خص الكاتب التونسي عفيف الأخضر جريدة الأحداث المغربية (1) بمداخلة ألقاها في مؤتمرالمؤسسة العربية لتحديث الفكر العربي الذي انعقد ببيروت ما بين 30 أبريل و2 مايو 2004 حول موضوع الحداثة والحداثة العربية. وكان عنوان مداخلته: كيف ننتقل من المدرسة السلفية إلى المدرسة العقلانية ؟، وقد كرر فيها جملة آراء درج على بثها وتكرارها في مقالاته السابقة. ولو استحضرنا نصوصا من مقالاته تلك سنلاحظ من التكرار والاجترار ما يجعلها نسخا متشابهة كالقطط السوداء في الليل، فالرجل ليس لديه سوى أسطوانة مشروخة قوامها أربع أفكار لم يمل من تكرارها، وأحيانا كثيرة بالألفاظ وصيغ التعبير نفسها، الأمر الذي يعكس فقرا معيبا في الفكر واللغة على حد سواء، ومع ذلك أفرد لها أحد مواقع الأنترنت يدعىالحوار المتمدن مساحة جمعت فيها كلمقالاته، وكأنها تنوير وتجديد يستحق أن يذاع ويعلم، وإن كان السؤال الواجب طرحه هو أي فكر وأي اجتهاد عند شخص يحفظ مزقا من الألفاظ والأفكار ثم يقوم بتكرارها كالببغاء كل وقت وحين؟ هل يستحق الأخضر الرد؟ أقول هذا وأنا أعلم أنه ليس عيبا في الكاتب ولا قدحا في ثقافته، أن يكون له موقف فكري يعبر عنه في كل ما يكتب، ولكن العيب هو أن ينشر هذا الموقف في شكل مقالات يكرر فيها أحيانا كثيرة الفقرات نفسها بالألفاظ والعبارات نفسها، دون تجديد في قول أو تعميق في فكرة أو توسعة في استدلال. وكان بعض الإخوة قد طالبونا بنقد مقالاته عندما أخذت تنشرها جريدة الأحداث المغربية، وكنا نعد بالقيام بذلك، ثم نتراجع بعد أن نطلع على ما كتب، لأننا لم نكن نجد مسوغا لإضاعة الوقت في الرد عليها، فهي في تقديرنا آراء متهافتة من تلقاء ذاتها ولا تحتاج إلى مزيد بيان لتهافتها أو سقوطها. لكن الذي دعانا إلى استحضار مداخلته هذه وإفرادها بالرد، هو أنها تطرح قضية من قضايا الساعة الآنية، أقصد قضية إصلاح التعليم، التي أصبحت الآن بفعل شروط ذاتية ينبغي الاعتراف بها وكذا بفعل إملاءات وضغوط دولية موضوع الساعة، الأمر الذي يستحق منا اجتذاب القضية وطرحها للنقاش في جريدة سيارة من المفروض في كتاباتها أن تنصت إلى الراهن والآني وتتابعه بالتعليق وإبداء الرأي. لا عفة ولا اخضرار وبعد هذا البيان ثمة في البدء ملحوظة عامة تبلورت لدي بعد قراءتي لمقالات الأستاذ عفيف الأخضر، لا بد من تسجيلها، وتتمثل في كون كتاباته في مجملها، وكذا في تفاصيلها، ينقصها الكثير من العفة والاخضرار، عفة في القول تنأى به من أن يهبط إلى الاستهزاء الصريح بقيم الإسلام والثابت من نصوصه، مع جهل فاضح بها وبدلالاتها وسياقات ورودها وشرائط تنزيلها وإعمالها، كما ينقصه اخضرار في الفكر والثقافة، حيث لا يجدد في معرفته وكتاباته، بل يقتصر على تكرار الشتائم وتوسل الهجاء الرخيص تحت لبوس التجديد وعناوينه ذات البريق الزائف. وأي دليل على نقص عفته أكثر من وصفه الاستشهادي الفلسطيني بكونه مكبوتا جنسيا!! بل أكثر من ذلك، فهو إذا كان قد تجرأ على الفلسطيني، مع أنه يبذل نفسه من أجل حقه في أرضه، وهو الحق الذي كفلته له كل الشرائع والقوانين، ومنها القانون الدولي ذاته، فإنه يتجرأ جراءة أكبر، حيث يسخر من مقام