قال الله العظيم في محكم التنزيل: "وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ" [سورة الاَنفال، الآية: 25]. هذه الآية تحذير لجميع المؤمنين من فتنة، إن نزلت لم تخص الظالمين فحسب، بل تعم الجميع من صالح وطالح، وبريء وظالم، ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنه: "أمر الله المؤمنين في هذه الآية ألا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم العذاب". وهذا يلتئم ويتماشى مع ما ثبت في الحديث؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا ظهرت المعاصي في أمتي عمهم الله بعذاب". وفي موطأ مالك أن عمر بن عبد العزيز قال: "إن الله لا يعذب الخاصة بذنب العامة، ولكن إذا عمل المنكر جهارا استحقوا العقوبة كلهم". وهذا قانون آخر، وسنة أخرى من سنن الله في الأمم والمجتمعات: إذا كثر الخبث عم العقاب الصالح والطالح، وإذا لم يأمروا بالمعروف، ولم ينهوا عن المنكر، هلك الجميع. روي أن موسى عليه السلام مر على قرية، وقد أهلكها الله فقال: يا رب كيف أهلكتهم، وكنت أعرف فيهم رجلا صالحا، فأوحى الله إليه، يا موسى إنه لم يغير لي منكرا -لم ينههم عن الفساد-، بل كان راضيا بحالهم، راكنا إليهم. وقال مالك بن دينار: "أوحى الله إلى ملك أن اقلب مدينة كذا على أهلها، قال: يا رب إن فيهم عبدك فلانا لم يعصك طرفة عين، فقال رب العزة: اقلبها عليه وعليهم؛ فإن وجهه لم يتمعر في ساعة قط". وعن حذيفة بن اليمان أنه قيل له: "هل ترك بنو إسرائيل دينهم، حتى عذبوا بأنواع العذاب، كمسخهم قردة وخنازير.. فقال حذيفة: لا، ولكنهم كانوا إذا أمروا بشيء تركوه، وإذا نهوا عن شيء فعلوه، حتى انسلخوا من دينهم كما ينسلخ الرجل من قميصه". كأن السائل، ظن أن بني إسرائيل تركوا دينهم جملة وتفصيلا، يعني كفروا وخرجوا من ملتهم، ولكن حذيفة -لفقهه ونباهته- بين له أن الأمر ليس كذلك، وإنما الواقع أنهم تركوا الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر الذي هو ضمير الأمة، وصمام أمانها، وصلاح أحوالها، وجوهر قيم الدين، وقطب رحاها . فقال الله عز وجل: "لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَكَانُوا يَعْتَدُونَ، كَانُواْ لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِيسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ" [سورة المائدة، الآيتان: 78-79]. وهي عبرة أنزلت في كتاب الله لتستفيد البشرية من تجارب بعضها البعض، فلا تعيد إنتاج الأخطاء ذاتها، ولو في سياقات مختلفة. والله المستعان.