بعد استقالة وزراء حزب الاستقلال من الحكومة، رجع الأستاذ عبد الإله بنكيران إلى نقطة الصفر، وحاول تشكيل حكومة جديدة بوافد جديد طالما انتقده وفضح معايبه رفقة إخوانه في الحكومة والبرلمان، وإذا كان هذا الأمر سائغا ومقبولا في كثير من الدول والأنظمة، فغير السائغ وغير المقبول هو طول مدة المشاورات مع الوافد الجديد أكثر من مدة المشاورات مع الفرقاء السياسيين المتعددين إبان تشكيل الحكومة في صيغتها الأولى. وإذا تجاوزنا هذه النقطة مراعاة لصعوبات الترقيع وجبر الكسر مقارنة مع صعوبات التأسيس، فإننا لم نستسغ ما صاحب التشكيلة الكيرانية من سلبيات هي تراجعات وارتدادات أكثر منها تطويرا للعمل السياسي ودفعا به إلى الأمام. * لعل أول هذه السلبيات هي التضخم الكبير في عدد الوزراء وربائبهم مما يحول دون الحيوية والدينامية المطلوبة في العمل الحكومي، ولا تداني حكومة بنكيران في هذا الأمر السلبي إلا حكومة ذ. عبد الرحمن اليوسفي ذات الواحد والأربعين وزيرا، وهي الحكومة التي علق عليها جزء من المغاربة كثيرا من الآمال لكنها فشلت في وضع المغرب على سكة الإصلاح الحقيقي، وهذا التشابه في التضخم قد يؤدي إلى التشابه في النتيجة. * قد يتفهم المرء إصرار الأستاذ بنكيران على استوزار صديقه ورفيق دربه المهندس عبد الله بها، لكن الغرابة كل الغرابة هي إبقاؤه من دون حقيبة، ولذلك عدة مؤشرات، منها : - من الناحية القانونية والبروتوكولية، يعد وزير الدولة أعلى رتبة ومرتبا من الوزير، وفي ذلك تبذير للمال العام، خصوصا أنه لا يقوم بدور أساس ومحوري يعود بالنفع العام على المجتمع والدولة. - إصرار بنكيران على مرافقة بَها ولو كانت الحكومة كلها نسائية يدل على أنه فاقد للأهلية إلا إذا أكملها له رفيقه، لذا فهو لا يصلح للوزارة ومن باب أولى لرئاسة الحكومة، وإذا كان هذا الإصرار مقبولا، فإنه يحق لأي وزير أن يشترط مصاحبة رفيقه له لتصبح عندنا حكومة مشكلة من أكثر من سبعين وزيرا. - إذا صح ما تم تداوله من كون وجود عبد الله بها يعود بالنفع على الحكومة لأنه ذا حكمة وتبصر وله القدرة على فرملة تسرعات السيد عبد الإله بنكيران، فإن هذه المواصفات تصلح لشخص يكون عضوا لديوان رئيس الحكومة أو مديرا له، وقد يقوم بنفس المهام إذا كان وزيرا منتدبا لديه مكلفا بمهمة، فلم الإصرار على عدم إسناد أية مهمة تدبيرية لهذا الرفيق المحظوظ ؟ لم أجد جوابا مقنعا لهذا السؤال سوى أن رئيس الحكومة وإخوانه في الحزب مُقِرّون بفشل السيد بها في مجال تدبير الشأن العام، وأنه لا يصلح لذلك ألبتة، لكنهم لم يجدوا بديلا عن إرضائه فكانت هذه التخريجة. * حكومة بنكيران بيس مثل عربة جديدة بقطع غيار متهالكة وقديمة، لأن أمثال رشيد بلمختار وأحمد التوفيق ومحمد بوسعيد وأنيس بيرو ومحمد عبو وغيرهم أسهموا بحظ وافر في تخلف المغرب واحتلاله الدركات الدنيا في سلم التنمية البشرية، فهل يُصلِحون ما أفسدوا ؟ أم أنهم هم المصلحون والمغاربة لا يعلمون ؟ * رفع الأستاذ بنكيران وكتيبته شعار الإصلاح، لكنه من الناحية العملية أخطأ طريق الإصلاح وتنكبه، ويكفي أن نورد الأمثلة الآتية : أولا : تعيين شخص غير حزبي على رأس وزارة الداخلية خصوصا، وإغراق الحكومة بالتيكنوقراط عموما، إصرار من ذ. بنكيران بإرجاع المغرب سنوات إلى الوراء، وكأن التقويم الميلادي لم يعرف سنة 2011، وكأن المغرب لم يعرف حراكا، وكان حريا به أن يتذكر أثناء التفاوض شهداء الحراك ومعطوبيه وما ذاقوه وتجرعوه في سبيل رؤية مغرب آخر أجمل وأفضل. ثانيا : استمع ذ. بنكيران للتشخيص السوداوي الذي