الألوهية في سياق تعليقه على حديث نبوي، إذ يقول في مداخلته: >الخوف من الزهد في الجهاد والنكول (التراجع) عن الحرب هاجس استحوذ على النبي منذ هجرته إلى المدينة وتغيير استراتيجيته من إقناع أهل مكة وحلفائهم من القبائل بالدخول في دينه إلى إرغامهم على الدخول فيه بحد السيف (كذا). سلاحه للتصدي لالزهد في الجهاد كان الترغيب بمقارنة متاع الدنيا الزهيد بمتاع الجنة الوفير. رواية ابن مسعود تزيد من مباهج الشهداء في الجنة في رواية ابن عباس: >... فيتطلع الله إليهم فيقول: ما تشتهون فأزيدكم؟ فيقولون: لا فوق ما أعطيتنا الجنة، نأكل حيث شئنا، إلا أن نختار أن ترد لنا أرواحنا في أجسادنا ثم نرد إلى الدنيا فنقاتل فيك مرة أخرى فقال: قضيت أن لا ترجعوا إلى الدنيا.<، ثم يعلق على الحديث ساخرا: وهو قرار مؤسف (يقصد قرار الحق سبحانه بعدم رجوعهم)،إذ لو رجعوا إليها وأخبروا إخوانهم في الإسلام بكل ما ذاقوه من ملذات الجنة لانتفت الحاجة إلى الجهاد ولأقبل الناس أفواجاً للدخول في الإسلام بفضل هذه المعجزة التي ما كانت لتترك مجالاً للشك في وجود الله ووجود الجنة والنار إلخ.<(2) وأقول: يكفي هذا السخف أن نورده بنصه، وبألفاظه ذاتها وأسلوبه اللغوي المتهالك مجردا عن التعليق، لأن في إيراده غناء عن الرد عليه، واكتفاء به لإيضاح مقدار السخف الذي يسكن جمجمة قائله. ونعود إلى المداخلة الآنف ذكرها، فأقول: أولا، ثمة مسألة أريد أن تكون واضحة في ما يخص إصلاح التعليم، وهي أنني لا أشك لحظة أن مناهجنا بحاجة إلى تجديد، ولكن قولي هذا ليس تماشيا مع النغمة الراهنة التي تعزفها الجوقة الأمريكية تحت عنوان تغيير الشرق الأوسط وتبديل أنظمته، بل التجديد في المناهج هو في تقديري حاجة يستلزمها تطور بنية المجتمع وتسارع إيقاع الحياة وما يفرزه من مستجدات. ثم ثانيا: إن إشكال تجديد مناهج التعليم ينبغي عزله عن سياق اللغط السياسي الراهن الذي يتجاذبه دعاة الأمركة القاصدين إلى تبديل نظم المجتمع على مقاس الإملاءات والشروط الأمريكية، وكذا معارضي هذه الإملاءات الرافضين لها، المنتهين بكل سذاجة إلى المناداة بإبقاء الوضع الثقافي والاجتماعي السائد على ما هو عليه، وعدم الانتباه إلى ضرورة الإصلاح. فإذا أدخلنا قضية تجديد مناهج التعليم وغيرها من نظم ومؤسسات المجتمع إلى هذا التجاذب السياسي الضيق، فإننا سندلف بها إلى نفق مسدود، ولن يثمر واقعنا الثقافي من هذا الجدال فكرا ولا رأيا، إنما مجرد هجاء رخيص من طينة كتابات الأخضر. تلاميذ إرهابيون وبعد توكيد هذه الحقيقة الأولية، أعود إلى مداخلة الكاتب التي خصصها لنقد ما سماه بالمدرسة السلفية، داعيا إلى تعويضها بما سماه بالمدرسة العقلانية، دون اجتهاد منه لتحديد ماهية هذين المدرستين وتعيين حقيقة منهجيهما، ونحن في مقالنا هذا سنعتمد هذا التعريف الضمني الذي يقدمه الأخضر، حيث يعد المدرسة السلفية هي المدرسة السائدة في العالم العربي الإسلامي باستثناء تونس على حد قوله والمدرسة العقلانية هي المدرسة الغربية، فلنأخذ بهذه المعاني المتهالكة دون أن نشاكس في دلالة مفهوم السلفية عنده، ولا في مقدار فهمه لمفهوم العقلانية، كما لن نسائله: هل من العقلانية في شيء استنساخ المدرسة الفرنسية أو الأمريكية ونقلها إلى بيئة ثقافية مغايرة لها. أما الحقيقة الثانية التي نريد إبرازها، فهي أن المدارس بمختلف أنماطها مدعوة إلى تجديد محتوياتها المعرفية وطرائق اشتغال العملية التعليمية فيها، وليست المدرسة السلفية وحدها كما يريد الأخضر. فالاقتصار على توكيد الحاجة إلى التطوير والتجديد على المدرسة السلفية هو اختلال في فهم أولى أوليات النقاش البيداغوجي الملتمع الآن في منتديات علوم التربية. وإذا كان الأخضر يريد تخصيص الإشكال في موضوع علاقة المدرسة بالإرهاب، ويحسب بذلك أنه استثنى المدرسة العقلانية من أي مساءلة، ففي موضوع الإرهاب ذاته ثمة سؤال ضخم في الفكر التربوي الغربي يتعلق بالمدرسة العقلانية تحديدا، هذا إذا كان له إطلاع أصلا على تطورات هذا الفكر ونقاشاته، حيث شهدت المدارس الغربية في السنوات الأخيرة، أحداث قتل استخدمت فيها الأسلحة النارية كان أبطالها تلامذة أطفال، وكان ضحاياها من زملائهم وأساتذتهم!! والذي لفت انتباه التربويين في هذه الأحداث، وأثار أسئلتهم هو أنها وقعت داخل المؤسسة التعليمية، أي داخل محضن تربوي يفترض فيه بداهة أنه موقع للتربية والترشيد، واجتذاب المتعلم إلى احترام القيم والمعايير الاجتماعية. ويكفي هنا أن أحيلك إلى جريمة ليتلتون بولاية كولورادو التي راح ضحيتها ثلاثة عشر شخصا غالبيتهم تلاميذ. ويكفي دلالة على الإفلاس التربوي والأخلاقي للمدرسة العقلانية الأمريكية أن سنة 1998 وحدها شهدت طرد ستة آلاف تلميذ من مدارسهم بعد ضبطهم وهم حاملون لأسلحة نارية. إذن ألا ترى قولي باحتياج المدرسة العقلانية أيضا للنقد والتصويب والترشيد والإصلاح، قولا أصوب من اعتقادك الوثوقي في الغرب الداعي إلى تقليده واستنساخه في كل شيء؟ لا يشتغل بالعلم وبعد إبراز هاتين الحقيقتين أريد الوقوف عند بعض الأخطاء التي حملتها مداخلته، ولنبدأ بعلاقة المدرسة الإسلامية بالإرهاب. يقول الأخضر: >المدرسة العربية الإسلامية باستثاء المدرسة التونسية الحديثة والعقلانية ... تجعل المسالم عدوانيا والعدواني إرهابيا بسبب التعليم الديني السلفي<، وهو ما كرره في أحد حواراته: >ظل التعليم الديني الظلامي مشتلة لتخريج فقهاء ومنفذي الإرهاب.< (3) وملاحظتي الأولى على هذا الكلام هي أنه لو كان للأخضر علم بالأصول المنهجية للبحث العلمي لأدرك أن ما استهل به مداخلته كان أحرى به أن ينتهي إليه لا أن يبتدئ به. وهو إن أراد البدء به فلا ينبغي أن يطرحه على هذا النحو من الوثوقية وإطلاق الكلام على عواهنه، بل يجب طرحه على سبيل الافتراض المطروح للاختبار. أما سياق الطرح هكذا، فقد جعله أقرب إلى لغة الشعارات والمزايدات الديماغوجية منه إلى لغة البحث العلمي القائم على المقاربات المنهجية المضبوطة والمرتكزة ابستمولوجيا على أولوية الوصف والافتراض لا على التفسير والتقرير. فطرح العبارة على هذا النحو مع إضفاء مسؤولية الإرهاب على المدرسة العربية الإسلامية، يستهدف إلصاق الإرهاب بالقيم الإسلامية وتحميلها مسؤولية إنتاجه، وهذا دليل على انحراف في الفكر وتوكيد على اختلال مصداقية صاحب المداخلة. وأنا أسائل