السياسة هي فن إدارة الموارد البشرية والجغرافية والتاريخية والمادية والثقافية من أجل تحقيق أفضل عيش كريم فوق أرض لها حدود وشعب ونظام سياسي، ومن أجل المساهمة الفعالة في حضارة البشرية، والسلطة أداة من أدوات هذه السياسة. وحتى تكون هذه السلطة شرعية وجب أن تحظى بقبول المواطنين الذين يعيشون تحت كنفها... هذا المدخل كان هو أكبر مشكل يواجهه نظام الحسن الثاني: شرعية الحكم. كان يعتبر أن وراثة العرش كافية لأن تعطي للجالس عليه سلطا بلا حدود. ولما أحس أن الأمر لا يسير على هذا المنوال، طفق ينهل من معين ثان غير وراثة العرش، وهو معين الدين بكل ما يحمله هذا المصدر من رمزية وقداسة في نفوس المسلمين. راح الحسن الثاني، في وقت مبكر من حكمه، يجرب ارتداء عباءة «أمير المؤمنين» في محاولة لسحب البساط من تحت أرجل اليسار العلماني... أعجبته اللعبة، فتمادى في إرساء نظام شبه «تيوقراطي» أحيى طقوسا أقرب إلى العبودية منها إلى الاحترام الواجب لمن يحكم (الركوع عند البيعة، تقبيل اليد أصبح إلزاميا، التشدد في الزي الرسمي...)، وعمد إلى تهديد المعارضة بإصدار فتوى في حقها عندما اختارت الانسحاب من البرلمان، ووضع نفسه فوق القضاء وفوق الفصل بين السلط لأن الإمامة العظمى مصدر كل السلط. وفي هذا المناخ، تحرك وعاظ السلاطين وفقهاء السلطة، فراحوا يقتطفون آيات قرآنية وأحاديث نبوية تركز الحكم المطلق «لأولي الأمر»، بعد أن يخرجوها من سياقها مثل ذلك الحديث الذي كان يعجب الحسن الثاني كثيرا: «السلطان ظل الله في الأرض»، أو الآية الكريمة التي نزلت في حق النبي (ص) وحوّلها سلاطين الأمويين والعباسيين لصالحهم، والتي تقول: «إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم...». كيف يمكن للأحزاب والنقابات والإعلام والمواطن أن يتحدث مع ملك يعتبر نفسه ظل الله على الأرض، ويرى في بيعته «بيعة لله»... لم ينتبه الحسن الثاني إلى أن المبالغة في «اللعب» بالدين يمكن أن تكون لعبة خطرة أو سيفا ذا حدين. تفوق على اليسار بدون شك لأنه حرك موروثا دينيا يعرفه المغاربة منذ قرون في مواجهة إيديولوجيا شيوعية أو اشتراكية عمرها أقل من قرن... لكنه سيشجع التيارات الإسلامية الراديكالية والمعتدلة على أن تلعب اللعبة ذاتها (توظيف القداسة الرمزية في البحث عن السلطة)... لم لا ما دام الملك جرب ونجح... تسربت الكثير من التيارات الدينية المنغلقة، وفي مقدمتها «الوهابية»، التي ستصير عنيفة وراديكالية بعد أزمة الخليج الأولى، وتسربت معها تيارات «جهادية» و«إخوانية» و«صوفية» آتية من الشرق إلى مملكة أمير المؤمنين، خاصة لما ضعفت باقي الإيديولوجيات الأخرى. والنتيجة ما شهده المغرب من انفجارات مساء 16 ماي وما تلى ذلك. أحس الملك الراحل بأن النار بدأت تقترب من الحطب... فرجع إلى «خطاب الاعتدال» وإلى نقد المنظومة الأصولية وإلى الدعوة إلى الانفتاح، لكن الموجة كانت أكبر منه... توظيف الملك للدين في البحث عن الشرعية نجح في إعطاء صاحبه سلطة مطلقة، لكنه أضر بثقافة الديمقراطية وقيم المواطنة ومبدأ المحاسبة، وشجع التيارات الدينية الراديكالية على الكفر بالديمقراطية والحداثة ونظام الحكم العصري... الفكر الإسلامي المعاصر متقدم جدا في مصر وتونس والسودان مثلا تجاه الديمقراطية والحداثة عنه في المغرب... الاتجاه نحو نظام حكم تقليدي عصف ليس فقط بجذور الفكر والممارسة الديمقراطية، بل أتى على تدبير الزمن بشكل عقلاني وحديث. كان نظام حكم الملك الراحل غارقا في تبذير الوقت وعدم إعطاء قيمة للزمن، بدءا بمواعيد الملك كشخص، حيث كان يترك ضيوفه أو رعاياه، على حد سواء، ينتظرون ساعات وربما لأيام لاستقبالهم، وانتهاء باتخاذ القرارات الكبرى التي كانت تستغرق وقتا كبيرا يؤثر على مفعولها أثناء التطبيق. كان الحسن الثاني يتعلل في تضييعه للوقت بتشبيه السياسة بالفلاحة، وأن أوقات قطف المحصول لا يمكن أن تتم قبل الأوان، ونسي -رحمه الله- أن الزراعة الحديثة أضحت بلا فصول وأن الإنسان من يدير الزمن وليس العكس...