أخنوش: السياسة ليست مجرد انتخابات بل حضور دائم في الميدان وخدمة المواطن    بعد مٌبايعته لولايته رابعة... لشكر يعيد تشكيل "قيادة" موالية له ويُحكم سيطرته على أجهزة الحزب    إسرائيل تعلن استهداف قيادي بارز في "القسام" بغزة و"حماس" تتهمها بخرق وقف إطلاق النار    "داعشي" يقتل 3 أمريكيين في سوريا        نشرة إنذارية.. تساقطات ثلجية وأمطار قوية أحيانا رعدية مرتقبة اليوم السبت وغدا الأحد بعدد من مناطق المملكة    الجمعية العامة لمؤتمر رؤساء المؤسسات التشريعية الإفريقية تجدد التأكيد على تشبثها بوحدة وسلامة أراضي دول القارة    إنذار كاذب حول قنبلة بمسجد فرنسي ذي عمارة مغربية    غوتيريش يعلن انتهاء "مهمة العراق"        الرجاء يعود من السعودية ويواصل تحضيراته بمعسكر مغلق بالمغرب    تدخلات تزيح الثلج عن طرقات مغلقة    سلالة إنفلونزا جديدة تثير القلق عالميا والمغرب يرفع درجة اليقظة    عاصفة "إيميليا" تُوقف الرحلات البحرية بين طنجة وطريفة    بونيت تالوار : المغرب يعزز ريادته القارية بفضل مبادرات صاحب الجلالة    مونديال 2026: خمسة ملايين طلب تذاكر خلال 24 ساعة ومباراة المغرب والبرازيل ثانيةً من حيث الإقبال    رسالة سياسية حادة من السعدي لبنكيران: لا تراجع عن الأمازيغية ولا مساومة على الثوابت    ميسي في الهند.. جولة تاريخية تتحول إلى كارثة وطنية    المديرية ال0قليمية للثقافة بتطوان تطمئن الرإي العام على مصير مدخرات المكتبة العامة بتطوان    محمد رمضان يحل بمراكش لتصوير الأغنية الرسمية لكأس إفريقيا 2025    بورصة البيضاء .. ملخص الأداء الأسبوعي    تعاون غير مسبوق بين لارتيست ونج وبيني آدم وخديجة تاعيالت في "هداك الزين"    مجلس السلام خطر على الدوام /1من2    من الناظور... أخنوش: الأرقام تتكلم والتحسن الاقتصادي ينعكس مباشرة على معيشة المغاربة                مقاييس الأمطار المسجلة بالمملكة خلال ال24 ساعة الماضية    مطارات المملكة جاهزة لاستقبال كأس إفريقيا للأمم 2025    نقابات الصحة تصعّد وتعلن إضرابًا وطنيًا باستثناء المستعجلات    التونسي وهبي الخزري يعتزل كرة القدم    المغرب: خبير صحي يحدّر من موسم قاسٍ للإنفلونزا مع انتشار متحوّر جديد عالمياً    القنيطرة .. يوم تحسيسي تواصلي لفائدة الأشخاص في وضعية إعاقة    جهة الدار البيضاء : مجلس الأكاديمية الجهوية يصادق على برنامج العمل وميزانية 2026    ضحايا "زلزال الحوز" ينددون بحملة التضييقات والأحكام في حقهم    الممثل بيتر غرين يفارق الحياة بمدينة نيويورك    الطريق بين تطوان والمضيق تنقطع بسبب الأمطار الغزيرة    كأس أمم إفريقيا 2025.. "الكاف" ولجنة التنظيم المحلية يؤكدان التزامهما بتوفير ظروف عمل عالمية المستوى للإعلاميين المعتمدين    خطابي: فلسطين تحتاج "محامين أذكياء"    السغروشني تعلن تعبئة 1,3 مليار درهم لدعم المقاولات الناشئة    حبس الرئيس البوليفي السابق لويس آرسي احتياطيا بتهم فساد    الركراكي يرفع سقف الطموح ويؤكد قدرة المغرب على التتويج بالكان    تشيوانتشو: إرث ابن بطوطة في صلب التبادلات الثقافية الصينية-المغربية    الإقصاء من "الكان" يصدم عبقار    بنونة يطالب ب «فتح تحقيق فوري وحازم لكشف لغز تهجير الكتب والوثائق النفيسة من المكتبة العامة لتطوان»    "الأنفلونزا الخارقة".. سلالة جديدة تنتشر بسرعة في المغرب بأعراض أشد وتحذيرات صحية    يونيسكو.. انتخاب المغرب عضوا في الهيئة التقييمية للجنة الحكومية الدولية لصون التراث الثقافي غير المادي    بورصة البيضاء تنهي تداولاتها على وقع الارتفاع    ميناء العرائش .. انخفاض طفيف في حجم مفرغات الصيد البحري    مدينة الحسيمة تحتضن فعاليات الملتقى الجهوي السابع للتعاونيات الفلاحية النسائية    تناول الأفوكادو بانتظام يخفض الكوليسترول الضار والدهون الثلاثية    تيميتار 2025.. عشرون سنة من الاحتفاء بالموسيقى الأمازيغية وروح الانفتاح    منظمة الصحة العالمية .. لا أدلة علمية تربط اللقاحات باضطرابات طيف التوحد    سوريا الكبرى أم إسرائيل الكبرى؟    الرسالة الملكية توحّد العلماء الأفارقة حول احتفاء تاريخي بميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم    تحديد فترة التسجيل الإلكتروني لموسم حج 1448ه    موسم حج 1448ه.. تحديد فترة التسجيل الإلكتروني من 8 إلى 19 دجنبر 2025    موسم حج 1448ه... تحديد فترة التسجيل الإلكتروني من 8 إلى 19 دجنبر 2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بين المرجعية المتجاوزة والمرجعية الكامنة
نشر في التجديد يوم 29 - 01 - 2014

هذان مفهومان مركزيان في فكر الدكتور عبد الوهاب المسيري رحمه الله، حيث عمل من خلال ذلك على الكشف عن النموذج المعرفي الثاوي في عمق وثنايا الظواهر الغربية والإنتاج الفكري والمعطى العلمي والثقافي والفني والسياسي المعاصر.