الكاتب، وهو الولوع بالإحالة على السوسيولوجيا والسيكولوجيا دون إعمال المستلزمات المنهجية لما يحيل عليه من علوم إن من أبسط أبجديات هذه العلوم هو الاحتراس من إطلاق تقريرات بهذا الشكل، والعمل بدل ذلك على اختبار الفرضيات بإجرائيات منهجية تعتمد أولا الاستبيان والبحوث التجريبية والمعاينات الميدانية، لا تحويل ما يهجس بفكرك من فرضيات إلى تقريرات مطروحة وكأنها حقائق تم توكيدها بعد بحث واختبار. وإذا لم تكن تعرف شروط البحث العلمي وليس لك من الجهد ولا الاقتدار على أن تتعلم، فأنصحك على الأقل بقراءة تآليف السوسيولوجي الأمريكي بول لازارسفيلد لتفقه أن كثيرا من المسبقات التي تبدو في شكل بداهات يقينية غير قابلة للتكذيب هي في أمس الحاجة إلى الاختبار. وفي هذا السياق أسائل الكاتب وأتحداه أن يأتي بدليل: هل قمت بتجربة ميدانية أو خبرة سوسيولوجية ولو واحدة فقط، أو اعتمدت على دراسة ميدانية موثوقة انتهيت بعدها إلى هذا التوكيد القاطع الجازم بأن المدرسة الإسلامية تحول بقدرة قادر المسالم إلى عدواني، والعدواني إلى إرهابي؟ إن الرجل لا يشتغل بالعلم، بل يشتغل بالإيديولوجيا، فها هو يقول في مقالة له بعنوان: التعليم الديني اللاعقلاني عائق لدخول الحداثة: >يفبرك التعليم الظلامي السائد أجيالاً لقنت النص وحرّمت على نفسها التفكير الشخصي فيه. فلا تقرؤه إلا بغرائزها العدوانية ومخاوفها اللاعقلانية وإسقاطاتها الذاتية وأهوائها الدينية السياسية. وهؤلاء هم الإرهابيون الإسلاميون وجمهورهم البائس ثقافياً ونفسياً وجنسياً قبل أن يكون بائساً مادياً. القراءة النصية، الظلامية أي اللاعقلانية للنص تخلق حاجزاً نفسياً بين الوعي الإسلامي وبين الحداثة، بل تحول ضحاياها إلى فصاميين وعصابيين هذاة< (4) هكذا باللهجة الوثوقية نفسها، وبالأسلوب المتسيب نفسه يطلق أحكامه دون أدنى مجهود معرفي لفهم الظواهر وبلورة المفاهيم. حيث يحكم على خريجي هذه المدرسة بثلاثة أمراض دفعة واحدة هي الفصام، والعصاب، والهذيان. وأنا إن أعجب أعجب من تركيمه لهذه الاصطلاحات الثلاث التي لكل واحد منها في علم السيكولوجيا دلالة خاصة بالتأكيد لا يفقهها الأخضر لأننا لو طلبنا إطلاق مثل هذه الأوصاف المرضية من محلل نفسي يحترم نفسه وتقاليد المهنة لاشترط المعاينة السيكولوجية والاختبار، ولكن هذا الأخضر العريف لا يحتاج إلى خبرة ولا إلى علم فهو قادر على أن يصدر الأحكام على الآحاد والجماعات والمؤسسات، وأكثر من ذلك إنه قادر على إصدار الأحكام على الأرض ومن عليها، بل وما في بطنها من أموات أيضا !! أجل حتى الأموات يقدر هذا العريف على تقديم تشخيصات إكلينيكية عنهم، فها هو يقدم تقريرا طبيا عن ابن تيمية وهو في قبره، فيصفه هو الآخر بكونه مريضا من الناحية النفسية بالفصام، حيث يقول في مقالته >كيف نجفف ينابيع الارهاب؟<: >أفتى الفصامي ابن تيمية...