ 28 / 12 / 2001 وتحت عدد 1059 (الملف 1040 /99 ت) قضت المحكمة بأداء الصندوق الوطني للضمان الإجتماعي لفائدة المدعي مبلغ (5000 درهم ) كتعويض عن الضرر المعنوي الذي لحقه من جراء رفض الصندوق المدعى عليه مراسلته باللغة العربية. وقد خرج الحكم المذكور بالقاعدة الواردة في صدوره وهي :''أن استعمال الإدارة للغة الفرنسية في مراسلاتها مع المواطنين ، لا يشكل في حد ذاته خرقا للدستور الذي ينص في ديباجته على أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية للبلاد، إلا أنه عندما يتمسك أحد المخاطبين بتلك المراسلات بضرورة مكاتبته باللغة الرسمية فإن الإدارة تكون ملزمة بالاستجابة لهذا الطلب الذي يجد سنده في ديباجة الدستور ومنشور الوزير الأول عدد 98158 ''. استجابة جزئية وفي تعليق له على هذا الحكم، أكد النقيب بنعمرو أنه بالرغم من كون الحكم المذكور استجاب جزئيا إلى مطالب المدعي، فإنه ينطوي على العديد من الأخطاء، حددها في: أولا : اعتباره الإدارة غير ملزمة باستعمال اللغة العربية في تواصلها مع المواطنين إلا عندما يتمسك هؤلاء بوجوب استعمالها في التراسل معهم، مع أن استعمال اللغة العربية من قبل الإدارة وكافة المؤسسات العمومية هو واجب قانوني في جميع المجالات سواء تعلق الأمر بالمراسلات أو بالتسيير والتصرف داخل الإدارة وفي علاقة هذه بالمواطنين وبالأجانب المقيمين بالمغرب وبباقي الإدارات والمؤسسات العمومية والخاصة، المغربية منها والأجنبية، وهو واجب تلقائي لا يتوقف تنفيذه على مطالبة المواطنين الإدارة المغربية بالتعامل معهم بالعربية. وقال بنعمرو إن السند القانوني لوجوب استعمال اللغة هو الدستور الذي ينص على أن اللغة الرسمية للبلاد هي العربية، حيث المعلوم، قانونا وفقها واجتهادا، بأن جميع مقتضيات الدستور تعتبر من النظام العام، وأنه يترتب على عدم احترامها بطلان التصرفات والمؤاخذات التأديبية والجنائية والمدنية وفي مواجهة المسؤولين والموظفين الذين يخرقونها. ومما يؤكد أن مقتضيات الدستور من النظام العام ما جاء في الفقرة ما قبل الأخيرة من المادة 81 من الدستور وهي الفقرة التي تنص على أنه : '' لا يجوز إصدار أو تطبيق أي نص يخالف الدستور''. وإذا كانت الفقرة المذكورة تنص على أنه لا يعتد بالنصوص، سواء كانت متعلقة بالقانون أو بالمراسيم أو بالقرارات الوزارية، عندما تكون مخالفة لمقتضيات الدستور فإنه، من باب أولى وأحق ألا يعتد بالتصرفات المتعلقة بتسيير الشأن العام والصادرة من الإدارة والمؤسسات العمومية والتي تكون مخالفة لمقتضيات الدستور والتي من بينها ، على وجه المثال ، استعمال اللغة الأجنبية ضدا على مقتضيات الدستور يقول النقيب بنعمرو. الخطأ الثاني حسب النقيب بنعمرو، أن الحكم لم يستجب الحكم إلى طلب التعويض عن الضرر المادي بالرغم من تواضع المبلغ المطلوب ( 20 ألف درهم ) بمبرر أن المدعي لم يثبت الضرر. مع أن الضرر ثابت بقوة القانون، فالمواطنون، ومنهم المدعي، من المفروض أن تكون لهم معرفة بلغتهم الرسمية وهي العربية، وليس المفروض فيهم أن يدركوا أية لغة أجنبية، بما فيها الفرنسية، اللهم إلا إذا اختاروا ذلك، وهو أمر مستحسن، عن طواعية وفي إطار ربط الجسور مع الثقافات الأجنبية الأخرى، وهو أمر يهم على الخصوص المثقفين والباحثين..ويترتب عن ذلك أن مراسلة المواطنين بلغة أجنبية يترتب عنها عدم إدراك محتوياتها، مما ينتج عنه تعطيل ما يجب القيام به إزاء المراسلة وهو ما ينتج عنه الضرر المادي . ومن ناحية أخرى ، فإن مراسلات الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي لأرباب العمل، في الصناعة والتجارة والمهن الحرة، لا يهم هؤلاء الأرباب، المنخرطون في الصندوق وحدهم، وإنما يهم كذلك وبصفة أساسية، مستخدميهم الذين ليس من المفروض فيهم إتقان الفرنسية أو إدراكها بشكل جيد، ومن حقهم الاطلاع على المراسلة الصادرة عن الصندوق باللغة العربية التي من المفروض معرفتهم لها ، ومن حقهم ، تبعا لذلك أن يطالبوا مشغليهم بترجمتها للعربية ترجمة رسمية بما ينتج عن ذلك من جهد وضياع الوقت والمصاريف. الدستور واللغة العربية وبالنسبة الخطأ الثالث الذي رصده النقيب بنعممرو فيتمثل في أن الحكم المذكور حدد التعويض عن الضرر المعنوي في خمسة آلاف درهم ( 5000 درهم )، مع أن طلب المدعي في هذا الخصوص كان متواضعا جدا إذا لم يتجاوز مبلغ ثلاثين ألف درهم، مع العلم بأن القضاء المغربي سبق له أن قضى في طلبات التعويض عن الضرر المعنوي ، ضد بعض الصحف المغربية، بمبالغ خيالية وصلت إلى مائة و مائتين وستمائة مليون سنتيم، مع أن الضرر المعنوي لم يتجاوز إهانة المحكوم لهم بتلك المبالغ الضخمة . وإذا جازت لنا المقارنة في هذا الخصوص أفلا يعتبر إهانة المواطن بمراسلته بلغة أجنبية، بدل لغته الرسمية،أخطر وضررها المعنوي أكبر من أية إهانة أخرى -يقول بنعمرو-. وأضاف النقيب بنعمرو أن المحكمة الإدارية بالرباط تراجعت، إلى حد ما عن اجتهادها الوارد في الحكم المذكور موضوع التعليق، فقد أصدرت حكما أوجبت فيه على الإدارة، وبصفة تلقائية، استعمال اللغة العربية. وجاء في القاعدة التي خرجت بها أن '' إقدام الوزير الأول على إصدار منشور باللغة الفرنسية يشكل خطأ مرفقيا تسأل الدولة المغربية عن الأضرار المترتبة عنه '' ( قضية حزب الطليعة الديموقراطي الاشتراكي ضد الدولة المغربية والوزير الأول إدريس جطو ملف رقم 583 / 7 / 05 - المحكوم في 25 / 10 / 2007 تحت رقم 2100 ). ونظرا لأهمية الحيثيات التي خرج بها هذا الحكم ، فإننا ننقلها حرفيا فيما يلي :'' حيث إن تنصيص الدستور المغربي على أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية للبلاد، ينصرف حتما إلى إلزامية استعمالها في الوثائق الإدارية ذلك أن عنصر الإلزام في القواعد العامة لا يحتاج إلى التصريح به ضمن العبارات المكونة للنصوص الخاصة في حالة القواعد الدستورية بالنظر إلى شمولها وقوتها الملزمة.