قصة قصيرة... كاتما فرحتَه ونشوتَه، أولَج عَدْلِي بطاقته الجديدة في شباك المصرف فابتلعها دون إبطاء. ما هي إلا ثوان تتعَرَّف فيها الآلة هويتَه وسيضع رمزه السري وسيسحب جنيهات من أول راتب منتظر على أحرَّ من الرصاص المصبوب. قبلها تصَرَّمَت أشهرٌ في انتظار تسوية وضعه الإداري والمالي الجديد، ولكَمْ كانت مضنية مريرة. تلك الأشهر...وما زالت. لا بأس. عن قريب ستنبعث الورقات من فوهة الشباك الأفقية المستطيلة، وسيلتحق بشِلتِه في المقهى أو حيثما سبقوه كي يُمضوا أمسية خميس لذيذة. لولا أن فرحتَه بالنقود المنتظرة كانت تتربص بها في ذهنه مشاهد فض الاعتصام بالحديد والنار وقنص الآدمي. جمجمة منفطرة برصاص محظور. خيمة تحترق بمن فيها. جرافة تعوي ماسورتها ويعلو دخانها وهي تجرف جثث الطرائد الآدمية وتَرْكُمُ بعضَها فوق بعض. الناس حولها يصرخون ويستغيثون يا الله. يا الله. يا الله. لكن زميله الجرافَ الماهرَ الحاذق مضى قُدُما ولم يحُلْ دون تقدمه إلا حاجز من حديد. لا عليه فتلك جثث شعب من الشعب وهم من شعب آخر، لهؤلاء رب ولهم رب آخر مصداقا للأغنية. وهل يضر الشاة السلخ بعد الذبح! ولكن ما ذنبهم هم؟ بل يا لحسن حظهم! كما خطب فيهم الضابط الكبير شحذا لهممهم وترسيخا لعقيدتهم الجديدة. فقد صادفت أشهر عملهم الأولى أحداثا جساما في الميادين تهدد الأمن القومي. كانت تدريبا كبيرا وحَيًّا لفرض الأمن، وليس فقط محاكاةً لأحداث شغب افتراضية في الثكنات. كانوا طيلة الأشهر الماضية يتعلمون حرفتهم الضبطية في "المليان". ثم إنهم أصحاب رسالة. كما قال الضابط الكبير...كذلك. إنهم مصريون عِظام. وراءهم سبعة آلاف سنة من حضارة فرعونية لها خبرة بملاحقة الشرذمة القليلين الذين يريدون أن يظهروا الفساد ويُبدلوا الدين. وهم مجندون في جيش عظيم من خير أجناد الأرض؛ ولهم رَيِّس مؤقت من كبار المستشارين في هيئة القضاء الشامخ. وتسندهم فتاوى من جميع الأحجام. واحدةٌ ذات حجم كبير من كبير المفتين، عليها ضوء أخضر من الإمام الأكبر. وأخرى متوسطة الحجم من الداعية المخملي. إنهم بمجرد ما يلبسون البيادة ويتلقون الأوامر من رؤسائهم فإنما يتلقونها من "عَنْدِ ربِّنا على طول" دون واسطة. ثم فتاوى صغيرة من فنانين كبار، هم ضمير الأمة، ما منهم إلا "خَلَّصْ أزهر" قبل التمثيل وهم يعرفون سيرة الأربعة المبشرين بالجنة بما فيهم عمرَو بنَ العاص...كما يعرفون أبناءهم. لكن... ما بال قلبه يفتيه بغير ما أفتاه الناس وأفتَوْه! انفتحت فوهة الشباك الآلي المستطيلة، وانقذفت الجنيهات بقوة غير مألوفة. ارتجف عدلي؛ فقد كانت الجنيهات مُضَرَّجَة بسائل لزج أحمرَ قاني، وسقط بعضها أرضا بينما التصق بعضها بحافة الشباك. ثم انطبقت الفوهة. مكث يحملق مشدوها مقشعرًا بدنُه، منتصبا شعره الجَعْدُ المنتصب أصلا. دون تفكير انزاح جانبا كحيوان مذعور، وهرع إلى الباب الزجاجي ينقر، ينقر، ذاهلا عن أن اليومَ يومُ عطلة وأن الوكالة صِفرٌ من الموظفين. لكن عنصر أمْنِ البنك سمع نقره على الزجاج فأقبل من الناحية الأخرى على مهَل. حين لمحه عدلي مقبلا بهدوء هرول إليه متمتما محاولا وَصْفَ ما حدث. لكن الحارس لم َيظهر عليه أثرٌ من مفاجأة، لا على قسماته ولا على إيقاع مشيته التي حاول عدلي جاهدا أن يستعجلها. سُدىً. كان عدلي يكلمه شاحب اللون كأنما دمه الذي فُصِد داخل الشباك الآلي وفاض على الورقات. - ممكن أعرف إيه اللي بيحصل؟