في هذا الجزء الثاني والأخير من الحوار الصريح والمباشر، يقدم الدكتور محمد خروبات الأستاذ بجامعة القاضي عياض بمراكش رؤيته حول دور السيرة النبوية في ترقية الخطاب الدعوي، وأيضا كيفية تحبيب الشباب في القراءة وفي التحصيل الدراسي وأمور أخرى. الداعية الناجح هو الذي يدرك بفطرته وسعة علمه، ما الذي يأخذ من السيرة ليعالج الظاهرة التي أمامه، كالطبيب مع المريض في ظل ما ذكرتم في الجزء الأول من الحوار من واستغلال الوسائل الحديثة في الدعوة إلى الله أمر مفروض، هل تعتقدون أن هناك حاجة لدراسة اجتماعية واقعية بالنسبة للشباب في ظل التطور التكنولوجي من أجل تكييف الخطاب الدعوي، وتقريب الشباب وتحبيبهم في القراءة وفي التحصيل الدراسي؟ حينما نتكلم عن الدعوة نتحدث عن صناعة الإنسان الصالح، الذي يصلح لنفسه أولا ويصلح لمجتمعه ووطنه وأسرته وللإنسانية كلها، هذا الإنسان المفقود اليوم والقليل، هذا الإنسان إذا اعوج اعوجت الحضارة واعوج البنيان، فهاته البلدان التي تدمر اليوم وتجتث ويدمر فيها البنيان، والسبب هو أن الإنسان غير صالح، والإسلام يعطي قيمة للإنسان قبل كل شيء، والعبرة ليست بالماديات، وليست بالصناعات والابتكارات، ولو كان الأمر كذلك لنزلت الدعوة في الحضارات المجاورة للجزيرة العربية، ولنزلت في بلاد فارس واليونان والرومان، فلماذا نزلت في صحراء شبه قاحلة، فالعبرة بالماديات غير مطروحة وإنما بالإنسان، وخرج الإنسان ليهدي الإنسان من هذه الأماكن إلى الحضارات المجاورة. فنقول الدعوة أي أن ندعو الإنسان أن يكون مستقيما وأن يكون صالحا ومسؤولا يقدر المسؤولية، لأنه سيكون مسؤولا أولا على نفسه ثم على من معه في محيطه، فإذا كان مسؤولا وصالحا للمسؤولية فآنذاك يمكن أن يتحمل كل المسؤوليات، وأن يصنع ويبتكر ويخترع ويلج كل المجالات، وهذا المجال الذي أريد أن أكد عليه. ولسنا بحاجة إلى درسات ميدانية أو سوسيولوجية تقول لنا علموا الناس القرآن، علموهم السنة وعلموهم المسؤولية، بل هي من الثوابت عندنا وهذه مقدمات يجب أن ننطلق منها، وهذه الدراسات يحتاج إليها في أمور أخرى غير مجال الدعوة إلى الله، فمجال الدعوة يجب أن يكون بالمواصفات الشرعية المعروفية، والتي ورثناها أبا عن جد، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان هو أول الداعين إلى الله سبحانه وتعالى، وهي أمور معروفة تمارس في كل العالم الإسلامي. يمكن أن تكون هناك بعض الدراسات النفسية وبعض الدراسات الاجتماعية، مثلا ما هي العوائق أو العراقيل أو الحواجز أو البدع التي توجد، ولكن لا نفرط في مجال الدعوة إلى الله مطلقا، وعدم الدعوة إلى الله يعني توقف الإسلام، والله أرادها أن تنتشر فقال «ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن»، أمر يفيد الوجوب، «فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك»، فهذا توجيه من الله إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، والرسول وجه الصحابة وقال «إنما بعثتم ميسرين لا معسرين، فيسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا»، وقوله «إن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على الخرق»، الخرق هو الشدة والصلابة، وهاته تعاليم يجب أن تكون في أي مجتمع كان، ولسنا بحاجة حقيقية لهاته النظريات الاجتماعية في مجال الدعوة إلى الله، والدعوة يجب أن تبقى مسترسلة ولا تتوقف، لأن هناك أناسا يموتون وأناسا يولدون، ومسيرة الحياة مستمرة، وهذا يكون