لحظات مؤثرة هي تلك التي يعلن فيها أحد نواب رئيس مجلس النواب إيقاف الجلسة العامة من أجل إفساح المجال للسادة النواب من أجل أداء الصلاة. ينصرف كثير من النواب على اختلاف انتماءاتهم السياسية من أجل أداء الفريضة المكتوبة، ويصطفون في صف واحد فيتخلصون من انتماءاتهم السياسية والحزبية، ويتوجهون إلى قبلة واحدة يسبحون ويحمدون ربا واحدا. فهذا اشتراكي، وهذا حركي وهذا دستوري وهذا استقلالي، وهذا من فريق الأحرار وهذا من فريق العدالة والتنمية، وغيرها من الفرق والمجموعات النيابية، وآخرون من موظفي مختلف الوزارات وأطرها، الذين يأتون لتتبع مداخلات الفرق وتسجيل الملاحظات الخاصة بوزارتهم وآخرون من رجال الأمن ينتظمون وراء إمام يتم تقديمه من بين الجميع دون حساسية حزبية أو سياسية فيؤدون الركعات المكتوبة ويسلمون ثم يتصافحون، وربما عادوا إلى الجلسة العامة أو جلسات اللجن وكانت مواقفهم السياسية متعارضة، فهذا مؤيد وهذا معارض، وهذا ينتقد الحكومة وهذا يدافع عنها، لكنهم لحظة الصلاة مجتمعون في صف واحد متوجهون لقبلة واحدة. وكم هي مؤثرة تلك اللحظات التي تشاهد فيها وزيرا من وزراء الحكومة منضما إلى صفوف المصلين أو أم المسجد منفردا يؤدي فريضته. غير أن الصلاة رغم مركزيتها في الدين وكونها عموده الأساسي ليست هي العبادة الوحيدة، فمفهوم العبادة كما هو معلوم يتجاوز نطاق الشعائر التعبدية كي يشمل سائر مناشط الإنسان. هكذا هو مفهوم العبادة في التصور الإسلامي إذ معناه الأصلي هو التوجه إلى الله سبحانه وتعالى في كل شيء. والانطلاق من سمو مرجعية الإسلام على غيرها من المرجعيات حين التعارض وابتغاء رضوان الله في كل الأعمال العادية التي تتحول بهذه النية إلى عبادة وهذا واضح في قوله تعالى: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين) وقوله تعالى: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويوتوا الزكاة وذلك دين القيمة). وبهذا المعنى فإن الممارسة السياسية اليوم حينما تصطف في وجهة واحدة ويسعى القائمون فيها إلى تحقيق المصلحة العامة التي هي من صميم شرع الله كما قال ابن القيم وحيثما كانت المصلحة فثم شرع الله تصبح صورة من صور العبادة، وحينما تنطلق الممارسة السياسية من سمو المرجعية الإسلامية وتسعى إلى تثبيتها وترجمة أحكامها وقيمها في الحياة العامة وعلى رأسها قيمة العدل وقيمة عمارة الأرض وإصلاحها فإنها تتحول إلى أفضل مجال لممارسة العبادة. وفي تحقيق هذا المعنى ينبغي أن يتنافس المتنافسون وعلى هذا الأمر ينبغي أن يلتئم اجماع المغاربة جميعا بأحزابهم ومنظماتهم وراء أمير المومنين جلالة الملك محمد السادس بحيث يصبح التسليم للمرجعية الاسلامية أمرا محسوما من لدن الجميع وأن يصبح التنافس في الدعوة للعمل بمقتضياتها في الواقع دولة ومجتمعا ومنظمات وجمعيات بعيدا عن أي احتكار أو إنكار، احتكار ووصاية على للدين من البعض، وإنكار لهوية هذه الأمة وأصالتها التاريخية القائمة على أساس سمو المرجعية الإسلامية ودعوة إلى علمنة الدولة دستورا وممارسة من البعض الاخر. وارتباطا بإشارتنا لاقامة الصلاة في مجلس النواب فإن المتتبع للجلسات العامة وجلسات الأسئلة الشفوية على الخصوص في الآونة الأخيرة يٌسَر وهو يرى الاهتمام بالدعوة إلى تحسين تسيير الشأن الديني وتحسين تدبيره والعناية بالقيمين الدينيين ودور المسجد في ضمان الأمن الروحي للمواطنين واسهامها في جهود محو الأمية، وأن الأمر لم يعد حكرا على فريق دون فريق، وإنما يشترك فيه المعارض والمؤيد للحكومة، مما ينبئ عن رشد متزايد في مجال الإجماع على الثوابت الوطنية وعلى رأسها المرجعية الإسلامية يسر المرء لأن هذا هو السبيل العملي لإنها أي شكل من أشكال الإنكار والاحتكار والعمل الميداني الذي يقطع الطريق على أي غلو باسم الدين أو تطرف باسم العقلانية والحداثة. كما يسر للإجراءات المتخذة أخيرا في الحقل الديني، والمتمثلة في تعزيز دور المجالس العلمية وتوسيع نطاقها، والتأكيد على انفتاحها على محيطها وتعاونها مع الكفاءات العلمية غير المنضوية داخلها، وفي اطلاق إذاعة محمد السادس للقرآن الكريم، وفي بعض البرامج التوجيهية والدينية التي ظهرت في قناتينا التلفزيتين مما ينبئ عن بداية مصالحة لاعلامنا الرسمي مع المجتمع المغربي المسلم، ويأمل أن تنخرط كل القطاعات ذات الصلة في المقاربة المندمجة التي دعا إليها جلالة الملك من أجل تحصين الشباب من مخاطر الغلو والانحلال. قد يقول بعض المتشككين أو المتنطعين إن ما يظهر عند الدولة وعند بعض الهيئات الحزبية من عناية متزايدة بتطوير الشأن الديني إنما هو سعي لسحب البساط من الحركة الإسلامية أو من بعض الهيئات المعروفة بتركيزها على المرجعية الإسلامية مثل حزب العدالة والتنمية. ونحن نقول ونؤكد بكامل الصدق والاقتناع إننا نرحب بهذا النوع من السحب للبساط، لأنه تنافس في الخير فهو من الدولة ملء لمجال طبيعي وجب أن توجد فيه، وإغفاله والتهاون في شأن هذا الأمر غير الطبيعي ذلك أن مجال التوجيه التربوي والديني ينطبق عليه القول المشهور: >الطبيعة تخشى الفراغ<، نقول ذلك لأن قضيتنا بكل بساطة تتمثل كما يؤكد ميثاق حركة التوحيد والإصلاح في الإسهام في إقامة الدين<، وذلك يعني أننا لا نعلن أنفسنا أوصياء على الاسلام، ولا نسعى إلى احتكاره ونفرح لكل مبادرة تسهم في تحسين تدين المغاربة وتحصين شبابهم خلقيا من الغلو والانحلال، ونفرح إذا اتسعت دائرة الإجماع على المرجعية الإسلامية وفي ذلك فليتنافس المتنافسون مادامت القبلة واحدة والصلاة جامعة في مجلس النواب وفي غيره من المؤسسات والمجالات. ذ. محمد يتيم