منسوب الدين في بلادنا – نحن المسلمين – مرتفع جدا. وعلاقتنا بالدين قديمة جدا، تعود إلى خمسة عشر قرنا خلا. نؤمن بالله وتوحيده؛ ونؤمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم؛ وبرسالات من سبقه من إخوته أنبياء الله ورسله عليهم السلام، لا نفرق بين أحد منهم. وعلاقتنا بدين الإسلام قوية وحميمة وصلبة، لا تتأثر بموجة إنكار، ولا بحركة إلحاد، ولا بخطاب تنصير، ولا بنقد باطل. وهذه العلاقة لا تشبهها أية علاقة أمة أخرى بدينها.. صحيح أن المسيحية تعد من أكبر الأديان في هذا العالم، ولكنها لا تشبه من حيث منسوب التدين بها وارتفاعه منسوب تدين المسلمين وارتباطهم بدينهم. إن مساجدنا مكتظة بآلاف الجباه الساجدة، والقلوب الخاشعة، والأصوات الموحد، وإن كان ذلك مقتصرا – كما يقول البعض – على صلاة يوم الجمعة، وأيام العيد، وفي شهر رمضان. لكن كنائس الأمم الأخرى ومعابدهم ودور عبادتهم، تظل خاوية على عروشها أياما وأسابيع وشهورا وأعواما. لا يرتادها إلا عمال النظافة؛ وفي أوقات مختلفة ومحددة. وعلاقتنا بديننا نحن المسلمين، رغم أنها عميقة وثابتة، إلا أنها لم تصنع منا مجتمعا فاضلا وخاليا من الجريمة، والأخلاق السيئة، والقيم الهابطة. وقد يكون من سنن المجتمعات الإنسانية أن تعيش ظواهر اجتماعية شتى؛ مستقيمة ومنحرفة.. صحيحة وسقيمة. غير أن المجتمع الفاضل، حقا، هو الذي يعمل على مواجهة هذه الظواهر وصدها بإرادة قوية تطمح إلى الأحسن؛ وعزيمة غيورة تسعى إلى تحقيق الاستقامة ولو في حدها الأدنى، أو بنسب مرتفعة تبعث على الرضا والتفاؤل. ولعلنا، نحن المسلمين، يسكننا هاجس بناء مثل هذا المجتمع في نفوسنا وعلى أرضنا، وإن كانت إكراهات عديدة – وأراها سياسية استبدادية في الحكم والعدل والتربية والتعليم – تقف في كثير من الأحيان في وجه إرادتنا الصادقة وعزيمتنا الغيورة. … ولكن.. تديننا المتدفق والهادر والعميق، لم يحم حصانة عدد كبير من الملتزمين به من الاختراق .. وأحيانا من الانهيار. نؤمن بالله ونوحده، ولكننا لا نتورع عن مساندة الشرك بقصد منا أو بغيره. نحب بعضنا البعض كمسلمين، ولكننا لا نجد حرجا في اتهام بعضنا بالغش أو التزوير أو الكذب. نحرص على القيام بشعائرنا الدينية، ولكننا لا نتوقف عن الاستهزاء بها قولا وفعلا وتقريرا .. ورسومات. …. لماذا هذه الازدواجية في فهمنا لديننا القيم ؟ لماذا نلتزم بأوامر ربنا ونواهيه ثم نسقط في المحظور والمكروه والمحرم ؟ ولماذا تأخذنا العزة بالإثم حين نواجه بعضنا بالنصح والتنبيه والتحذير وقولة: اتق الله في دينك ونفسك ؟. …. بالتأكيد .. لأن حصانتنا الدينية ضعيفة جدا .. بل عند بعضنا تكاد تكون صفرا على اليمين وآخر على الشمال. نعم.. قد يسرق بعضنا .. وقد يكذب.. وقد يزني .. وقد نرتكب كثيرا من المعاصي والذنوب.. فلسنا بدعا من الأمم والشعوب والمجتمعات. لكن أن نعمد إلى قلب مفاهيم الدين وحقائقه.. وإلى الطعن في المسلمين ورميهم بكل الموبقات،. وإلى الاستهزاء بشعائرنا التي رتب الله عليها أحكاما وجزاءات. فإن ذلك دليلا على أن حصانتنا الدينية مخترقة، وأن رصيدها من عملة الإيمان لا يسمح لنا بفتح حساب في بنك الآخرة. إن حصانتنا الدينية تضعف ويقل رصيدها، بسبب عدد من الأمور؛ أولها: جهلنا بالدين وأحكامه ومقوماته، وعجز علمائنا عن القيام بأدوارهم المنوطة بهم. ثانيا: ضمور وعينا السياسي، وقلة معرفتنا بأعداء الدين وأساليب محاربتهم له. ثالثا: عدم إدراكنا لمقاصد وسائل الإعلام التي يحسن أعداء الدين توظيفها في هدم أساسه الراسخ وبنيانه المتصاعد. ….. ومن صور هذه الأمور الثلاثة؛ أذكر لكم مثالين كان موقع وسيلة التواصل الاجتماعي الفيس بوك مسرحا لهما، بدون أن يفطن