* - ولا تتخض يا فندم، إنت ضروري إما داخلية وإما جيش؟ - أنا جيش... - لا مؤاخذة يا فندم ذا بقى بيحصل كل مرة يسحب فرد من الجيش ولا الداخلية فلوسو... غيرَ مُصدق لما يقال، تحول استفسار عدلي صراخا في وجه الحارس، كأنه مدير البنك المركزي. لكن الحارس تمالك نفسه خشية أن تكون رؤية السائل الأحمر قد استفزت الزبون فيشهرَ سلاحا من جيبه ويضربَ في المَليَان. لقد صار كل شيء ممكنا الآن وصار الدم "مَيَّة". وفي هدوء تام أخذ منديلا من المناديل التي رصدها البنك لمثل تلك الحالات ولف فيه جنيهات عدلي وناولها إياه، ثم أخذ منديلا آخر أكبر وشرع يمسح الشباك حتى إذا لمَّعه التفت لعدلي قائلا: - شوف يا فندم، عشان تسدأ (تصدق) أقترح عليك حاجة. تاخذ فلوسك وتحطها في جيبك وتستنا معيا لحد ما يجوا ناس ثانيين وتشوف بعينك إن اللي قلتو مش تخاريف... كان عدلي مستعجلا يريد أن يلحق أصحابه، وقتُ إجازته ينزف كجنيهات الشباك الراعف وهو لا يستمتع بعنفوان كما اشتغل طيلة أسبوعه بعنفوان**. لكن رجل الحراسة رَبَّتَ على كتفه لإنعاش صبره النافد. مهما شرح له وأفاض فلن يقنعه إلا أن يرى بأم عينيه. اقتعد درابزينا هناك بعد أن وضع لفيف النقود الدامي في جيبه على مضض. أحس ببلل وحرارة كأن الدم حديث عهد بنزيف. سيتجلط السائل لا محالة كما طمأنه الحارس، وربما قد يندثر بما أن ذلك من قبيل الكرامات لخير أجناد الأرض... تعاقبت ثلة من الزبناء، زبونا تلو آخر يسحبون نقودهم في سلام ووئام، ما منهم إلا تناول جنيهات لا شِيَةَ فيها ومضى، بينما كان يمزق أحشاءَ عدلي إحساس بحيف كبير، والحارس يؤكد له أنه ما دام لم ينبجس السائل الأحمر من الشباك فإن كل الزبناء الذين توَالوْا هم حتما من المدنيين. مزيدا من الانتظار إذن... رن جَوَّالُ عدلي فجأة. كان فَتُّوح زميله يناديه، فقد أبطأ كثيرا عن الشلة حتى ظنوه قد أصابه سوء. - ألو، فتوح...أنا في ورطة، فلوسي بتنزف دم، الشباك بينزف دم...إيه...إيه... بتقول إيه... ولا يهمك...كلنا ذلك الرجل... مكث ينصت لصديقه على الطرف الآخر من الأثير وهو يشرح له شيئا غريبا. سُقِط في يده لِما يسمع. كل زملائه وقع لهم ما وقع له ويقع. منذ يوم 14 غشت. جنيهات نازفة راعفة. تبا لهم... ولماذا لم يخبروه من قبل أو على الأقل أمس، إذن لكان استقدم كيس بلاستيك ولَسَحب نقوده في ساعة متأخرة من الليل دون أن يعاين تلبُّسَه أحد، فيعودَ إلى البيت ليغسلَها ويتركَها تجف في "البلكونة" أو يستعين بمروحة أو مجففة. لكنهم لم يخبروه. أسلموه لماهيته*** الدامية. زاد غضبه.. - يا ولاد الْ+++++ واسترسل في أقذع لغة رسمية يستعملوها لزجر الناس، فيما كانت تُسمع في خلفية كلام صاحبه قهقهات زملائه الهستيرية الشامتة. الآن فهِم لماذا أبَوْا أن يرافقوه حين حدَّثَهم عن حاجته للشباك. حتى صديقه فتوح تواطأ معهم وأسلمه للمقلب الكريه. ربما. بئس الرفاق