ففي إطار المرجعية الكامنة يختزل الإنسان ويسوى بالطبيعة وعناصرها المادية، فيصبح غير قادر على الفكاك من أسار قوانينها الصارمة، ليسقط في قبضة الصيرورة ويجرد من أي بعد روحي أو مضمون قيمي، فلا هدف ولا غاية ولا ثوابت ولا مطلقات، وإنما منطق المنفعة واللذة والربح والخسارة ووحدانية السوق بدل وحدانية الله بتعبير جارودي. وبهذا تتم ''حوسلة'' الإنسان واختزاله في مجموعة من الوظائف البيولوجية والكيميائية، ومجموعة من التفاعلات الحتمية، فكل شيء في الإنسان حادث، عرضي وطارئ، مما يعني إلغاء وتسويات كل الثنائيات المتقابلة.
ومن هذا المنطلق يفكك ويحلل ويفسر المسيري جل الانحرافات في التصور والممارسة في الواقع المعاصر ، تفكيك الأسرة، تشظية الإنسان وتفكيكيه إلى أجزاء متناثرة، الشذوذ ، الانتحار تنامي معدلات الجريمة، الإبادة العرقية والثقافية، الصراع مع الطبيعة، التمركز حول الأنثى الأسلحة الفتاكة الاستنساخ.
أما المرجعية المتجاوزة فإنها تركز على أن الإنسان مقولة مستقلة في إطار النظام الطبيعي، مرتبط بالعنصر الرباني، فالإنسان خلقه الله ونفخ فيه من روحه، وكرمه واستخلفه في الأرض وأناط به مهمة العمارة والقيام بأعباء التكليف، ووجوده وجود غائي يستلزم قيم مطلقة، وثوابت عليا تضفي المعنى على كل تحركاته وتنسجم مع تكوينه المتعدد الأبعاد ولا تزري بأشواقه وتطلعاته.
وهي رؤية منسجمة مع مقتضياتها ومبادئها حيث يكون هناك معنى لمفاهيم الحرية والعدل والمساواة والوعي وحرية الإرادة، ومعاني الشهادة والتضحية والأخوة,لأن تركيبة الإنسان تتحدى قوانين المادة الحتمية الصارمة ومن ثم فالتفسير المادي مني بفشل ذريع في تفسير الظاهرة الإنسانية. فانقلب الفردوس الأرضي المبشر به إلى شقاء وتعاسة يعلن فيها عن ضياع الإنسان ثم موته ، والاستنارة إلى ظلام قاتم لا يكاد المرء يتلمس فيه أي بصيص أمل، أو خيط يلتقط به معنى لشيء.
إن هذه المادية الصلبة المنغلقة أفرزت على حد تعبير محمد قطب ضحالة مزرية بكرامة الإنسان والتي لا تطيق العمق في المشاعر والأفكار، وتفاهة جزئية في الحكم على الأمور والتي لا تطيق النظرة الشاملة، والية هابطة تحيل المشاعر والأفكار والأعمال نشاطا آليا، وواقعية مريضة تعيش في حدود اللحظة وتأبى أن تتصور وتتخيل.
من التناقضات الصارخة والفجة التي يقع فيها من يتحرك في إطار المرجعية الكامنة هو استعمال مفاهيم معيارية قيمية ، تنور، تحضر، عدالة، مساواة، حرية، كرامة إنسانية، أنها مفاهيم مطلقة ثابتة ولا مسوغ لاستعمالها عند من يدين بالنسبية في كل شيء، كيف لمن لا يؤمن بمرجعية ثابتة أن يصدر حكما على شيء أخر، من أين يبدأ وإلى أين ينتهي.
