حلقتنا اليوم من برنامج "حكايات من زمن فات" الذي يقدمه "اليوم 24′′ لقرّائه الأعزاء خلال شهر رمضان المُعظم، عن أحد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم العظماء، والذي اشتهر برقة قلبه وعذوبة صوته وحلاوة تلاوته للقرآن، فقال له صلى الله عليه وسلم: لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود. ولد عبد الله بن قيس المكني ب أبي موسى الأشعري، في اليمن وكانت أمّهُ تُدعى "ظبية المكيّة بنت وهب" وقد أسلمت وتوفيت بالمدينة، ثم غادر اليمن فور أن سمع برسول الله صلى الله عليه وسلم هو ومجموعة من أصحابه إلى الحبشة حيث وجد عند النجاشي الصحابي الجليل جعفر بن أبي طالب وأصحابه، فقال له جعفر: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثنا وأمرنا بالإقامة، فأقيموا معنا، فأقم معه هو ورفاقه حتى رجعوا إليه صلى الله عليه وسلم، وقبل أن يلتقي بالرسول صلى الله عليه وسلم، قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: يقدم عليكم غدًا قومٌ هم أرقُّ قلوبًا للإسلام منكم، فقدِمَ الأشعريون وفيهم أبو موسى، فلمّا دَنَوْا من المدينة جعلوا يرتجزون يقولون: غدًا نلقى الأحبّة، محمّدًا وحِزبه، فلمّا قدموا تصافحوا، فكانوا هم أوّل مَنْ أحدث المصافحة، وإكراماً لهم أطعمهم صلى الله عليه وسلم من خيبر طُعْمة، وهي معروفة ب "طُعْمَة الأشعريين"، فيقول أبو موسى: فوافَقْنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر، فأسهم لنا، وما قسم لأحد غاب عن فتح خيبر شيئًا إلا لمن شهد معه، إلا لأصحاب سفينتنا مع جعفر وأصحابه، قسم لهم معنا". ومن يوم إسلامه أخذ أبو موسى مكانه العالي بين المؤمنين، فكان فقيهًا حصيفًا ذكيًّا، ويتألق بالإفتاء والقضاء حتى قيل عنه "قضاة هذه الأمة أربعة: عمر وعلي وأبو موسى وزيد بن ثابت"، وقيل "كان الفقهاء من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ستة: عمر وعليّ وعبد الله بن مسعود وزيد وأبو موسى وأبيّ بن كعب". واشتهر رضي الله عنه بأن كان من أهل القرآن حفظًا وفقهًا وعملاً، ومن كلماته المأثورة "اتبعوا القرآن ولا تطمعوا في أن يتبعكم القرآن"، وكان إذا قرأ القرآن اهتزت له قلوب المستمعين، حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «لقد أوتي أبو موسى مزمارًا من مزامير آل داود»، وكان عمر يدعوه للتلاوة قائلاً: "شوقنا إلى ربنا يا أبا موسى". كما اشتهر رضي الله عنه بأن كان من أهل العبادة المثابرين، وكان صواماً حتى في أشد الأيام حرا، فكان يقول "لعل ظمأ الهواجر يكون لنا ريّا يوم القيامة"، و"غزونا غزوةً في البحر نحو الروم، فسرنا حتى إذا كنّا في لُجّة البحر، وطابت لنا الريح، فرفعنا الشراع إذْ سمعنا مناديًا يُنادي: "يا أهل السفينة قِفُوا أخبرْكم"، قال: فقمتُ فنظرتُ يمينًا وشمالاً فلم أرَ شيئًا، حتى نادى سبع مرات فقلتُ: "من هذا؟ ألا ترى على أيّ حالٍ نحن؟ إنّا لا نستطيع أن نُحْبَسَ"، قال: "ألا أخبرك بقضاءٍ قضاه الله على نفسه؟"، قلتُ: "بلى"، قال: "فإنّه من عطّش نفسه لله في الدنيا في يومٍ حارّ كان على الله أن يرويه يوم القيامة"، فكان أبو موسى ينتقي من الأيام أشدها حراً ويصومها. واشتهر رضي الله عنه بأن كان موضع ثقة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه وحبهم، فكان مقاتلاً جسورًا، ومناضلاً صعبًا، فكان يحمل مسئولياته في استبسال، حتى قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم «سيد الفوارس أبو موسى»، ويقول أبو موسى عن قتاله: "خرجنا مع رسول الله في غزاة، نقبت فيها أقدامنا، ونقبت قدماي، وتساقطت أظفاري، حتى لففنا أقدامنا بالخرق". وبعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ولاه عمر على البصرة، فجمع أهلها وخطب فيهم قائلاً: "إن أمير المؤمنين عمر بعثني إليكم، أعلمكم كتاب ربكم، وسنة نبيكم، وأنظف لكم طرقكم"، فدهش الناس لأنهم اعتادوا أن يفقههم الأمير ويثقفهم، ولكن أن ينظف طرقاتهم فهذا ما لم يعهدوه أبدًا، فقال عنه الحسن -رضي الله عنه-: "ما أتى البصرة راكب خير لأهلها من ابي موسى"، وظل واليا عليها حتى قُتِلَ عمر رضي الله عنه. ثم ولاه عثمان رضي الله عنه على الكوفة، فقال عنه الأسود بن يزيد: لم أرَ بالكوفة من أصحاب محمدٍ صلى الله عليه وسلم أعلم من عليّ بن أبي طالب والأشعري". وفي فتح بلاد فارس أبلى القائد العظيم أبو موسى الأشعري البلاء الكريم، ففي موقعة التستر عام 20 ه، كان أبو موسى بطلها، وعندما تحصن الهُرْمُزان بجيشه في "تستر"، وحاصرها المسلمون أيامًا عدة، حتى أعمل أبو موسى الحيلة، فأرسل مائتي فارس مع عميل فارسي أغراه أبو موسى بأن يحتال حتى يفتح باب المدينة، ولم تكاد تفتح الأبواب حتى اقتحم جنود الطليعة الحصن وانقض أبو موسى بجيشه انقضاضًا، واستولى على المعقل في ساعات، واستسلم قائد الفرس، فأرسله أبو موسى إلى المدينة لينظر الخليفة في أمره. وعند وفاته رضي الله عنه كان يردد وهو على فراش الموت الكلمات التي اعتاد قولها دومًا: "اللهم أنت السلام، ومنك السلام"، وتوفي بالكوفة في خلافة معاوية سنة اثنين وخمسين. فرحم الله الصحابي الجليل ابي موسى وأنزله خير منزلة.