التصوف على "طريقة الجنيد السالك" حَسب ما سُطِّر في منظومة فقيه القرويين ابن عاشر، ووِفق ما تَوارث في الأمة، يتقعّد على ثمانية شروط ومبادئ: المبدأ السابع في طريق التصوف: مجاهدة النفس (1): يقول الناظم رحمه الله يُجَاهِدُ النَّفْسَ لِرَبِّ الْعَالَمِين وَيَتَحَلَّى بِمَقَامَاتِ الْيَقِين النفس هي: اللطيفة الربانية المدركة المودعة في الإنسان، قال تعالى: "فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي" [ص، 71]، وهذه اللطيفة إذا تعلقت بالمدارك سُمِّيت عقلا، وإذا جنحت إلى القذارة سُمِّيت نفسا، وإذا شَرُفت على الصفاء والوصال سُمِّيت روحا، وبتقلبها بين النفس والروح تسمى قلبا. وكانت قبل تركيبها بالجسم طاهرة صافية، زكية ربانية، لذلك سُمِّيت روحا، ثُم تطبعت في تركيبها بالجسم، واتصفت بصفاته الشهوانية الذميمة، وذلك لبعدها عن عالمها الروحي، وقربها من عالمه المادي، حتى أخرجها ذلك عن طبعها، ولوَّنها بألوانه.. ومن ثَم، لا فلاح إلا بتزكيتها حتى تذهب النفسانية وتغلب الروحانية، يقول الحق سبحانه: "قَدْ اَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا" [الشمس، 9-10]. فالنفس موطن الغفلة، وأرض الشهوة.. والنفس هي الحجاب؛ لأنها تدعو إلى خلاف رضا الله تعالى، قال ابن عطاء الله في تاج العروس: "للظاهر جنابة تمنعك من دخول بيته وتلاوة كتابه، وللباطن جنابة تمنعك من دخول حضرته وفهم كلامه، وهي جنابة الغفلة"[1]، وقيل: "ما من داعية لله دعا إليها خلقه ليتقربوا بها إليه، إلا ولهوى النفس داعية تخالفها". فالإنسان مبتلى بمحبتها وهي مبتلاة بعداوته. ولذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك"[2]، وقال عليه الصلاة والسلام: "المجاهد من جاهد نفسه في الله"[3]. ولأجل أنها عدو محبوب وعدو من داخل البيت، كانت أضر الأعداء، وكان بلاؤها أعظم البلاء، وكان علاجها ومجاهدتها أصعب الأشياء. لذلك حث الشرع على مجاهدة النفس. قال الراغب الأصفهاني في مفردات غريب القرآن: "الجهاد والمجاهدة: استفراغ الوسع في مدافعة العدو، والجهاد ثلاثة أضرب: مجاهدة العدو الظاهر، ومجاهدة الشيطان، ومجاهدة النفس، وتدخل ثلاثتها في قوله تعالى: "وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ" [الحج، 76]، وقوله: "وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ" [التوبة، 41]، وقوله: "اِنَّ الَذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّه" [الاَنفال، 73]. وقال الله تعالى: "وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا" [العنكبوت، 69]، فالآية نزلت قبل فرض القتال، لذا قال القرطبي في تفسيره بأن: "مجاهدة النفوس في طاعة الله هو الجهاد الأكبر"، وفي تفسير البغوي: قال الحسن: "أفضل الجهاد مخالفة الهوى"، وفي التفسير الكبير: "أطلق المجاهدة، ولم يقيدها بمتعلق، ليتناول المجاهدة في النفس الأمارة بالسوء والشيطان وأعداء الدين.. قال ابن عباس: "جاهَدوا أهواءهم في طاعة الله". ومن ثمار مجاهدة النفس قوله: "لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا"، والهداية: الإرشاد والتوفيق بالتيسير القلبي والإرشاد الشرعي، كما قال صاحب التحرير والتنوير في تفسيره، فالإشراق الروحي والسداد الرباني والفَتح الإلهي لا يَتحققُّ إلاَّ لِمَن جاهد نفسه في الله حقَّ جهادِه، فهداهُ الله السبل الواضحة.. فجهاد العدو منفصل عن الإنسان، وأما جهاد النفس فمتصل به، لذلك فمجاهدة النفس هي أصل الأصول الذي ينبني عليه كل بناء، وقد اعتنى الصوفية على مرّ العصور بتربية النفس وتهذيبها، وقسموا النفس إلى مراتب: الأمارة بالسوء واللوامة والمطمئنة، وعملوا على السمو بها إلى درجات الرفعة والكمال، والرجوع بها إلى أصلها الأول، يوم "أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ" [الاَعراف، 172]. قال حجة الإسلام أبو حامد الغزالي في المنقذ من الضلال: "حاصل عمل الصوفية قطع عقبات النفس، والتنزه عن أخلاقها الذميمة، وصفاتها الخبيثة، حتى يتوصل بها إلى تخلية القلب عن غير الله، وتحليته بذكر الله عز وجل"[4]. لذلك فمجاهدة النفس وتزكيتها هو مرمى نظر الصوفية، وهو الغرض الأقصى من تربيتهم وطريقهم، وكل ما صنفوه ودونوه وأمروا به ونهوا عنه من أفعال وأقوال وأحوال إنما هو من أجل هذا المقصد الشريف والمقام المنيف. يتبع في العدد المقبل.. --------------------------------- 1. تاج العروس الحاوي لتهذيب النفوس، لابن عطاء الله السكندري، ص: 7. 2. أخرجه البيهقي في الزهد الكبير، ص: 157. 3. الجامع لأحكام القرآن، 20/306. 4. المفردات في غريب القرآن، للراغب الأصفهاني، 1/131-132.