باستصحاب الحال المؤمن، ويجب أن يؤدي زكاة علمه، وأن يعلم الناس المعلوم من الدين بالضرورة. والناس تحتاج فقط إلى المعلوم من الدين بالضرورة، ولو رحنا إلى البوادي الآن لوجدنا الكثير من الناس محتاجين لكيفية الطهارة وكيفية الوضوء، وآداب الكلام، وآداب العلاقات الاجتماعية، والنهي عن الخرافات والبدع والتعاطي للبدعيات، ولا يحتاجون إلى دكتور كبير في الدراسات الإسلامية، بل لأبسط الأشياء ليتعلموها وهي أمور ميسرة. ثم تأتي مقامات أخرى لترفع من إيمان الإنسان، فكما لا يخفى عليكم الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، فكلما أنت علمت أكثر كلما ارتقى الإنسان في درجات العلم والمعرفة، وهذا يزيد في الإيمان. بالنسبة للإنسان العادي، يكفيه المعلوم من الدين بالضرورة، أما الإنسان المثقف فهناك دعوات كثيرة هدامة، تنخر في الشباب، رغم أنه تربى في الإسلام ويعلم ما هو من الدين بالضرورة، مع ذلك يمكن أن تكون حاجة لما يسمى بالخطاب العقلاني، فكيف ترون هذا الأمر؟ هذا أفق آخر، وقد قلت لكم إن الدعوة تختلف بحسب المواقع، فإذا وصلنا إلى أن نتكلم عن صنف من الطلاب وصنف من الناس المثقفين، الطبقات المفكرة في المجتمع، المتأثرة بروافد الفكر الغربي وآخرى محسوبة على الثقافة الإسلامية، لكنها منخورة بنظريات أخرى، لا أريد أن أمثل، تبعث على النفور من تعاليم الإسلام، وتبعث على الكراهية في بعض الجماعات وبعض الحركات... وأنا أقول إذا كنا نرصد هذا التوجه فهذا يحتاج إلى أسلوب آخر، وإلى فهم آخر، وإلى لغة أخرى، ولا يمكن أن نتكلم مع هؤلاء الناس بكلام العامة، فالخطاب الموجه للنخب المفكرة يجب أن يكون خطابا منهجيا، خطابا واعيا وعلميا دقيقا، تحاول أن تمس فيه الثوابت الموجودة في ذهنه فتخلخلها وتزحزحها وتزيلها، وتعطيه ما يريد، وخطاب يجب أن يتسم بالحوار، فمنهم من يرفض التلقين. والحوار الهادئ والمنهجي هذا من شأنه أن يغير الكثير من الأشياء، لأنه من أصله لماذا تشبع بتلك الأفكار المضادة؟ لأنه وجد فيها ما يروقه، فإذا وجد فيك ما يروقه فهو يتنازل، فتلك الأفكار ليست أفكار آبائه وأجداده، وإنما أخذها من نظريات وأفكار معينة، أو تأثر بشيوخ معينين لهم توجه معين، فإذا وجد فيك سماحة وعلما وبعد أفق، ووجد فيك نفحة تربوية وسمة القدوة، فهو يتأثر، ولا أقول إن الكل سيتأثر ولكن على الأقل ستؤثر في هاته الكتلة لتأخذ منها نصفها أو ربعها، وهاته مهمة الداعية إلى الله، وأن يكون في المستوى المطلوب. لماذا ننوع في الخطاب ؟ فتجد هذا يكتب في الفكر الإسلامي أحيانا، ويكتب في الحديث ويكتب في تاريخ الأديان والمقاصد وأصول الفقه...، فاختلاف التوجهات والمواقع التي تكون فيها تلزم أن تتوجه هذا التوجه، ولا تكون أحادي النظرة، والإنسان إذا كان له منهج واحد وعلم واحد وأحادي النظرة، فهذا الإنسان لا يصلح إلا لفئة معينة ولتخصص معين، فإن كان متخصصا في فن من الفنون ولا يجيد قراءة القرآن، فمن يسمع له؟ وأن يكون مثلا متخصصا في الفقه ولا يفهم شيئا في الحديث، فيأتي بحديث موضوع فيضحك منه الناس. والناس لها ذوق، فربما من إشارة أو عبارة يعرف، فإذا أخطأت فربما لا يطيل في الجلوس، فلذلك من مستلزمات الدعوة إلى الله هو الإتقان، فنحن نأسف حقيقة أن لا يكون للدعوة تخصص، حتى في الجامعات، أن يكون هناك تخصص في شعبة الدراسات الإسلامية في علم الدعوة إلى الله، فلما لا تكون علما، هناك معاهد وكليات للدعوة في المشرق، ولكن هل حاولنا فعلا أن نتخصص في مجال الدعوة إلى الله، وننشئ نظريات فكرية شرعية تليق لهذا العصر، وتخدم الأجيال وتقتات منها، فنحن الآن يجب أن نفكر في هذا الأمر، وهو أمر لابد منه لصلاح الحال. فالدعوة إلى الله تشمل كل العلوم، والدعوة إلى الله يجب أن تستوعب جل العلوم، وخاصة العلوم الأساسية، أن يكون حافظا للنصوص، أن يكون عالما بالنوازل والوقائع والمستجدات، أو فقيها للواقع بعبارة أخرى، أن يكون فاهما لما يجري في البلاد، ما في نفس وصدر ذاك الطالب، وأن تفهم كلام الطالب وماذا يريد، وأن تحس إلى ماذا ينتمي، وهاته أمور يجب على الداعية إدراكها، فأنت كداعية إلى الله لا يجب أن تتحيز لفئة أو جماعة أو مذهب، بل يجب أن تكون رجلا عالما يعطي العلم، أو امرأة عالمة تعطي العلم، فإذا كان المجتمع متجانسا كالمغرب مثلا الذي يعتمد المذهب المالكي، فلا حرج أن تفتي وفق المذهب، ولكن إذا كنت في جماعة من الناس، فيهم الشافعية والحنابلة والحنفية فيجب أن تراعي المقام. أعلم أنكم شغوفون بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، كيف يمكن أن يساهم تدريس هذه السيرة في ترقية الخطاب الدعوي؟ الذي لا علم له بسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم لن يفهم شخصيته، لأن السيرة هي سيرة حياة كشريط حياة، لها نقطة بداية ونقطة نهاية، كونها بداية تجعلك لا تتيه تبحث عن البداية أين هي، فهي معروفة وموجودة، ولها نهاية فكذلك لن تتيه، فيجب أن تعلم أنك ستنطلق وأنك ستقف، وبين الانطلاق والوقوف هناك تفاصيل كثيرة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، كان فيها داعيا وكان مبشرا وكان نذيرا، وكان معلما ومربيا وقائدا عسكريا وأبا، وكان وكان...، ففيها كل ما تحتاج الأمة، كل ما تحتاجه الأمة هو مضمن فيها. والسيرة تعلمنا سبب تطبيق القرآن، فحياة الرسول صلى الله عليه وسلم كما لا يخفى عليكم كما في حديث عائشة رضي الله عنها، لما سئلت عن خلق الرسول صلى الله عليه وسلم قالت «كان خلقه القرآن». فأنا أقول إن الدعاة إلى الله لابد لهم من قراءة سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، لأنها هي المجال الخصب الذي سيطعمهم بالمقولات والنماذج والقصص الواقعية، فأنت تدعو الناس لأن تستقيم سيرهم، لذا عليك قراءة السيرة لتقوم سيرتك وتقوم سيرة الناس، في عصر فسدت فيه السير، وفيه من يبدأ سليما ويروح سقيما، وفيهم من يبدأ سقيما ويروح سقيما إلى الله، وفيهم وفيهم...، فسير الناس لا هي منسجمة، ولا هي متجانسة، فتجد الإنسان مضطربا خصوصا في هذا العصر الذي نعيشه، والذي ما أحوجنا فيه إلى سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم. فماذا نجد في هاته النظريات التي تكالبت علينا من كل حدب وصوب، تريد أن تشوه سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فيتكلمون فيه بأقبح النعوت ويصفونه بأبشع الأوصاف، ثم يترجمون له ترجم مزيفة، ويضعون له أساطير ومسلسلات وأفلاما ليشوهوا السيرة، لأنهم يدركون جيدا أن سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم هي سيرة كل من أراد أن يعتصم بالعروة الوثقى، في عصر لا توجد أية سيرة لأي نبي عندهم، فلا توجد سيرة موسى ولا عيسى ولا هي كتبت عندهم، فالرسول الوحيد الذي كتب سيرته من مبتداها إلى منتهاها، بل قبل أن يولد، ولا يعرف قبر أي نبي إلا قبره، وصحابته معروفون، والقرآن الذي أنزل عليه مجموع وسنته، وهذا هو الكمال المقصود ب «اليوم