<(5) !! جهل معيب ولو كان لهذا الأخضر العريف قليل من المعرفة بحقيقة المقاربات السيكولوجية للأموات لاحترس من الإيغال فيها على هذا النحو، فلو راجع التراث السيكولوجي لكفته سقطة سيجموند فرويد في ما يخص دافنشي، وهو المؤسس للتحليل النفسي، عن أن يتنطع هذا الأخضر وهو المبتدئ سيء الفهم للسيكولوجيا وأدواتها لأن يستعمل اصطلاحاتها وإحالاتها بهذا الجهل الفاضح المعيب. وبالمناسبة فقد شكلت معطيات من حياة ليوناردو دافنشي مادة مناسبة للمنظور الذي ينطلق منه فرويد، المرتكز على عقدة أوديب، إلا أنه أساء استثمار هذه المعطيات التي نقلها عن فازاري حتى انتهى إلى الزعم بأن دافنشي كان ولدا غير شرعي، وقد كشف مؤرخ الفن مايير شابيرو في دراسة له الدوافع والمزالق التي أسقطت فرويد في هذا الخطأ الفادح في تحليل حياة دافنشي، والتي أهمها، في تقديري، أن فرويد ينطلق من مسبق منهجي وتصوري جاهز يسعى إلى توكيده لا إلى اختباره. وهذا المسبق الجاهز هو الذي يسكن عقلية عفيف الأخضر، لكن مع اعتبار الفارق في القياس بين فرويد وهو يشتغل بعمق وذكاء، وهذا الأخضر الساذج الذي يطلق الأحكام بلا أدنى خبرة واقعية أو معاينة تجريبية. ويحضرني بالمناسبة ذلك النقد الذي وجهه رائد السيكوباتولوجيا الفرنسية تيوديل ريبو للدراسات السيكولوجية في فرنسا في زمنه، أي القرن التاسع عشر، مؤاخذا إياها وهو المقل في استعمال التجريب! على أنها لم تكن تنهج نهجا تجريبيا، وأنها غارقة في أسلوب التأمل المنطلق في تقريراته من أي اشتراطات منهجية إمبريقية، وهو ما دعاه إلى أن يعلن بشجاعة أن مناهج علماء الطب المسلمين في القديم أفضل وأجود مما تنتهجه المدارس السيكولوجية الفرنسية في عصره ! آخر مستجدات السيكولوجيا نذكر هذا، ليس للقول باستنساخ مناهج علماء الطب المسلمين، بل لنقول بضرورة امتلاك الحس التجريبي لمن يريد الخوض في مثل هذه الأمور، لكن هذا الأخضر المجرد من أدوات العلم يزج بنفسه ببلادة داخل مآزق ومهاترات، فها هو في مقالته السابق ذكرها، يتنطع إلى أن يكشف لنا عن الأبعاد والدوافع المحركة للإرهاب، فلننصت إلى هذا اللغط المغلف بلبوس العلم: >تقوم فتوى إهدار الدماء بوظيفتين: الأولى تأجيج ما يسميه علم النفس الحقد البدائي أو الفطرة العدوانية التي فطر الناس عليها. فمن الثابت علمياً اليوم أن الطفل عند الولادة مزود بطباع الإنسان منذ عشرة آلاف عام، حسبك أن تقدم له عصفوراً ليبادر إلى فصل رأسه عن جسده.< (5) عجبي !! لقد قرأت دراسات عديدة عن ظاهرة العنف والإرهاب من مداخل سيكولوجية ولم أجد فيها من يرتكز على مثال ابتدائي بدائي كهذا التحليل الهجين العجيب. وأي هجانة أكبر من القول: اعط لطفل عصفورا، سيفصل رأسه عن جسده، إذن الإنسان إرهابي بالطبع. وعندما يكبر هذا الطفل وتأتيه فتوى الفقيه بالاستشهاد تخرج هذه الفطرة العدوانية من حالة كمونها لتفعل فعلها. أجل هكذا يكون علمك الله قدر نفسك العلم بآخر مستجدات السيكولوجيا ! لا مكان للجهلة المؤدلجين وأعجب مما سبق ما سماه بالوظيفة الثانية للفتوى، فلننصت إليه يقول: >حياة الانتحاري الفاقدة للمعنى تكسبها الفتوى أسمى المعاني الدينية: الشهادة. قلما عرف في حياته الشهوة فتعده بحوريات تعود لهن بكارتهن بعد كل مضاجعة، وغالباً ما يتداول مع إخوته الكثيرين على فراش واحد بمعدل 3 ساعات لكل واحد منهم فتقدم له الفتوى شيكا بدون رصيد بسبعين قصراً في الجنة ! وباختصار، تسمي جريمته جهاداً وانتحاره شهادة بكل مزايا الجهاد والاستشهاد لأسرته في الحياة وله هو نفسه بعد الممات.