وبئست الرفقة؛ لم يجنبوه المفاجأة القبيحة، ضيعوا عليه فرصة الاستمتاع بنقود نظيفة مغسولة مجففة. وفوق ذا وذاك عرضوا حياته للخطر وللإرهاب المُحتمل. من يدري، قد يكون شاع الخبر في أولياء دم رابعة، فهم متربصون بالشبابيك الآلية وبكل من يسحب نقودا دامية ليسحلوه انتقاما. أو البلطجية لخلط الأوراق. والبلطجية شرُّ غائب... التفت يمينا وشمالا، على وَجَل، لا أحد يتربص به وحارس البنك كان قد نأى عنه، ربما اشمئزازا من منظر لم يُفقده التكرارُ فظاعتَه، أو تشاؤما مِن القرب من شخص لابد أنه أصاب دما حراما. البلل الدافئ ما زال يسري في فخذه، وسُمْكَ المنديل لم يُغنِ شيئا، فقد تلطخ جيبه بالحمرة القانية الآن وصار يبدو كأنه ينزف. إنه ينزف فعلا. لبث متسمرا لبرهة كالمؤبد، بينما دارةُ الدم كانت ماضية في الاتساع حول جيبه، لم يتجلط الدم كما وعده الحارس. ما زالت الجنيهات نازفة راعفة، وهو حائر واقف كأنما خرج من مشرحة الأموات أو كأنه زُومْبِي استفزته ظلمة الغروب. ما العمل؟ لا احتفال الليلة ولا احتفاء. سيعود إلى البيت عبر الدروب الضيقة متخفيا في ظلمة الليل الذي بدأ يرخي سُدُوله على المدينة الثكلى الموتورة. انسلك في زقاق ثم في آخر ثم في درب ثم في آخر دون وجهة حتى إذا بلغ ملتقى طرق وجد كمين شرطة. لحسن حظه لم يكن شاخصا هناك سوى عنصر واحد من عناصر الكمين، وكان مديرا ظهره مستقبلا جدارا، يقضي حاجته. انزاح عدلي من بعيد دون أن يرمقه أحد، وانسلك من جديد في دروب ثانوية أفضت به إلى طريق جانبية أسلمته إلى حديقة وسط مجمع عمارات. مشى على العشب المبلل بندى المساء فبردت قدماه كقدمَيْ محتضر ومنهما سَرَتْ إلى جسده قشعريرة لم تبرحه حتى وجد نفسه وسط ميدان فسيح قرب مسجد كبير. كانت أبوابُ المسجد موصدة مغَلَّقة بصليب من أخشاب خشنة ومسامير غليظة كمسجد منكوب في بورما أو كشمير. هل ضل الطريق أم أن الطريق مكرت به حتى أتت به إلى الميدان...إلى مقر العمل! طاف بالميدان الخالي مليا، ثم توقف في ناحية منه. الصمت يلف المكانَ، والزمانُ غيرُ الزمان. أين رمضان. أين تلاوة القرآن. أين القيام. أين القنوت. أين سُفَرُ الإفطار. أين شعارات الألتراس. محاها عواء المصفحات والجرافات. والطلقات القاتلة الماهرة. مَنْ في عِليين ومَن في سِجِّينْ... في صمت، أحس بنظر نفسه إلى نفسه كشخص اغترب عن نفسه فاشمأز، ثم أسلمه ذلك الشعور إلى شعور بنظر يخترقه من كل مكان كنظر الله، فاقشعر... بينما الدم ما زال نازفا من الجنيهات. كان يجد حرارته في فخذه، وكان يحس بإنهاك شديد وتَلاشٍ لقوته. أحنى رأسه فرأى الدم يفور من جيبه كأن زميلا من القناصة المَهَرة قد أصاب شريانا في أعلى فخذه. عفارم! انتابه غثيان فلم يتمالك نفسه أن تمدد فوق الإسفلت على ظهره. كان قد أعياه التطواف في مسرح الجريمة. كالقاتل. وكالمقتول... أطبق جفنيه، فسمع دوي الجرافات والقناصة واستغاثات الناس، يا ألله، يا الله، يا الله...وجاءه الموت من كل مكان وما هو بميت... * عامية مصرية من ذاكرة المسلسلات. Work hard, play hard** *** ماهية، بالمعنيين الفلسفي والعامي المصري (الراتب) Facebook/reda.nazah