أكلمت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي»، الإكمال والإتمام، فالإتمام فوق الإكمال، و«رضيت لكم الإسلام دينا»، فهاته الآية الكريمة لو كانت عند اليهود والنصارى لكتبوها بالذهب ولعلقوها في شوارعهم وقراهم. فهذا الاكتمال -أخي الكريم -خاصة في السيرة النبوية يحتاج منا أن نؤمن به، وكثير من الناس لا يؤمن به، ونحن نستغرب استغرابا شديدا، كيف عندنا سيرة من هذا الحجم ونجهلها، كما قال الشاعر «كالتيس في البيداء يقتلها الظمى *** والماء فوق ظهرها محمول». فهذا أمر يجب أن ننتبه إليه، وأن نرجع لسيرة المصطفى وأن نقرأها، وهي ورش كبير تحتاج من يجيد القراءة، أن يقرأ ويعلم الناس، ويأخذ منها ما يفيد الناس، وهذا هو أسلوب الداعية الناجح. والداعية الناجح هو الذي يدرك بفطرته وسعة علمه، ما الذي يأخذ من السيرة ليعالج الظاهرة التي أمامه، كالطبيب مع المريض، فنحن نخاطب ناسا، نلقن ناسا، نعلم ناسا محتاجين إلى نوع معين من السيرة النبوية، فأنا لا أريد أن أخوض في تجربتي مع السيرة النبوية، فلما أخذت المادة وأردت أن أدرسها وجدت مشكلة كبيرة، وهو أن كثيرا من الناس لا يعرفون سيرة النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة. وإذا رجعت إلى المصادر الموجودة الآن التي تتكلم عن السيرة النبوية من مولده إلى البعثة، تجدها في أوراق قليلة حوالي سبعة أوراق أو ثمانية أوراق ويمرون، فيا سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم عاش أربعين سنة قبل البعثة وثلاثا وعشرين سنة بعد البعثة، فالذي عاشه قبل البعثة أكثر بكثير مما عاشه بعدها، فأين حياته؟ ماذا كان يفعل؟ وله أب وله أم وتزوج في هذه المرحلة وأنجب أولادا، وكان يتجار وكانت وقائع... فأين هاته السيرة؟؟ لذا حملت على عاتقي أن أنهض بهذا الجانب من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، لأني أعلم جيدا أن هاته المرحلة مرحلة مهمة تتأسس عليها المرحلة الأخرى، وصحيح أن من أراد سيرة النبي صلى الله عليه وسلم بعد البعثة فهذا موجود ، والمادة متوفرة ولله الحمد ، وصحيح أنها تحتاج إلى فقه خاص وذوق خاص ودراسة خاصة، ولكن هذه المرحلة (يقصد قبل البعثة) أردت أن أقوم بتغطيتها، ونحن الآن نشتغل عليها، وألقنها للطلاب، وما أكتبه أعطيه للطلبة يستفيدون منه، ونتحاور بشأنه فتنضج الفكرة فنستفيد ونفيد، معرفة السيرة هي معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم، لأنهم سيسألون عنه يوم القيامة، وسؤال الملكين واضح: من هو هذا الرجل الذي بعث إليكم، وهذا سؤال معرفي. أولا يستحق الرسول صلى الله عليه وسلم ألا نعرف أخواله وأن نعرف أجداده وآباءه ونعرف أزواجه، وأن نعرف أعداءه حتى، وكلما زادت معرفتنا به زاد تعلقنا به، وزدنا فهما أكثر لوضعه ولما جاء به، ولذلك هذا السؤال حول السيرة النبوية وأثرها في الدعوة مهم جدا. وأنا لما بدأت البحث، كان أول ما بدأت في السيرة هو أسماء الرسول صلى الله عليه وسلم، التي ضمنتها في كتاب «الموفى في معرفة أسماء ونعوت المصطفى»، جمعت أسماءه صلى الله عليه وسلم من القرآن، ومن السنة، من التوراة والانجيل، فطلع في مطبوع متداول، وما زال عمل آخر مقبل ونرجو الله التوفيق، وكل اسم من أسمائه يجب أن يكون محاضرة، لأن الرسالة والنبوة كلها تفرقت في هاته الأسماء، «لله تسع وتسعون اسما من أحصاها دخل الجنة»، أما أسماء النبي صلى الله عليه وسلم فهي كثيرة جدا. فنسأل الله التوفيق والتأييد والتسديد لنا ولكم إن شاء الله.