أخذ النفوذ والتدخل التركي، في المنطقة المغاربية، منحى تصاعديا في النقاش العمومي في الآونة الأخيرة حول التدخل الأجنبي. من ليبيا، حيث تقف الحكومة التركية بقوة السلاح إلى جانب حكومة الوفاق، المعترف بها دوليا، ضد الجنرال حفتر والمحور الإماراتي، إلى تونس والمغرب اللذين يُبديان تمنّعا في فتح أبوابهما أمام تركيا وهما راغبان في ذلك، مرورا بالجزائر التي تسعى إلى تحالف سياسي واقتصادي استراتيجي معها، احتلت تركيا موقعا مهما كفاعل أساسي، ولكنّه محيّر، ففي الوقت الذي تزعم أنها «قوة خيّرة» تدفعها سياسة خارجية «مبادرة وإنسانية»، تتوجس بعض النخب المحلية المتنفذة من النفوذ التركي، على اعتبار أنه مدفوع ب»عثمانية جديدة» تستثمر التاريخ والثقافة والدين للتمكين لمخططاتها في المنطقة. فهل لتركيا مخطط نفوذ وسيطرة فعلا في المنطقة المغاربية، أم إن القوى المتنفذة محليا تُضخم من الدور التركي لحماية نفوذ آخرين، خصوصا القوى الغربية؟ التمدد التركي برز الدور التركي بوضوح أكبر في المنطقة العربية والمغاربية بعد ثورات 2011. «لورا بيتل»، كاتبة صحافية بريطانية، تعقبت ذلك الصعود في مقالة لها بعنوان: «السياسة الخارجية التركية الحازمة». تقول «لورا» إن النفوذ التركي تفاعل مع ثورات الربيع العربي من خلال تقديم المساعدة والدعم لحركات الإسلام السياسي التي حملتها انتخابات الربيع العربي إلى السلطة في عدد من الدول. ربما كانت تركيا تسعى من وراء ذلك إلى بسط نفوذها بمساعدة الإسلاميين في أجزاء من المنطقة التي خضعت سابقا للإمبراطورية العثمانية، لكن يبدو أن ذلك الرهان تعرض لكبوة، ففي سوريا تدخلت روسيا لإنقاذ نظام بشار الأسد، بينما أطاح انقلاب عسكري في مصر، مسنودا بالمحور الإماراتي – السعودي، بأول رئيس مدني منتخب محمد مرسي في صيف 2013، والذي توفي في سجنه في يونيو 2019. رغم كبوة الإسلاميين الذين تصدروا الانتخابات في مصر، وتحجيم دورهم في تونس والمغرب والجزائر بعد 2013، إلا أن تركيا لم تتراجع عن نهجها في بسط نفوذها الاقتصادي والسياسي في المنطقة، بل لجأت إلى نهج جديد يقوم على إسناد وجودها الاقتصادي بالقوة العسكرية. وهو نهج تبلور بوضوح بعد فشل المحاولة الانقلابية ضد الرئيس التركي الطيب أردوغان في يوليوز 2016، في مناطق نفوذ اقتصادي وعسكري باتت واضحة للعيان. في الصومال، البلد الإفريقي المنكوب، تبلور الوجود التركي منذ 2011، اقتصاديا وسياسيا وعسكريا وثقافيا، بعد زيارة أردوغان إلى مقديشيو في عز مجاعة مُهلكة، بدت وكأنها زيارة إنسانية، أغدقت على إثرها أنقرة الكثير من المساعدات الإنسانية، ودشنت المستشفيات والمدارس. واليوم، تبدو تركيا الفاعل الرئيس في الصومال، حيث إنها تدير المطار الدولي في العاصمة مقديشيو، وموانئ الصومال، وباتت للخطوط الجوية التركية رحلات مباشرة إلى هناك. وفي السنوات الأخيرة توج التعاون التركي الصومالي بقاعدة عسكرية تركية للتدريب والتعليم، بل إن أردوغان ذهب أبعد من ذلك، حين عيّن مبعوثا تركيا خاصا بالصومال سنة 2018، على غرار ما تفعله الدول الكبرى، مكلفا بإدارة الصراعات بين الحكومة المركزية