< (5) عجبي ! إن الاستشهادي عاش شظف العيش، وقلة نعيمه، فهو حتى في المسكن لا ينام إنما يقف أمام الفراش منتظرا دوره مع إخوته. وينام بمعدل ثلاث ساعات (لاحظ الدقة في ضبط النسب الإحصائية، الأمر الذي يرضى عنه بالتأكيد أدولف كيتلي، رائد تطبيق علم الإحصاء على الظواهر السوسيولوجية) ثم يستيقظ ليعطي أخا له لينام دوره، فتأتي الفتوى بشيك بدون رصيد لتمنح هذا اليقظ النائم إشباعا لأرقه بسبعين قصرا في الجنة!! ونحن هنا لن نكرر سؤالنا عن أي معطيات ميدانية ارتكز الأخضر وبنى عليها أقواله هذه، فنحن نعلم أن الرجل لا يشتغل بالعلم، بل بالإيديولوجيا بمعناها الرخيص أي كإنتاج للوهم وقلب للواقع. ولكن نريد أن نلفت انتباه القارئ إلى أمر آخر هو أنه إذا كان هذا الكاتب في الوظيفة الأولى قدم نفسه كسيكولوجي متابع لآخر أبواب العلم وفصوله ومستجداته يوما بيوم، التي من بينها فصل رأس العصفور!! فإنه في هذه الفقرة يقفز بكل نزق إلى قراءة اقتصادوية للإرهاب، حيث يرجعه إلى الفقر، وهي قراءة ماركسية متجاوزة، ولكن حين يطرقها بهذا الشكل الساذج يدل على مقدار فهمه السطحي للديالكتيك الماركسي، فلو استحضرنا المادية التاريخية كما تبلورت في الفكر الماركسي، وعرضنا تحليلها للتاريخ البشري، واستدلالها على ما جرى فيه من تحولات تاريخية بناء على تبدل أنماط الإنتاج وما يسود المجتمع من تناقض وصراع طبقي، ستلاحظ أنها على الرغم من وثوقيتها المنهجية هي أذكى وأوسع في التطبيق من هذه القراءة الهجينة بهذه الأمثلة الساذجة التي اختلقها الأخضر. إن أبسط متأمل في ظاهرة الإرهاب سيلاحظ أولا أنها ظاهرة عالمية تمارس في أكثر من بلد، وفاعلوه متعددو الأجناس والثقافات. ومن ثم فتخصيص صفة الإرهاب بالمدرسة العربية الإسلامية تحديدا هو استنتاج مغلوط يفتقر إلى مقدمات علمية. فمسألة الإرهاب تحتاج أولا إلى أن نحدد فيها الاصطلاحات حتى لا يلتبس الاستشهاد من أجل تحرير الأرض بالإرهاب والإجرام. ثم إن الإرهاب ظاهرة فكرية وسوسيولوجية وسيكولوجية تحتاج إلى أن تعالج بالعلم لا بالجهل، وتحتاج إلى إعمال مناهج متكاملة ومتعددة لمقاربتها والكشف عن أسبابها. ومثل هذا الحقل لا ينبغي أن يلجه الجهلة المؤدلجون. عليك بالاستشفاء النفسي العقلي بعد التفجيرات الإجرامية في الدارالبيضاء نشرت دراسة مطولة كان من ضمن ما اعتنيت به فيها هو تتبع المستوى التعليمي للشباب الذين قاموا بذلك العمل الإرهابي، والملاحظة التي برزت عندي هي أنهم كانوا كلهم من الراسبين الفاشلين في دراستهم، ومن الذين لم يجاوزوا مستوى الشهادة الإعدادية باستثناء واحد منهم كان عنده شهادة الباكالوريا (الثانوية العامة). والنظر أيضا في القائمين بالأعمال الإرهابية في غير المغرب من دول العالم الإسلامي هم من الناحية التعليمية بعيدون عن التكوين الشرعي العلمي والتميز فيه بمستوى يؤهلهم لأن يكونوا ذوي فقه ورأي وتأليف. لذا فإلصاق تهمة الإرهاب بالمدرسة الإسلامية، وبالعلوم الشرعية تحديدا، أمر لا يعدو إطلاقا للكلام بلا ضابط ولا سبق تحليل واختبار. فالإرهاب