أصحابهما لخطورتهما، بل ويحسبونهما شيئا هينا وهما عند الله عظيم: أول هذه الأمثلة، هي: أن عددا من مستعملي هذا الموقع سارعوا ، وأغلبهم ممن كنا نحسبهم على درجة من الذكاء الثقافي والسياسي ومن العمق الديني، إلى نشر صورة للمستشارة ميركل بعد استضافة ألمانيا للاجئين سوريين، مكتوب تحتها: "ميركل المسلمة وحكام المسلمين الكفار". وقد استغربت جدا لضحالة الوعي، بشكل عام، لدى ناشري هذا المنشور، إذ اعتبروا أن ميركل مسلمة بمجرد أنها استضافت 500 لاجئ سوري على أرض بلادها المسيحية، بينما كفروا جميع حكام المسلمين لكونهم تقاعسوا عن القيام بنفس الأمر. وبذلك غيروا أحكام الإيمان والكفر، فأصبح التثليث المسيحي الذي يقوم على أن الله ثلاثة "الآب والإبن وروح القدس" هو أساس الإسلام وروح الإيمان، معارضين الله عز وجل الذي قال، عن أمثال ميركل وغيرها من بني ديانتها، في سورة المائدة الآية 73 "لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلَّا إِلَٰهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ". لقد نجح المنشور المسموم في استغلال سذاجة ناشريه وضعف حصانتهم الدينية، وقلب معايير الإيمان والكفر من داخل منظومتهم التدينية دون أن يشعروا بخطورة فعلهم ومناقضته لجوهر إسلامهم. ولو كانوا على درجة متوسطة من العلم بدينهم، ومنهم دكاترة ومثقفون وصحفيون، لفندوا باطل المنشور واقعيا قبل دينيا، لأن تركيا، أو لنقل أن أردوغان الكافر (بمنطق منشورهم) استضاف أكثر من مليوني لاجئ سوري، دون أن يطبل له أحد أو يزمر، ودون أن يعمل أصحاب المنشور المأفون على إدخاله ضمن الفائزين بجنة الإيمان المقلوب. أما المنشور الثاني الذي عمل آخرون على وضعه بصفحاتهم الفيسبوكية، فيتعلق بصورة رجل صيني مكتوب تحتها: " يطلب مني التجار المسلمون تزوير بضاعتي بوضع الماركات العالمية، ثم يرفضون تناول الطعام الذي أقدمه لهم لأنه "غير حلال". والمنشور خطير جدا، لأنه أجاد في تصوير المسلمين على أنهم أناس مخادعون ومنافقون وسيئون. وأنهم يتلاعبون بدينهم وغير صادقين في الالتزام بقيمهم وأخلاقهم. وقد انخدع ناشرو هذا البهتان فروجوا له لجهلهم بدينهم وواقع الأمم من حولهم، ولو استعملوا قليلا من الذكاء المكتسب من قراءتهم لأخبار الدنيا واطلاعهم على طبيعة أخلاق بعض الشعوب، لأدركوا أن وجود رجل صيني بالمنشور كاف للرد على هذا الهراء. فالصين تعد أكبر دولة في العالم (وربما حتى في المريخ) تجيد تزوير "الماركات" العالمية في الألبسة والأطعمة والساعات والنظارات والتكنولوجيات وغيرها، وقد اشتكت عدد من الدول من هذه القرصنة الصينية ومخالفتها لأخلاقيات التجارة والصناعة. لذلك لم يكن هذا الرجل الصيني في حاجة إلى مثل هذا "التحريض" لا من المسلمين ولا من الوثنيين، لأنه حريص، أكثر من أي غشاش في العالم،على القيام بهذا العمل باعتباره من صميم مبادئه التجارية المقدسة. ولو كان أصحاب المنشور أذكياء حقا، لعملوا على وضع صورة رجل أمريكي أو ألماني أو ياباني بمنشورهم حتى يصبح قوله أقرب إلى التصديق بنسبة مئوية ما. كما أن ناشري هذا المنشور الدال على ضعف حصانتهم الدينية، لم ينتبهوا إلى أن كلام الصيني المتخيل، يتهم جميع التجار المسلمين وليس بعضهم، مما يعطي اليقين أن هدف أصحاب المنشور مرسوم بدقة، وأن الغاية منه هو ضرب المسلمين في صميم أخلاقهم التي تشكل رأس مالهم في مواجهة الرأسمالية المتوحشة والصهيونية الربوية. …. إن ناشري مثل هذه المنشورات الرديئة والقذرة، وإن كانوا ممن يرتادون المساجد بإيمان وإخلاص، يكشفون، بجهلهم لدينهم وقلة معرفتهم بأساليب أعدائهم، عن حقيقة رصيدهم من الحصانة الدينية: إنه صفر على جهة اليمين وصفر على جهة الشمال.