إننا باسم المجلس العلمي المحلي لإقليم الناظور، وباسم أعضائه وجميع علماء الإقليم وخطبائه وأيمته، نتقدم بأصدق التعازي وأحرها، في فقدان سيدي أبي أيوب الأنصاري، فريد زمانه، ووحيد عصره رحمه الله، إلى المجلس العلمي الأعلى وإلى رفقائه في الدرب، علماء المملكة الشريفة ودعاتها المخلصين لدينهم ولملكهم ولوطنهم، وإلى كافة أفراد أسرته الصغيرة والكبيرة مغربا ومشرقا. وإننا إن بكينا الفقيد العزيز، فإنما نبكي من عرفناه صادقا في قوله، مخلصا في بحثه، نبكي من صدق القرآن حقا وصدق به وصادقه، واستغرق وسعه في إظهاره على أنه منبع الخير كله، ومصدر التقدم كله، ومبعث التمدن كله، وأنه الحل الأقوم والأمثل والفطري لمشاكل كل الناس أجمعين. نبكي عالما ذاع صيته مغربا ومشرقا، أَجَد في ذب الشبهات، والافتراءات، وكل ما حام من شكوك حول قرآننا وأحاديث نبينا صلى الله عليه وسلم، وشريعتنا ولغتنا وفقهنا وتراثنا الحضاري. إنه الأنصاري الذي نصر هذا الدين في ربوع المملكة الشريفة، الثَبْت في رد الطعون التي تترى على تاريخ الأمة، وفي ثوابتها وقادتها وعلمائها. وإننا إذ نتأسف بلوعة، نتساءل بحرقة: أحقا خبا من مغربنا العزيز نوره؟ كلا، إن العلماء، وإن رحلت أشخاصهم، لا يموت ذكرهم؛ فمن منا ينسى شخصية فريد الأنصاري والتي تميزت بجوانب، نادرا ما تتلاقى إلا في الأفذاذ من العلماء والأبطال؟ هل ننسى فريد الأنصاري القوال بالحق؟ هل ننسى زهده، وفلسفته للحياة التي كان لا يرى فيها إلا ساحة للوغى والمعارك والنضال، وليست موطنا للسكينة ولا واحة للدعة. كانت لفقيدنا فراسة واعية، وحاسة دقيقة بمسار الأحداث، يمحصها تحت مجهر تجاربه وخبراته، فيستخلص النتائج ليطمئن إلى المرامي والغايات. كان رجل البحث والفهم والقراءة ما بين السطور، منذ عهد المحبرة إلى سكون المقبرة، ذا شعلة ثائرة فائرة على كل متعالم، متفيقه، ضال مضل، يرميهم بلذاعة نقده، وغزير براهينه، وكم أدلته، فما صغر وما انكسر، وإنما انبرى ولسان حاله يردد: أنا إن عشت لست أعدم قوتا وإذا مت لست أعدم قبرا همتي همة الرجال و نفسي نفس حر ترى المذلة كفرا كان الرجل خطيبا مفوها، يروم في خطبه وفي أحاديثه وفي مجالسه إيقاظ الهمم، وإنعاش فورة الإيمان من إغفائها ليجعل من خشية الله تعالى وحده قانون وجود الإنسان على الأرض. حديثه شيق، كلماته تأخذ بتلابيب القلوب، لها جاذبية روحية تملأ النفوس لوعة، والعيون إكبارا، والعقول إجلالا. ومقالاته المنشورة - تمسك بمفاتيح القلوب بصراحتها النادرة، وصيحاتها الإيمانية المدوية المنذرة والمبشرة. فريد الأنصاري صان الدين، فصانه الدين، خدم العلم فخدمه العلم، كان يعظم الوطن فعظمه الوطن، عاش للأمة فعاشت له الأمة، كتب للإسلام، فكتب له الإسلام، عاش لله، وخلد الله ذكره في الصالحين. ولقد نافح عن حمى السنة المطهرة، وكان لها حصنا متينا، يجد في أن ينير حياة المسلم بتعاليمها وهداها. فقه الناس على أن فساد الدين في طرح السنة جانبا، وفي نبذها جرأة على الله عز وجل. عاش على هدى قوله تعالى في سورة المنافقين: ولله العزة ولرسوله وللمومنين فاعتز بإيمانه، وعلو همته، وقوة نفسه، صال وجال دون ملل ولا ضجر، يرفع راية الحق ويعليها، ويخفض هام الباطل ويرديها. كان ذا أخلاق عالية، أضفت عليه هالة من الهيبة والوقار، وقادت إليه مودات القلوب، لأنه كان عطوفا ألوفا جوادا، متواضعا تواضع العلماء. وإذا ما سأل سائل: من يكون فريد الأنصاري هذا الذي بكاه المغرب والمشرق؟ إننا لا نتردد لنقول: إنه خادم القرآن وعلوم القرآن، العالم بالسنة والمنافح عن حماها، العلامة المتبحر، المتفجر اجتهادا، العابد الزاهد، الفقيه الضليع، الخطيب الثائر، الكاتب النحرير. حقا، هو كل هذا وأكثر من هذا أيضا، كما قرأناه وقرأنا له، وجالسناه وجلسنا معه، وسمعناه وسمعنا منه لغوي بارع، ناقد ذكي، بصير بمذهب عالم أهل المدينة، جوال واع بأحداث التاريخ وسير أعلامه. وإننا لمسنا هذه الخصال، وهذا السلوك المتميز للشيخ الوقور، وهذه السمات السامقة، مما استمتعنا بأحاديثه، وخاصة مقالاته وكتبه. إننا لا نريد بهذا الكلام أن نرثي الفقيد، وما ينبغي أبدا أن يكون، لأن أمثال أبي أيوب الأنصاري، فريد عصره، ووحيد زمانه، أعز من أن تنحدر في فقدانه دموع الأسى، وأكرم من أن يتصايح عليه عويل الفقدان. إنه حي بيننا بأفكاره، وبيراعه، بمواقفه الشجاعة، بفضائله اللطيفة، وبمجالسه التي تتباهى بها ملائكة الرحمان، وبتلامذته الذين يصعب حصر تعدادهم. إن ننس، لا ننسى يوم نزلت به، وهو في أعز نشاطه وعطائه، تلك الوعكة القاسية التي غيبته عن المحافل والمجالس والمدرجات والمنابر شهورا عديدة، وكان في القلوب رجاء وفي النفوس أمل، وعلى الألسن دعوات بالشفاء العاجل، لكن المرض كان أعتى وأشد، فسار به رويدا وإلى رحاب الله، فطوته المنية إلى حيث الرحمة والمغفرة والرضوان، إن شاء الله.