وقوى المعارضة المسلحة. في السودان، تكرر سيناريو مشابه تقريبا. ففي 2017، وإثر تزايد الضغوط على الرئيس السابق، عمر البشير، من قبل أمريكا والمحكمة الجنائية الدولية، فتح أبوابه أمام تركيا، اقتصاديا وعسكريا وسياسيا، ومن بين العديد من الاتفاقيات التي أبرمت بين البلدين، أثارت تعهدات أردوغان حول جزيرة سواكن، وهي عبارة عن مرفأ تجاري عثماني تاريخي متوقف عن العمل منذ زمن طويل، بإحيائه من جديد على النمط الثقافي والمعماري العثماني، ليكون محطة عبور للحجاج نحو مكة والمدينة، وتشييد مرسى للسفن المدنية والحربية، الأمر الذي أثار غضب مصر والسعودية والإمارات، التي رأت في الاتفاق محاولة تركية للوصول إلى البحر الأحمر، أي الفناء الداخلي للمحور الإماراتي السعودي المصري. مدفوعة بالمنطق عينِه، الذي يمزج بين القوة الرمزية والقوة المادية، أرسلت تركيا جنودها إلى منطقة الخليج، إثر الأزمة بين قطر ودول المحور السعودي – الإماراتي- المصري، استنادا إلى اتفاق عسكري بين قطر وتركيا سنة 2014، وجرى تفعليه على وجه السرعة بعد إعلان حصار قطر في يونيو 2017 من طرف دول المحور المذكور، حيث أرسلت تركيا الآلاف من العسكريين لحماية قطر من أي هجوم خليجي محتمل، في خطوة زادت من غضب السعودية والإمارات ومصر، الذين باتوا ينظرون إلى تركيا بوصفها تهديدا لاستقرار تلك الدول. ولم تسلم سوريا من التدخل العسكري التركي، حيث باتت توجد في الشمال السوري من خلال قواعد عسكرية، ومستشفيات ومدارس وبنيات تحتية، ومنحت لنفسها الحق في شن حملات عسكرية على القوى التي تصنفها إرهابية، مثل المليشيات الكردية، بغرض إبعادها من حدودها الجنوبية، على مسافة تُقدر ب 30 كلم في العمق السوري. الجرأة على استعمال القوة العسكرية بدا أكثر وضوحا في مناطق أخرى، فقبل أشهر أرسلت أنقرة سفنا حربية لمنع شركات نفط أوروبية من التنقيب عن النفط في شرق البحر الأبيض المتوسط، وهو قرار ينطوي على تحد صريح للأوروبيين، لا يقل جرأة وتحديا عن قرار آخر يتمثل في اقتناء منظومة دفاع جوي روسية إس 400، ضدا على رغبة الولاياتالمتحدةالأمريكية وحلف «الناتو»، الذي تعتبر تركيا من دول الأعضاء فيه. أما الخطوة الأخيرة، التي تشير إلى التحول الجذري في السياسة الخارجية التركية، أي إسناد القوة الاقتصادية والسياسية بالقوة العسكرية، فتتمثل في الاصطفاف إلى جانب حكومة الوفاق الوطني في ليبيا، ضد ميليشيات الجنرال خليفة حفتر والمحور الإماراتي الداعم له، وهو الاصطفاف الذي عبّر عنه اتفاق عسكري وأمني شامل، يسمح بإرسال قوات عسكرية تركية إلى ليبيا لحماية طرابلس من ميليشيات حفتر وقواته. ولا يبدو أن الوجود العسكري التركي في ليبيا سيكون مؤقتا، خصوصا إذا تمكن الأتراك من إقامة قاعدة عسكرية في طرابلس، وهو احتمال قائم بقوة. يفسر «زاك فيرتين» في مقالة له حول: « تركيا والوضع الجديد في إفريقيا: مخططات عثمانية أم مخاوف غير مبررة» هذه التحولات الحادة في السياسة التركية إزاء المنطقة، بثلاث ديناميات عرفتها تركيا بعد 2016: الأولى، تتعلق بتجميع القوة في منصب الرئاسة التركية الجديد، بعدما قام رجب