نتاج انعدام الفقه بالإسلام وبحقيقته كدين الرحمة والتسامح، لا نتاج العلم به وتعمق في فهم أصوله. ولذا أقول صراحة إن اتهاماتك المجانية لو نظر إليها بمعيار العلم، الذي له قواعد وأصول، لم تحترمها مع كثير تشدقك بالإحالة عليها، ما كانت لتساوي أكثر من التمزيق والرمي بها في سلة المهملات، وما كان كاتبها ليساوي أكثر من لغة التوبيخ والتقريع على إطلاقاته هذه. وإلزامه بأن يعيد استذكار دروسه والخضوع لدورات تدريبية إلزامية ليعرف مقدار علمه أولا، وليعرف ثانيا كيف تقاس الظواهر الاجتماعية وتعاير بمعايير البحث العلمي. هذا مع أني أشك ابتداء في قدرته على الاستفادة من مثل هذه الدروس لأنه موجه بمسبقات ومشاعر حاقدة على الإسلام وقيمه، ومن ثم فهو في حاجة أولا إلى استشفاء نفسي وعقلي قبل دورات التأهيل المعرفي. أسئلة الختام وفي الختام أريد أن أخاطب الأخضر على مقدار مستواه، فأطرح عليه هذه الاستفهامات الساذجة التي لا نعرف لها إجابات، لأننا لم نقرأ بعد فصل رأس العصفور في آخر مستجدات فصول علم السيكولوجيا، فأقول مستفهما: من أي مدرسة سلفية إسلامية تخرج الجندي الصهيوني الذي يمارس إرهابا يوميا على الشعب الفلسطيني؟ وأستحضر أيضا غرائب أمريكا في سجن أبو غريب، فأسأل عن الجندي الأمريكي الذي مارس الإرهاب في الفلوجة وباقي مدن العراق، ومارس التعذيب الوحشي الحقير على السجناء العراقيين في سجن أبو غريب هذا التعذيب الذي كشف التقرير النهائي للتحقيقات، التي اعتمدت أقوال الضحايا والجنود وشرائط الفيديو والصور، أن الجيش الأمريكي استعمل ثلاثة عشر طريقة لتعذيب السجناء، منها اغتصاب النساء السجينات، ومنها أيضا تعرية الرجال ونهش لحومهم بالكلاب ... أسأل من أي مدرسة تخرج هذا الجندي حتى نحملها ونحمل مناهجها مسؤولية فعله الشنيع ، هل تخرج من الأزهر أم من القرويين؟ ونتساءل أيضا عن الجندي الصربي الذي مارس فظاعات الذبح والاغتصاب على مسلمي البوسنة في بداية عقد التسعيينات من أي مدرسة تخرج، أليس من المدرسة الديالكتيكية الماركسية التي لعلك تذكر أنك كنت تنتمي إليها يوما قبل انهيار جدار برلين فوق رأسك ورأس الماركسيين، فأصابكم الدوار الإيديولوجي، فانقلبتم بين عشية وضحاها من متمركسين إلى متأمركين؟ أليس الجندي الأمريكي خريج المدرسة العقلانية التي تدعونا إلى اعتمادها في عالمنا العربي؟ فلماذا لم تفلح هذه المدرسة بقيمها العقلانية وانفتاحها على التعددية في تهذيب نوازع الإرهاب والعدوانية في هذا الجندي؟ هذا عن زعمك بعلاقة المدرسة الإسلامية بالإرهاب، أما ما ظننته نقدا للمضمون المعرفي لمناهج هذه المدرسة، فنكشف لك حقيقته في مقالنا المقبل بإذن الله. هوامش : 1 عفيف الأخضر كيف ننتقل من المدرسة السلفية إلى المدرسة العقلانية جريدة الأحداث المغربية عدد 1924 2 عفيف الأخضر تجفيف ينابيع ثقافة الجهاد والاستشهاد جريدة إيلاف 23 05 .2003 3 عفيف الأخضر حوار مع جريدة الأحداث المغربية بتاريخ 28 08 .2003 4 عفيف الأخضر التعليم الديني اللاعقلاني عائق لدخول الحداثة بتاريخ 05 12 2003 5 عفيف الأخضر كيف نجفف ينابيع الإرهاب؟ جريدة إيلاف، بتاريخ 30 05 2003 الطيب بوعزة