في كراسي الاعتراف تجري العادة أن يسرد المحاور حياته منذ أن رأى نور الحياة الأول إلى نهاية مساره الحياتي، لكن محمد البطيوي، آثر أن يسير ضد هذا المنطق، ويشرع في بناء الأحداث بالطريقة التي يراها هو مفيدة للتاريخ المغربي، أي أنه اختار أن يبدأ بلحظة عودته إلى المغرب بعد 27 سنة من حياة المنفى الاضطراري تارة، والاختياري تارة أخرى. في بروكسيل، يتذكر البطيوي قصته مع الاعتقال والتعذيب البشع الذي تعرض له بمدينة وجدة، بعدما ورد اسمه إلى جانب طلبة آخرين في اللائحة السوداء للمشاركين في إضرابات سنة 1984، ويتوقف طويلا عند تجربة المنفى وقصة هروبه من المغرب وعلاقته بمومن الديوي، أحد أبرز معارضي نظام الحسن الثاني، ويعود، فوق ذلك، إلى تفاصيل تنشر لأول مرة حول التنسيق الذي كان يجري خارج المغرب للإطاحة بالحسن الثاني. -أخبرت والدك أنك ستدخل المغرب في العام الموالي بعد أكثر من ربع قرن من حياة المنفى، هل كنت واثقا من القرار الذي اتخذته، وأنت لتوك قلت إنك أصبت بالإحباط بعد أن دخل الديوري وبعض المناضلين الآخرين وانخراطهم في هيئة الإنصاف والمصالحة؟ لا أخفيك أن الطريقة التي تحدث بها والدي، أشعرتني أن الوقت قد حان للدخول إلى المغرب إثر أكثر من 25 سنة من المنفى، عشت فيها لحظات مختلفة وقاسيت مرارة الغربة الحقيقية. بدأنا نحضر لإجراءات العودة إلى المغرب في شهر نونبر 2010، ولا أنسى أن فتيحة السعدي بالبرلمان البلجيكي هي التي أهدت لي التذكرة. قالت لي يومها إنها لن تسمح لي بدفع ثمن التذكرة، وأنها هدية بسيطة بسبب مساعدتي الدائمة لها على عكس كل ما يروج بأن المخزن هو الذي دفع ثمنها. لقد روج البعض أن المخزن تدخل بطريقة أو بأخرى للتأثير علي ما قبل العودة إلى المغرب، وهذا أمر غير صحيح بتاتا. - لكن هذه الانتقادات يمكن أن تكون صحيحة إذا علمنا بأن موقفك من الدخول إلى المغرب كان جذريا، أنا شخصيا لم يقنعني كلام أن والدك هو الذي كان وراء عودتك إلى المغرب، ألم تكن والدتك مريضة أيضا وأمضت سنوات وهي طريحة الفراش بسبب الأزمات النفسية التي انتابتها بعد انتحار أخيك الأكبر عبد الحكيم؟ في الفترة التي كانت والدتي مريضة لم يكن من الممكن إطلاقا أن أعود إلى المغرب. كنت موقنا أن النظام بالرغم من أنه أخذ مبادرات كثيرة لإقناع معارضيه بالعودة إلى المغرب، فإنه لا يمكن أن يترك لك الحرية التي تبتغيها. إنها طبيعة النظام ولا يقدر أحد على إقناعي أن هذه الطبيعة تتغير، بالإضافة إلى أنه في تلك الفترة مازال حدث انتحار أخي الأكبر طريا في الذهن ولا يكاد يفارقني، وبالتالي كان حقدي على النظام بالمغرب متقدا أكثر من أي وقت مضى. لما مرضت والدتي وصلت إلى قناعة أساسية وهي أنه من المستحيل أن أظل هنا، وهو يسألني عن الدوام عن موعد رجوعي. أرى أن هذه أسباب كافية للقول إن العودة إلى المغرب لم يملها علي أحد بقدر ما كانت قرارا فرديا وشخصيا، أتحمل فيه كامل المسؤولية. - متى رحلت عن مدينة بروكسيل؟ 11 أبريل 2011 بالتحديد، وأذكر أن الطائرة التي كانت ستقلنا تأخرت ساعتين عن موعدها الأصلي، لا أعرف السبب الحقيقي وراء التأخير. لكن أدع ما حدث للتاريخ. قبل موعد الرحلة أخبرني أخي أن الناس والأصدقاء والعائلة ينتظرونني في مطار العروي بالناظور، وأجبته أنني لم أركب بعد من العاصمة البلجيكية. قال لي أخي أيضا إن عدد الذين حضروا لم يكن متوقعا، وفهمت أن الحملة التي قام بها الكثير من الأصدقاء على صفحات التواصل الاجتماعي قامت بدور فعال من أجل أن يحضر ثلة من أصدقائي وأناس لا أعرفهم إلى المطار. ولا ننسى أيضا أن الصحف المغربية والمواقع الإلكترونية كتبت عن موضوع عودتي إلى المغرب قبل شهر من موعد الرحلة. أخال أن السلطات تعمدت أن تؤخر الطائرة كي أبقى وحيدا في المطار، بصيغة أخرى راهنت على ملل الذين حضروا لكنها فشلت في ذلك فشلا ذريعا. ففي المطار وجدت هناك مختلف الأجهزة الأمنية المغربية وجاء «كوميسير» المطار شخصيا ليسلم علي، ووجدت أيضا يحيى يحيى، وعبد السلام بوطيب. لم أكن أتوقع بتاتا أن يحضر إلى المطار كل ذلك الحشد من الأصدقاء. بكل صراحة اندهشت من حجم الذين حضروا، وقلت لهم إنه حينما رحلت عن المغرب لم يكن هذا المطار موجودا، وقلت لهم أيضا إنني عدت لأرى والدي قبل أن تغتاله المنية. - هل حضر والدك إلى المطار؟ لا لا، لقد كان مريضا ولم يستطع الحضور إلى المطار، وحينما وصلت إلى المنزل في حدود الثالثة صباحا وجدته مازال مستيقظا ينتظرني. - لم يحاول أي أحد من السلطات أن يتصل بك بالمغرب؟ لم تكن هناك اتصالات مباشرة عدا أن بعض الأصدقاء تحدثوا إلي عما إذا كنت بحاجة لأي شيء قصد توفيره لي، لكن لم أقبل ذلك إطلاقا، لأن قناعاتي لم تتغير ومساري النضالي لم يتوقف بعد. لا تنس أنني أخبرتك في إحدى حلقاتك السابقة أنني سأبقى في حرب باردة مع المخزن ما لم يعتذر عن المضايقات التي تعرضت لها بمعية عائلتي، وعن انتحار أخي وموت والدتي. مهما يكن من أمر فدخولي إلى المغرب ليس نوعا من تقديم التنازل أو التخلي عن مواقفي السابقة أو حتى نضالاتي التي دشنتها بالمغرب وواصلتها ببروكسيل وباقي العواصم الأوربية. المبادئ بالنسبة لي لا تتزحزح ولا تتغير. الشرط الأساس لإعلان حسن النية هو تقديم الاعتذار، قبل الانخراط في أي مصالحة حقيقية. تعليق