طيب أردوغان، إثر فوزه في الانتخابات الرئاسية لسنة 2018، بتحويل نظام برلماني عمره يناهز القرن إلى نظام رئاسي، ركّز صنع السياسات الخارجية في القصر الرئاسي، وبسط سلطته أكثر على الجيش ووزارة الخارجية والاستخبارات، وغيرها من المؤسسات الاستراتيجية في الدولة. التحول الثاني، يتعلق بوضع الاقتصاد التركي المتأزم، ومؤشرات ذلك، انهيار الليرة التركية منذ صيف 2018، وهو مؤشر سلبي ألقى أردوغان اللوم بخصوصه على متآمرين أجانب. فانخفضت ثقة المستثمر وارتفعت البطالة والتضخّم.. وهي تطورات لا شك أنها حدّت من الأجندات على جميع أنواعها، بما في ذلك السياسة الخارجية. أما الدينامية الثالثة، فهي هوس أردوغان: الانتخابات. لكن «فيرتين» لا يحسم فيما إذا كانت تركيا مدفوعة بحماية مصالحها ومبادراتها الإنسانية، أم إن ما يجري يُنم عن استراتيجية محكمة تسعى إلى السيطرة وبسط النفوذ. هل المنطقة المغاربية أولوية؟ الجواب يرتبط بفحص أولويات السياسة الخارجية التركية، في ارتباط بقدراتها الاقتصادية والعسكرية، لأن البعض يقدم تركيا إلى الرأي العام العربي على أنها قوة عظمى، قادرة على خلخلة قواعد اللعبة في المنطقة، وهو ادعاء لا تزكيه موازين القوى الاقتصادية والعسكرية والسياسة في المنطقة. يمكن في هذا السياق، فحص الخطاب الإعلامي والبحثي الصادر عن دول المحور الإماراتي السعودي والمصري، والذي يرى في المبادرات العسكرية والسياسية التركية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا رغبة حثيثة لإحياء بقايا النفوذ العثماني القديم. ويرون في الخطابات الصادرة عن أردوغان ذاته، ما يؤكد قراءتهم. على سبيل المثال، يخلص عبداللطيف حجازي، في مقالة له بأحد مراكز الدراسات الإماراتية للأبحاث والدراسات المتقدمة حول النفوذ التركي في ليبيا إلى هذا الطرح «منذ سقوط نظام «معمر القذافي» في عام 2011، وتركيا تقدم دعما لتيار الإسلام السياسي في ليبيا، الممثل بالأساس في «حزب العدالة والبناء»، ولمدينة «مصراتة»، أكبر داعم للإسلاميين بالغرب الليبي. كما تقدم أنقرة دعما لتحالف قوات «فجر ليبيا»، في مواجهة قوات الجنرال خليفة حفتر، وهو ما تسبب في توتر علاقاتها مع الشرق الليبي، حيث وجه قائد الجيش الليبي (غير معترف به) في الشرق «خليفة حفتر» ورئيس حكومة الشرق الليبي «عبدالله الثني» اتهامات لتركيا بدعم «الإرهاب» في ليبيا، وأصدر «الثني» قرارا بإيقاف التعامل مع كافة الشركات التركية في ليبيا ردا على سياساتها الداعمة لتحالف «فجر ليبيا». ويتبنى مركز الشرق الأوسط للاستشارات السياسية والاستراتيجية المقاربة عينها، فيما يخص تحليل السياسة التركية في ليبيا والمنطقة، بأن وراء السعي نحو النفوذ في المنطقة فرض الوصاية التركية على دولها، وذلك من خلال «إصرار تركيا على دخول بوابة ليبيا عبر طرابلس ودعم «الإخوان» في حكومة الوفاق التي يترأسها فايز السراج»، لأن أردوغان «يضع نصب عينيه زيادة على وجوده في هذه المنطقة، تحقيق أقصى المصالح الممكنة لفائدة بلاده، بغض النظر عن مسار تنمية هذه الدول المصطدم بالتحالفات المضادة والخلافات التي يبدو أن تركيا