ومن هنا نفهم التخبطات الكثيرة التي يقع فيها دعاة المرجعية الكونية، حيث ينسون أن الإنسان الغربي يعيش في عالم مادي صرف أفرز مكيافيللي وانبجس منه داروين ونتشه، وحاور المخالف بالبارود من خلال جيوشه الامبريالية، ويكسب وجوده ومشروعية توجهاته من سطوته وجبروته، والمبادئ لا تراوح الكتب والمؤتمرات، مما يجعل من المرجعية الكونية سيفا مشرعا ومسلطا على رقاب شعوب لم تشرك في الصياغة والبلورة، لهذا لا نبالغ إذا قلنا إن منطق المرجعية الكونية آلية من آليات الاستعمار الجديد، وتكريس للمركزية الغربية في أسمى تجلياتها.
لهذا تجد دعاة اللبرالية والعلمانية واليسار ينتشون بانتقاداتهم اللاذعة وهم يدعون إلى فصل الدين عن الدولة وإلى القطيعة مع التراث، ثم لا يلبثون أن يسقطوا في غيبيات الماركسية والدولة الحديثة التي أصبح لها كهونتها وطقوسها المقدسة وبديهياتها ومسلماتها. فأجهزت على منظومة القيم فأصبح المجتمع يؤدي ضريبة مزدوجة، فراغ قيمي أخلاقي، وتخلف تكنولوجي صناعي. فيوما بعد يوم تتآكل في مجتمعاتنا مساحة منطق التراحم لصالح صرامة ووحشية منطق التعاقد.
إن الأبحاث الفلسفية النقدية الراهنة، والاكتشافات العلمية المتحررة من الأحكام المسبقة والمواقف الجاهزة، عرت قصور نظر الفسلفة المادية، وكشفت حدود النظرة التجزيئية التفكيكية، وتمكنت إلى حد ما من خلخلة مجموعة من البنى الفكرية التي ظلت تحظى عند أصحابها بوصف العلمية والموضوعية، لكنها انتهت إلى أعطاب في التصور والممارسة، دفعت مجوعة من المفكرين والباحثين إلى طرح أسئلة محرجة لإيقاظ الضمير وإلقاء بعض الأحجار لتحريك برك مائية تعكرت بالجمود والتقليد ، يقول روجرر سبري '' إن الوعي وحرية الإرادة والقيم ثلاث شوكات قديمة العهد في جنب العلم، وقد أثبت العلم المادي عجزه في معالجتها حتى بصورة مبدئية لا لمجرد كونها عسيرة المركب فحسب، بل لأنها تتعارض تعارضا مباشرا مع النماذج الأساسية، وقد اضطر العلم إلى التخلي عنها، بل إلى إنكار وجودها، أو إلى القول إنها تقع خارج نطاقه، وهذه العناصر الثلاثة تشكل عند السواد الأعظم من الناس بالطبع، بعض أهم الأشياء في الحياة، وعندما ينكر العلم أهميتها بل وجودها، أو يقول إنها خارج نطاقه، فلابد للمرء من أن يتساءل عن جدوى العلم''
ويقول بنفليد ساخرا من النظرة المادية القاصرة :'' يا له من أمر مثير إذا أن نكتشف أن العالم بدوره قادر على أن يؤمن عن حق بوجود الروح''.
إذا رجعنا إلى الكتاب القيم ''العلم في منظوره الجديد'' سلسلة عالم المعرفة نجد مؤلفاه'' روبرت أغروس و جورج ستانسيو'' يخلصان بعد رحلة طويلة مع أخر ما استجد من أبحاث علمية إلى أن الفلسفة المادية التي تزعم أنها ليست إيديولوجية وإنما علم طبيعي موضوعي هي رؤية غارقة في الإيديولوجية والإسقاطات المتعسفة، انتهت إلى الاستهتار بالقيم الأخلاقية والروحية، وفسرت السلوك الإنساني تفسيرا غريزيا فسيولوجيا.في حين أن الإنسان ظاهرة معقدة غاية في التركيب ويتميز بمقدرة هائلة على التجاوز والرقي والتسامي فوق المكون الطيني، فالإنسان مكون من عنصرين جوهريين جسد فان، وروح باقية لا ينالها الفناء، وأن الإدراك والتفكير ليسا من صنع المادة، بل يؤثران تأثيرا مباشرا في العمليات الفسيولوجية ذاتها.
من خلال ما سبق ألا يجب على الباحثين والمفكرين وصناع القرار التفكير في تتبع خيوط الظواهر المقلقة والمدمرة لمجتمعاتنا من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه، ووقف نزيف وهدر المعاني الإنسانية؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.