قدمه الملك عن قطاع التعليم، وهو القطاع الذي يتحقق حوله الإجماع، الملك والحكومة والشعب ورجال التعليم والتلاميذ مجمعون على فساد القطاع وأزمته، ولو كان ذ. بنكيران يود الإصلاح فعلا لوضع على رأس وزارة التربية الوطنية من يتكفل بذلك، لكنه أسند القطاع إلى رجل منتهي الصلاحية، قدم للتعليم في السابق ما استطاع، أما الآن فالتعليم محتاج إلى رجل في مقتبل العمر، له ما يكفي من الدينامية والحيوية للاستماع إلى مشاكل القطاع وللطواف على الأكاديميات وترؤس مجالسها الإدارية والحوار مع الفئات المتضررة، القطاع محتاج إلى رجل له المقدرة الكافية على التفاوض والحوار مع الفرقاء الاجتماعيين، أما أن يضم الأستاذ بنكيران إلى تشكيلته ذ. رشيد بلمختار فهذا مسلك من لا يريد الإصلاح حتما، فالقطاع لا يصلحه من بلغ من الكبر عتيا (مع احترامنا لشخص الوزير)، ويكفي أن نشير إلى أن التفاوض والحوار مع النقابات كثيرا ما ينتهي في الثانية أو الثالثة صباحا، وهو ما لا يستطيع تحمله الوزير السبعيني على الإطلاق. ثالثا : منذ حكومة إدريس جطو، والسيد أحمد التوفيق وزير للأوقاف، ولم يستطع أجرأة أي عمل إصلاحي نوعي في قطاعه رغم تربعه على كرسي الوزارة لأكثر من عشر سنوات، بل إن وزارته تعد بلا مواربة أكثر الوزارات تخلفا، إن لم أقل إنها خارج التاريخ، ومع ذلك يصر الأستاذ بنكيران على استمرار ذ. التوفيق على رأس وزارة المشور السعيد. هذه المؤشرات وغيرها تجعل رفع الأستاذ بنكيران لشعار الإصلاح مجرد ذر للرماد في العيون، ومن أراد الإصلاح فليسلك سبله وفجاجه. * من الناحية الأخلاقية، كان لزاما على السيد محمد الوفا أن يقدم استقالته رفقة وزراء حزبه، لأن الرأي حر والقرار ملزم، ولما لم يفعل، كان لزاما على ذ. بنكيران أيضا أن يتفادى استوزاره، لأنه يسيء إلى العمل السياسي والحزبي عموما، ويخالف مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة المنصوص عليه دستوريا. من هي الجهة التي سيحاسبها المغاربة إن فشل الوفا في إصلاح صندوق المقاصة ؟ أيتحمل وزره حزب الاستقلال أم العدالة والتنمية ؟ لقد كان على ذ. بنكيران أن يعفي الشعب المغربي من هذه اللخبطة، لكنه – سامحه الله - لم يفعل. بما أن المغاربة يستحقون حكومة أفضل بشهادة مجموعة من مناضلي "العدالة والتنمية" أنفسهم، فإن هذه الحكومة لا تستحق من المغاربة إلا المعارضة، لكن كيف هي المعارضة ؟ المعارضة أمر لازم في المجتمعات، ولابد للنظام القوي من معارضة قوية، والمغرب يعرف في اللحظة الراهنة حكومة ضعيفة ومعارضة أضعف. ما هو الدور الذي يمكن أن يقوم به الاتحاد الدستوري للنهضة بالمغرب وأحد كوادره لم يستطع أن يصلح حتى الدارالبيضاء، والخطاب الملكي الأخير شاهد على ذلك. حزب الأصالة والمعاصرة لن يقوم بأي دور إيجابي في المغرب حتى يلج الجمل في سم الخياط، لأنه خرج من نفس الرحم التي خرج منها الاتحاد الدستوري والحزب الوطني الديمقراطي وغيرهما، وأشرفت على ولادته نفس القابلة. حزب الاستقلال أظهر ضعفه التنظيمي في مرحلة ما بعد عباس الفاسي، وأظهر ضعفه العددي في مسيرة الرباط، وأظهر ضعفه الأخلاقي حين توسل بالحمير. حزب الاتحاد الاشتراكي استفاد من المغامرة الشباطية ولم ينزل إلى الشارع مخافة ظهوره بمظهر يبكي عبد الرحيم وعمر في مثواهما، لذلك جمع "أنصاره" ممن لا يحفظون نشيد الحزب في مدرجات ملعب صغير. إذا احتضنت المؤسسات معارضة بهذا الضعف والوهن، فإن الشارع قد يحتضن معارضة أقوى. والسؤال المطروح هو كيف سيواجهها بنكيران، هل سيواجهها وحده أم سيستعين بالتماسيح والعفاريت؟