تستفيد من تغذيتها لتكون الشريك التجاري والاقتصادي والعسكري التفاضلي لهذه الدول». وبحسب هذا المركز، فإن تركيا تتجه، في عهد أردوغان، إلى «الإسراع في تنفيذ مخطط قديم جرى إحياؤه عقب الربيع العربي، والمتمثل في دعم وتوسيع النفوذ التركي في العالم العرب والإسلامي». وأن المنطقة المغاربية تعتبر البوابة الرئيسة التي تعزز النفوذ التركي من خلالها. ولعل سرعة تمرير حكومة أردوغان اتفاق التعاون الأمني مع حكومة الوفاق الليبية عقب الاتفاق البحري يشير إلى دلالة واضحة على أن رغبة تركية جامحة في استقطاب ليبيا». ويفسر هذا المركز أن مساحة النفوذ التركي الاقتصادي زادت في بعض الدول المغاربية بعد صعود أحزاب الإسلام السياسي في بعض دوله، وأن السبب الرئيس وراء الزيادة الحادة في الصادرات التركية إلى بعض الدول العربية منذ 2011، تعود إلى أن «الربيع العربي» قد أثّر سلبا على الوضع الاقتصادي للدول، وساعد على تحول في العلاقات السياسية بين تركيا وهذه الدول. ولذلك، فإن إصرار تركيا على التقارب مع ليبيا حتى وإن اقتضى إرسال قوات عسكرية من أجل الاستعراض على الأغلب، تبرره المصلحة المالية وتحقيق تفوق تجاري، ولهذا السبب تعمل السلطات التركية على زيادة فتح أبواب السوق الليبية أمام البضائع التركية. ولكن، ليس هذا هو المبرر الوحيد لزيادة الدعم التركي للسراج و«الإخوان» في ليبيا، فتقديم الأتراك الدعم، من شأنه أن يساعد على بسط نفوذ «الإخوان» واستمرارهم في السلطة، ثم إنه يُمكن في النهاية من تعزيز ولاء أصحاب صنع القرار في طرابلسلأنقرة». صحيفة «البيان» الإماراتية كتبت في افتتاحية لها، بداية يناير الجاري، عما وصفته «المغامرة التركية»، وكتبت أن «الرئيس التركي تراوده أحلام يقظة بالعودة إلى ما يعتبره إرثاً عثمانيا». أما عبداللطيف حجازي، من مركز المستقبل للدراسات والأبحاث المتقدمة (الإمارات)، فقد اعتبر أن «تكثيف تركيا لتحركاتها تجاه دول الجوار الليبي، خاصة الجزائروتونس اللتين تقومان بجهود مكثفة لدفع الحل السياسي في ليبيا، حيث تتطابق وجهتا نظرهما بشأن حل الأزمة الليبية مع وجهة النظر التركية، خاصة فيما يتعلق بضرورة إشراك الإسلاميين في الحكم، هو ما سيُمكن أنقرة من خلق جبهة إقليمية في مواجهة الجبهة التي تقودها مصر الرافضة لإشراك تيارات الإسلام السياسي في الحكم». بالمقابل، لا يرى باحثون غربيون أن المنطقة المغاربية تشكل أولوية متقدمة ضمن الأولويات الرئيسة للسياسة الخارجية التركية، وهو طرح يقول به الباحث في معهد «بروكينغز»، زاك فرتين، على اعتبار أن الأولويات الخمس الأولى في السياسة الخارجية التركية ليس من بينها منطقة شمال إفريقيا، ويتعلق الأمر بسوريا، منطقة شرق البحر المتوسط، وكيفية إدارة العلاقات المعقدة مع القوى الكبرى وأساسا الولاياتالمتحدةوروسيا وأوروبا (بما في ذلك الدخول إلى الاتحاد الأوروبي)، ثم أولوية تسويق أسلوبها الخاص في التوليف بين القيم الإسلامية والممارسات الليبرالية والحداثية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. يمكن اختبار هذا الطرح من خلال فحص مدى التهديدات التي تواجه تركيا