سبحان الله مبدّل الأحوال، كم من أشخاص عاشوا سنوات عديدة في سجون الإدمان، وزنازين الرذيلة، وفي لحظة من اللحظات، تداركتهم رحمة الله وفضله، فتحولوا إلى أشخاص صالحين، وسر هذا التحول، هو مراجعة النفس، والندم على ما فات، والإقبال على الله سبحانه.. نعم، إنها التوبة التي تصنع معجزة التغيير، وتحطم قيود العبودية لغير الله. * التلوث البيئي: الكل يدرك هذه الحقيقة، من خلال معاينة تجارب في محيطه العائلي والاجتماعي، حيث نلاحظ إن عددا من الأفراد الذين كانوا يعانون لسنوات طويلة من الإدمان، ومنهم من تورط في جرائم ومخالفات، وتسببوا في معاناة الأقارب والجيران، ولو طفت بهم الدنيا بحثا عن علاج كثير من هذه الحالات، لما عثرت عليه، لكن سبحان الله، بمجرد أن يضع الإنسان الجانح، الخطوة الأولى في طريق الهداية، بالمواظبة على الصلاة، والابتعاد عن رفقاء السوء، تشرق في وجوهه أنوار القرب من الله، وتعود إلى قلبه الحياة.. وعلى اعتبار أن الإنسان ابن بيئته، فهو يتأثر بمحيطه القريب (الأسرة، الجيران، الأصدقاء..) وأيضا بالأوضاع الاجتماعية (الفقر، البطالة، العنف، المخدرات، الجرائم..) ، لذلك فإن الانحراف يولد وينتشر في البيئة الموبوءة، وبالتالي عندما تتوفر ظروف جيدة في البيئة الاجتماعية، تكون عاملا حاسما في إنتاج المواطن الصالح. وهناك عدة أمثلة واقعية، تؤكد على أن الأشخاص ضحايا البيئة المنحرفة، يتغير سلوكهم بشكل جذري، عندما تتحسن ظروفهم الاجتماعية (العمل، الزواج) أو يغيرون محل الإقامة أو الرفقة، وقد حكى لي رجل في خريف العمر قصته، وأخبرني عن مرحلة الشباب التي قضى جزء منها في امتهان السرقة، وعندما شاءت العناية الإلهية أن يبتعد عن عالم الجريمة، هيأت له أسباب الهجرة من بلدته الصغيرة، والقدوم إلى العاصمة، حيث أقام فيها، وعاد لحرفته القديمة، وطوى صفحات ماضيه السيئة.. * الصيام عبادة لا عادة: والعبادات عموما تحمل أسرارا وحكما جليلة، تنجلى عند الالتزام بها والتحقق بشروطها وأحكامها، فإذا كانت الصلاة تمنح صاحبها نورانية روحانية، تحجزه عن كل ما من شأنه أن يخدش خلقه أو ينتقص من تدينه (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) العنكبوت/45، فإن الصيام أيضا له أسرار وفوائد عظيمة، وبمناسبة حلول شهر رمضان الأبرك، فإننا نلاحظ أن معظم المغاربة يعودون إلى رحاب الاستقامة، بفضل الأجواء النورانية والنفحات الروحانية التي تشيع خلال هذا الشهر الفضيل، فهو شهر يساعد الناس على التوبة والإنابة، وخاصة مع منع السلطات الاتجار في المسكرات والمخدرات، وإغلاق المقاهي ومحلات اللهو والقمار نهارا، مما يساعد الصائمين على التفرغ للعبادة، والانشغال بأعمال الخير والإحسان.. وشهر رمضان فرصة سنوية للتوبة إلى الله، والتغيير في نمط السلوك اليومي، لأنه يعين على مراجعة النفس وحملها على الصبر ومقاومة شهواتها، وهو ما يمنح الصائم القدرة على التخلص من كثير من العادات والسلوكات السيئة، لكن ما يفسد الأجواء الروحانية لشهر رمضان وفوائده الصحية والدينية، هو أن كثير من الصائمين، لا يلتزمون بأحكامه الشرعية، ولذلك أصبحت ترافق هذا الشهر الكريم، عادات سيئة تتناقض مع الصيام، حيث أصبحت حرمة رمضان عند الكثير تقتصر فقط على النهار، أما في الليل فيستبيحون كل شيء: السهر لساعات متأخرة من الليل في الملاهي وتعاطي المخدرات وغيرها من المحرمات.. وهؤلاء لم يحققوا مفهوم عبادة الصيام، وإنما صيامهم أملته عليهم العادة والعرف الاجتماعي، ولأنهم غير مدركين لفوائده، فلا هم من الذين استفادوا من فوائده الصحية (البدنية والنفسية)، ولا من فضائله الشرعية (الأجر الجزيل)، وهؤلاء الذين قال عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم، أن لا حظ لهم من الصيام إلا الجوع والعطش. كما أن بعض الصائمين يحبسون أنفسهم عن الأكل والشرب طوال النهار، وبمجرد غروب الشمس، يطلقون العنان لغريزة الأكل والشرب والمتع، مخالفين في ذلك الحكم الشرعي، بعدم الإفراط في الاستهلاك (وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) الأعراف الآية31، ويقضون ليالي رمضان في اللهو والسهر، ومعظم أوقاته في النوم أو أمام شاشات التلفزة أو اللعب، لتزجية الوقت وملأ الفراغ بأعمال تتنافى مطلقا مع الصيام، الذي ينبغي ملأ أيامه ولياليه بالذكر وقراءة القرآن وحضور مجالس العلم وكل أعمال الخير والإحسان.. * رمضان تطهير للنفس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لو يعلم العباد ما في رمضان لتمنت أمتي أن تكون السنة كلها رمضان]، ما يعني أن هناك أسرار وحكم وفوائد جمة لرمضان، لو علمها الناس