العفاف والتعفف في مجال الكسب والمال: الكف عن كل ما لا يحل ولا يجمل» لسان العرب . فأما الكف عما لا يحل فشامل لكل محرم من المكاسب والمطاعم والمشارب والأقوال والأفعال؛ وأما الكف عما لا يجمل، فيتناول المشتبهات والمكروهات من ذلك، وهو الذي يسمى الورع، وهو الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الترمذي عن ا لحسن بن علي رضي الله عنهما قا ل: حفظت من ر سو ل الله صلى الله عليه وسلم « دع ما يريبك إَلى ما لايريبك». سورة الجمعة / الآية 10 وإنما يدرك التعفف في الكسب والمال بترك الكثير من الشبهات التي قد تكون ذريعة إلى المآثم، بمعنى أن يجعل المسلم بينه وبين الحرام حاجزًا من الحلال. فقد روى الشيخان، واللفظ لمسلم عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الحلال بيّن والحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس ، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات فقد وقع في الحرام ،كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ، ألا وإن لكل ملك حمى ،ألا وإن حمى الله محارمه ،ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب» . حث الإسلام على التعفف في المال والاكتساب حث الإسلام على التعفف في مجال المال والعمل والاكتساب وجاء هذا الحث من وجوه متعددة أذكر منها : أ اعتبار العفاف من أصول الأخلاق: فليس العفاف والتعفف من نافلة الدين أو من أعماله التطوعية التكميلية، وإنما هو من صميم الإسلام ومن أمهات الأخلاق الإسلامية ، وبه جاء النبي صلى الله عليه وسلم قولا وفعلا. فقد روى الشيخان وغيرهما في قصة كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل،وسؤال هرقل أبا سفيان بن حرب عن هذا النبي الذي أرسل إليه يدعوه إلى الإسلام ، وكان أبو سفيان على دين قومه ، فلما سأله هرقل: بماذا يأمركم؟ قال يأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة» . وفي صحيح مسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: «اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى». وهذا يبين موقع العفاف من الدين ومن منظومة الأخلاق الإسلامية . ب الحث على العمل واحتناب الكسب الحرام : فقد حث الإسلام على الكسب المشروع ورغب في العمل والاحتراف ودعا إلى تجنب الحرام . قال الله تعالى : ( فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله )3، وقال سبحانه: ( هو الذي جعل لكم الأرض دلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه ) سورة الملك / الآية 15 ، وقال جل وعلا : ( وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله)سورة المزمل / الآية 20. وفي ابتغاء الطيب قال سبحانه : ( يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون)البقرة / 172 . وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا ، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ : ( يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ) ، وَقَالَ: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ )، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ ، أَشْعَثَ أَغْبَرَ ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ ،يَا رَبِّ يَا رَبِّ ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ له « أخرجه مسلم والترمذي ، وعن رافع بن خديج قال: «يا رسول الله أي الكسب أطيب؟ قال: «عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور»رواه البخاري . وعن المقدام بن معد يكرب أنه سمع رسول الله - ورآه باسطًا يده – يقول : «ما أكل أحدكم طعامًا أحب إلى الله عز وجل من عمل يده». ج الحث على القناعة والاستغناء عما في أيدي الناس: فعن عبد الله بن عمر و بن العاص رضي الله عنهما أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:» قد أفلح من أسلم ورزق كفافا، وقنعه الله بما أتاه»رواه مسلم . وفي الحث على الاستغناء عما في أيدي الناس قال النبي – صلى الله عليه وسلم - :» والذي نفس محمد بيده، لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير له من أن يأتي رجلاً فيسأله، أعطاه أو منعه «متفق عليه. فبالعمل والكدح والاستغناء عن سؤال الناس يتحقق العز للمؤمن ويتحقق له كذلك غنى النفس . فعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا محمد عش ما شئت فإنك ميت واعمل ما شئت فإنك مجزي به وأحبب من شئت فإنك مفارقه واعلم أن شرف المؤمن قيام الليل وعزه استغناؤه عن الناس»رواه الطبراني. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس « ج - مدح الفقراء المتعففين : فقد مدح الله أناسًا من الفقراء لا يسألون الناس لكثرة عفتهم، فقال تعالى: ( للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضرباً في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافاً وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم)سورة البقرة / 273 . وقال صلى الله عليه وسلم: (اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول، وخير الصدقة ما كان عن ظهر غِنًى، ومن يستعففْ يُعِفَّهُ الله، ومن يستغنِ يُغْنِه الله) متفق عليه ج التنفير من المسألة فقد جاء في النهي عن المسألة والتنفير منها نصوص صريحة وآثار كثيرة . فعن حمزة بن عبد الله بن عمر عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وليس في وجهه مزعة لحم ) رواه البخاري ومسلم واللفظ لمسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من سأل الناس أموالهم تكثرًا فإنما يسأل جمرًا فليستقل أو ليستكثر )رواه مسلم ، وعن عبدالله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو على المنبر، وهو يذكر الصدقة والتعفف عن المسألة ، (اليد العليا خير من اليد السفلى، واليد العليا المنفقة والسفلى السائلة) رواه البخاري ومسلم . ولأجل هذا شدد الفقهاء في أمر المسألة وعدوها كسبًا حراما إلا في حدود ضيقة، ه- حث الأوصياء على أموال الأيتام على التعفف : حيث أمرهم الله تعالى بالمحافظة عليها، والعمل على تنميتها، ودعاهم للتعفف عن أخذ الأجرة على ذلك إن كانوا أغنياء، أما إن كانوا فقراء فليأخذوا منها بالمعروف. قال الله تعالى:» وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) سورة النساء. فضل العفاف والقناعة في مجال العمل وكسب المال أ التعفف عن السؤال يجلب معونة الله عزوجل : وفي هذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: « من يستعفف يعفه الله، ومن يتصبر يصبره الله، ومن يستغن يغنه الله، ولن تعطوا عطاء خيرا وأوسع من الصبر» . قال ابن حجر في الفتح: قال القرطبي: معنى قوله :من يستعف أي يمتنع عن السؤال. وقوله يعفه الله أي إنه يجازيه على استعفافه بصيانة وجهه ودفع فاقته. وقال ابن الجوزي: لما كان التعفف يقتضي ستر الحال عن الخلق وإظهار الغنى لهم فيكون صاحبه معاملا لله في الباطن فيقع له الربح على قدر الصدق في ذلك. وقال الطيبي: معنى قوله «من يستعفف يعفه الله» : أي إن عف عن السؤال ولو لم يظهر الاستغناء عن الناس لكنه إن أعطي شيئا لم يتركه يملأ الله قلبه غنى بحيث لا يحتاج إلى سؤال، ومن زاد على ذلك فأظهر الاستغناء فتصبر ولو أعطي لم يقبل فذاك أرفع درجة، فالصبر جامع لمكارم الأخلاق . ب العفيف ذو العيال من أهل الجنة : فقد عد رسول الله -صلى الله عليه وسلم أهل الجنة فقال: « أهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسطٌ متصدق موفق، ورجلٌ رحيم القلب بكل ذي قربى ومسلم، وعفيف متعفف ذو عيال)رواه مسلم . وفي سنن الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «عرض علي أول ثلاثة يدخلون الجنة: شهيد وعفيف متعفف وعبد أحسن عبادة الله ونصح لمواليه». وروى الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه وأبو داوود بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من تكفل لي أن لا يسأل الناس شيئا؛ وأتكفل له بالجنة). ت التبشير بالفلاح: ومن ثمرات القناعة والاستعفاف البشرى بالفلاح والخير، وفي ذلك قال صلى الله عليه وسلم: «قد أفلح من أسلم، ورُزِقَ كفافاً، وقنَّعه الله بما آتاه» رواه مسلم . وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم «اللهم إني أسألك العفاف والغنى»رواه الإمام احمد ،لأن من أعطي العفاف فقد أعطي خيراً كثيراً، ومن طلبه وتكلفه أعطاه الله إياه. ومن طلب العفة وتكلفها أعطاه الله إياها؛ فالعفاف زينة الفقر، كمثل الشكر زينة الغنى.