بالفعل، حيث تبدو، مثلا، مهمومة بأمنها القومي المباشر على حدودها الجنوبية، بفعل الدعم الأمريكي والفرنسي والألماني للقوات والتنظيمات الكردية، السياسية منها والعسكرية، وهي قوى غربية مافتئت تستعمل الورقة الأرمينية، أيضا، لإضعاف أنقرة وتحجيم دورها، وتبدو المواجهة على هذا الصعيد بين تركيا وفرنسا أكثر وضوحا، إلى حد أن الرئيس الفرنسي السابق، فرانسوا هولاند، اعتبر يوم قررت تركيا الدخول عسكريا إلى شمال سوريا لإبعاد الخطر الكردي عن حدودها، أن فرنسا مدينة للأكراد ويجب عليها الوفاء بذلك الدين، في إشارة إلى الحلم الكردي في دولة مستقلة في المنطقة. ولأنها تدرك أن قوة اقتصادية بدون الوصول إلى مصادر آمنة للطاقة، وخصوصا الغاز والنفط، تبقى قوة معرضة للخطر، جعلت تركيا من منطقة شرق المتوسط أولوية لها، تهدد من أجلها بقوة السلاح، إن استفردت القوى الأوروبية وإسرائيل بالتنقيب عن النفط فيها من دونها، كما سبقت الإشارة، ويبدو أنها كانت السبب الرئيس وراء دعم أنقرة لحكومة السراج في طرابلس، والمخاطرة بمواجهة عسكرية مع المحور الإماراتي المصري الفرنسي في ليبيا، لا لشيء إلا لأنها تعلم أن إقصاءها من أي اتفاق حول التنقيب عن النفط في شرق المتوسط يكبل قوتها الاقتصادية فعلا، وقد يخنقها سياسيا في المستقبل. وتمثل القضية الثالثة، أي القدرة على إدارة الصراع بين روسيا وأوروبا وأمريكا، والبحث لها عن موقف وسط التناقضات بين تلك القوى، أولوية أخرى، فهي تبدو قريبة من روسيا في سوريا، لكنها ضدها في ليبيا، هذا الأمر يقتضي قدرة على التحمل والإدارة، وهو ليس بالسهل. وهذه سياسة سبق أن جرّبها العثمانيون في آخر عهدهم السياسي، خصوصا السلطان عبدالحميد، الذي أدار تناقضات عديدة حول نفوذ دولته، أطالت من عمرها، لكنها سقطت في النهاية، وهو الدرس الذي يدركه أردوغان جيدا، وهو الذي مافتئ يُعلِي من تاريخ أجداده، ويعلم أن اللعب على التناقضات بدون استراتيجية طويلة المدى، قد يعرض بلاده إلى التفكك مرة أخرى. أما الأولوية الرابعة، التي أشار إليها «زاك فرتين»، فتتعلق بتسويق أسلوبها الخاص في المصالحة بين القيم الإسلامية والحداثة. يمثل أردوغان في هذا السياق نموذج القائد ذي الكاريزما، الذي يستمد شرعيته من الانتخابات ومن منجزات حزبه في الحكومة منذ 2002. نموذج تركي يوازن بين القيم الإسلامية التقليدية والمعتدلة، وبين الممارسة الليبرالية الحديثة، ما يجعل من أردوغان الشخصية الأكثر شعبية في المنطقة العربية. كما يجعل منه نموذجا يمثل «تهديدا وجوديا للأنظمة الملكية الخليجية». وبالتالي، يجري «النظر إلى عداوات الحكام الملوك والأمراء في الخليج لتركيا، ليس كرد فعل لانحياز أنقرة لصالح قطر أو بسبب روابطها مع جماعة الإخوان المسلمين فحسب، بل نتيجة انعدام الأمان في الأنظمة الملكية أيضا، ولاسيما بعد ثورات الربيع العربي في العام 2011». تعضد مؤشرات التعاون الاقتصادي بين تركيا والدول المغاربية هذا الطرح، آخر المعطيات التي جرى الكشف عنها، مؤخرا، تشير إلى أن الصادرات التركية نحو دول شمال إفريقيا خلال ال11 شهرا الأولى من 2019، تصل إلى نحو 9.3 مليار دولار، أي ما يعادل 5.9 في المائة فقط، من إجمالي الصادرات. وحسب هيئة الإحصاء التركية، فإن أكثر الدول التي تصدر إليها تركيا هي دول الاتحاد الأوروبي، وبلدان الشرقين الأدنى والأوسط .