لتمنوا أن يكون رمضان اثنا عشر شهرا، وهو من المكرمات العظيمة التي خص بها الله سبحانه الأمة المحمدية، رحلة سنوية يسافر فيها المسلمون إلى عالم الملكوت الإلهي، من خلال التشبه بالملائكة، وتحرير النفس من قيود الغريزة، وإعادة التوازن البيولوجي للجسد، وفي نفس الوقت التخلص من المشاكل النفسية والروحية، ففي رمضان تتغير كثير من السلوكيات والعادات اليومية، وهو ما ينعكس على الصحة النفسية للصائمين. ومن بين الفوائد الصحية لشهر رمضان، على المستوى النفسي، ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم: [كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ: الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِلاّ الصَّوْمَ. فَإِنَّهُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ؛ يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي. لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ. ولَخَلُوف فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ. وَالصَّوْمُ جُنَّة. وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ، فَإِنْ سابَّه أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ: إِنِّي امْرُؤٌ صائم]، والفرحة معناها حصول الصائم على الراحة النفسية والسكينة القلبية، بمجرد إفطاره، وهذا الإحساس الجميل لا يتحقق إلا بالصيام، وهي فرحة ممتدة في الزمان طوال الشهر، عند كل وجبة إفطار، نتيجة لاستعادة الصائم لتوازنه الطبيعي بعد تحقيقه متطلبات الروح بالعبادة، والجسد بالإطعام، وأيضا الفرحة الأخرى تكون يوم عيد الفطر، بعدما يكون الصائم قد أحدث قطيعة مع عدة عادات سلبية، واكتسب مهارة التحكم في الذات، ليتوّج ذلك بالفرحة الكبرى عند اللقاء العظيم برب العالمين، لما يراه من جزيل الثواب. وبالإضافة إلى الفرح الذي له تأثير إيجابي على الصحة النفسية، حيث يضفي على النفس البهجة والسرور ويخلصها من التوترات والضغوطات، فإن الصيام يحدث تغييرا جذريا في نمط العيش وبرنامج الحياة اليومية، وهو ما ينعكس بشكل إيجابي على الحالة النفسية للصائم، فإذا كان المسلمون طوال العام (11 شهرا) يهتمون بشكل كبير بإشباع حاجات الجسد، فإن رمضان يقلب المعادلة، ويصبح التركيز منصبا أكثر على إشباع حاجيات الروح، وهو ما يحدث تأثيرا عميقا على الصحة النفسية، بحيث يكسر الرتابة والنمطية والعادات المعيشية، التي تسبب كثير من المشاكل على الصحة البدنية والنفسية في عصرنا. لكن، كل ما ذكرناه من فوائد ونتائج إيجابية للصيام على الصحة، لا يتأتى لكثير من الناس، بسبب عدم التزامهم بضوابطه الشرعية، فيؤثر بشكل عكسي على نفسياتهم، ويتعكر مزاجهم وتضطرب أحوالهم، ويقضون اليوم في توتر وانفعال وخصومات، و منهم من لا يؤدي فريضة الصلاة، فكيف لهؤلاء أن يحدث الصيام تغييرا في حياتهم ؟ يقول الخبير الدولي في مجال التنمية البشرية الدكتور ابراهيم الفقي رحمه الله: " من المذهل كم يتغير الناس خلال هذا الشهر، فيفعلون ما بوسعهم ليطهروا أنفسهم، فالصيام لا يعني الامتناع عن الطعام فقط، بل يهدف إلى التطهير التام، والابتعاد عن الشهوات والتقرب بقوة من الله، وبهذه الطريقة تستطيع الحصول على السلام الداخلي.. * ختامها نُسُك: ولأن الامتناع عن الشهوات أمر شاق على النفس، فإن الصيام قد يجد فيه البعض مشقة، خاصة الذين لا يصومون إلا في رمضان، لكن هذه المشقة إذا امتزجت بلذة القرب من الله وحلاوة الإيمان، وبإدراك نتائج وفوائد الصيام العظيمة على الصائم، تتحول تلك المشقة والألم إلى متعة، كما يقول الدكتور ابراهيم الفقي رحمه الله: " تعَلَّم كيف تربط الألم والمتعة بأعمالك". ما يعين الإنسان على الصبر على الجوع والعطش وباقي الشهوات، هو أنه يؤمن أن فيه خير كثير في الدنيا والآخرة، ويمكن أن نشبه ذلك بالرياضي الذي يقوم بتداريب قاسية، حتى يحقق نتائج إيجابية في إحدى المنافسات أو المباريات، وكذلك المريض الذي يفرض عليه الطبيب حمية غذائية شاقة، ويحرم نفسه من كثير من الأطعمة، لكنه يصبر ويتحمل المشقة، لإيمانه بأن ذلك مفيد لصحته. وأول خطوة في طريق الصيام الأمثل، هي عقد النية والعزم على القيام بكل الأعمال التي تجعل صيامنا صحيحا، يحدث التغيير في حياتنا، بحيث يكون الهدف الأساسي هو التقرب مع الله، ثم الرغبة في التطهر من الذنوب، ولو صام الإنسان إيمانا احتسابا، والتزام بأحكامه، لأدرك أن رمضان فرصة كبرى للتطهير الروحي والنفسي والبدني. (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ، وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلا عَظِيمًا) النساء:27.