لمن ستصوت يوم 26 أكتوبر؟ – - ... لا أدري بعد... - وأنت؟ - ... لا أدري أنا الآخر... الحقيقة ما زلت حائرا.. ربما يكون هذا المقطع الأكثر تكرارا في حوارات معظم التونسيين هذه الأيام، داخل العائلة الواحدة وبين الأهل والأصدقاء حول الانتخابات البرلمانية القريبة . طبعا هذا غير وارد بين من سبق له حسم خياراته منذ فترة طويلة لكن أغلب هؤلاء هم عموما من المسيسين، وبعضهم من المؤدلجين أصلا، وهي فئة غالبا ما تكون ورقتها الانتخابية «محجوزة» سلفا قبل أن تضعها في الصندوق. القطاع الأعرض الآن، أو المزاج السائد، هو ذاك المتردد والحائر في اختيار من سيمنحه صوته وثقته في الانتخابات التي ستشكل المشهد السياسي التونسي للخمس سنوات المقبلة بعد مرحلة انتقالية على فصول مختلفة منذ الإطاحة بالرئيس بن علي في كانون الثاني/يناير 2011. هذه الفئة المترددة كثيرا ما تحدث الفارق في انتخابات بلدان عديدة إن هي توجهت في نهاية المطاف للتصويت لطرف بعينه، وأكثر ما يجمع بينها هو عدم الرضى عن المرحلة السابقة وأداء السياسيين فيها، خاصة حركة «النهضة» وحليفيها «التكتل» و»المؤتمر»، لكنها في المقابل لم تجد في أداء المعارضة ل «ترويكا» الحاكمة سابقا ما يمكن أن يشفي غليلها بالكامل أو يقنعها بأنها يمكن أن تشكل بديلا مقنعا بلا شكوك. ما يزيد من هذه الحيرة التي تحول دون معرفة الخيارات المزمعة للتونسيين بعد أقل من أسبوعين أن القانون الانتخابي في البلاد يمنع مكاتب استطلاعات الرأي (عددها زهاء الثلاثين) من نشر نتائج استطلاعاتها قبل وخلال الحملة الانتخابية البرلمانية والرئاسية. ثم إن كثرة عدد الأحزاب في تونس بعد الثورة (أكثر من مائتين) زاد هذا التشوش لدى قطاعات واسعة من الجمهور فمن أجل الظفر بمقاعد البرلمان ال 217 تتنافس 1327 قائمة بين حزبية وائتلافية ومستقلة مع أن أكثر من سبعين من هذه الأحزاب المائتين لم تستطع التقدم بقائمة واحدة في دائرة واحدة ورغم هذه الحيرة وزحمة القائمات والمرشحين فإن هناك خطوطا عريضة عامة يمكن أن ترسم المشهد الانتخابي التونسي كالتالي: - حركة «النهضة» الإسلامية ما زالت تتصدر الساحة كأهم حزب سياسي ظل متماسكا رغم ما اعتراه من أزمات نتيجة توليه مقاليد حكم لم يكن مهيئا له ولا ممتلكا لرجال جديرين بتحمل أعبائه الثقيلة. وعلى عكس انتخابات تشرين الأول/اكتوبر 2011 الذي حصل فيها هذا الحزب على تعاطف الكثيرين أو توسمهم الخير فيه، من المستبعد أن يحصل هذه المرة على غير أصوات مناضليه الخلص وعائلاتهم الوفية له. - حزب «نداء تونس» هو الحزب المرشح أكثر من غيره لنيل أصوات كل الساخطين من «النهضة» وسياساتها غير أن هذا الحزب الليبرالي أثار من اللغط الكثير وتعرض لعديد الانقسامات والفضائح . هو خليط من تيارات ورؤى كثيرة، من بينها أنصار النظام القديم، يبدو أن لا شيء يجمعها الآن أكثر من شخصية زعيمه الباجي قايد السبسي الذي قد يكون نقطة قوة هذا الحزب الرئيسية بقدر ما هو نقطة ضعفه القاتلة. - الحزبان اللذان تحالفا مع «النهضة» سابقا ليشكلا معها ما عرف ب «الترويكا» («التكتل» و»المؤتمر») خرجا من هذه التجربة ب «إصابات بالغة». ورغم كل ما يقوله زعماء هذين الحزبين (يسار الوسط) بأنه لولا جهودهما وحرصهما على الوفاق لانزلقت البلاد إلى أتون فتنة حقيقية فإن لا أحد ينظر إلى تجربتهما في الحكم إلا من زاوية تسجيل المآخذ لا تعداد المنجزات الحقيقية أو المفترضة. - الأحزاب الأخرى بتلويناتها المختلفة من قومية ويسارية لم تشفع لها معارضتها الشديدة لحركة «النهضة» كي تراكم رصيدا شعبيا جديدا خارج حاضنتها التاريخية التقليدية وبعيدا عن مجرد تسجيل المآخذ وإبداء الاعتراضات، رغم أن هذه الأحزاب هي من دفع الثمن الأعلى في الاغتيالات السياسية التي عرفتها البلاد. - المستقلون تراجع وزنهم ومكانتهم مع احتداد الاستقطاب السياسي في البلاد بين الإسلاميين ومعارضيهم. ومع ذلك فقد يكون لهذه الفئة وزن متواصل في المناطق الداخلية حيث ما زال الناس ينظرون إلى الخصال الشخصية للمرشحين وسمعتهم قبل النظر إلى اليافطة الحزبية التي يحملونها. ربما يكون الخيار الأمثل الآن في تونس ألا تفرز انتخاباتها المقبلة عن فوز طاغ لأي كان بحيث قد تحتل «النهضة» المرتبة الأولى ولكن ليس بالنسبة التي سبق لها الحصول عليها وقد يأتي مساويا أو لصيقا لها حزب «نداء تونس» منفردا أو مع آخرين. هذا سيقود حتما للتوافق اللازم لمرحلة صعبة من البناء ومحاربة التطرف تنتظر البلاد، فضلا عن الملف الاقتصادي والاجتماعي الذي بات منذرا بالويلات والذي لا سياسة متاحة أصلا إذا ما تواصل تدحرجه الخطير مع تراجع قيم العمل من أجل الوطن واحترام القانون وهيبة الدولة. القدس العربي