وبلغت قيمة صادرات تركيا إلى دول الاتحاد الأوروبي خلال ال11 شهر الأولى من 2019، ما يناهز 77 مليار دولار، بحصة قدرها 48.9 في المائة من إجمالي قيمة الصادرات. تليها دول الشرقين الأدنى والأوسط بقيمة قدرها 28.9 مليار دولار، بحصة قدرها 18.4 في المئة. بل إن الدول الأوروبية غير الأعضاء في الاتحاد الأوروبي تأتي قبل الدول المغاربية، بنسبة 7.2 في المائة من إجمالي الصادرات التركية خلال الفترة عينها، مقابل 5.2 في المائة لصالح بلدان أمريكا الشمالية، دون ذكر قيمة الصادرات عينها. وتعتبر تركيا أن ظروف المنافسة المتزايدة في الاقتصاد العالمي، تجعل من الضروري دخول أسواق جديدة، وكذلك، زيادة الحصة في الأسواق الحالية. ويعتبر تركيز التصدير على بلدان محددة أمرًا محفوفًا بالمخاطر، ولذا، فإن دخول أسواق جديدة يعد أمرا بالغ الأهمية لاستدامة التصدير. وتهدف تركيا، من خلال «الخطة الرئيسة للتصدير»، إلى زيادة حصة الواردات من البلدان المستهدفة، وتحقيق تنوع في الأسواق. ومعلوم أن تركيا ارتفعت قيمة صادراتها في السنوات الماضية بأضعاف، من 36 مليار دولار سنة 2002، إلى أزيد من 156 مليار دولار سنة 2019. بينما تصل الواردات إلى أزيد من 183 مليار دولار، وإن تراجعت خلال الأشهر 11 الأولى من سنة 2019، بنسبة 11 في المائة. أمنيا، تبدو المنطقة المغاربية بعيدة عن أن تشكل تهديدا لتركيا، على خلاف سوريا والعراق وشرق المتوسط. واقتصاديا تبدو المنطقة المغاربية مجرد سوق جديدة من الأسواق التي تبحث عنها تركيا لتصدر منتجاتها المحلية، لكن تبدو المناكفة السياسية حاضرة بين تركيا وخصومها في المحور الإماراتي المصري. الأتراك يقولون إنهم لم يذهبوا إلى الصومال أو السودان من أجل المنافسة والصدام، لكنهم وقعوا في ذلك دون أن يكون الدافع الأول لهم الذهاب إلى هناك. لكن هناك عوامل أخرى تبدو سببا في إصرار تركيا على المواجهة مع المحور الإماراتي، خصوصا في ليبيا، ويتعلق الأمر بالعلاقات الشخصية بين الرئيس التركي أردوغان والحكام الجدد في الإمارات والسعودية، وهي علاقات يطبعها العداء والاحتقار المتبادل، خصوصا بين أردوغان وولي العهد في الإمارات محمد بن زايد، وولي العهد السعودي محمد بن سلمان. يتعلق الأمر إذن، بصراع نفوذ سياسي، أساسا، حيث يرى الجيل الجديد من حكام الخليج أن تركيا تمثل عائقا لهم أمام بسط نفوذهم على المنطقة باستعمال المال. لذلك، كلما تقدمت تركيا في منطقة ما، بما فيها المغرب والجزائر، إلا وارتفع صوت محذر يربط النجاح التركي بالماضي العثماني، وهو الصوت الذي ارتفع مؤخرا في المغرب والجزائر، حين طالبت الحكومة المغربية بتعديل اتفاقية التبادل الحر بسبب الأضرار الاقتصادية التي تلحقها بالاقتصاد الوطني، أو حين دعت الجزائر أردوغان إلى زيارتها، حيث أبرمت اتفاقيات اقتصادية وعسكرية وثقافية، ظهر معها أن هناك تقاربا كبيرا في الرؤى بين البلدين.