غادر حدو قريته الصغيرة ضواحي ورزازاتجنوب المغرب ليعانق الحلم الفرنسي ويبني حياة جديدة بعيدا عن المغرب يكتشف فيها ثقافة جديدة ومختلفة عما تربى عليه. يرصد الكاتب المغربي الحسن آيت موح جانبا مهما من تاريخ الاستعمار الفرنسي للمغرب والدور الذي قام به الهولندي «موغا» الذي تجول في القرى النائية من أجل اختيار وانتقاء آلاف الشباب المنحدرين من الريف والجنوب للعمل في المصانع وأوراش البناء بفرنسا وهولندا التي كانت بحاجة ماسة إلى سواعد قوية لبناء اقتصادها الذي تضرر كثيرا من مخلفات الحرب العالمية الثانية.. جاء القايد، ممثل السلطة المحلية، إلى المكان من أجل حضور عملية الانتقاء التي سيشرف عليها موغا. «اصطفوا جميعكم في صف طويل»، ردد القايد بصوته الأجش مخاطبا ركاب الشاحنة. أبدت ملامحُ الشباب التوترَ الذي كان يعتريهم وسارعوا إلى تشكيل صف طويل في مواجهة القايد، وساد الصمت للحظات قبل أن يصرخ القايد في الجميع قائلا: «هل أنتم جميعكم هنا؟ إسمعوني جيدا، من اليوم فصاعدا عليكم أن تتعلموا كيف تفتحون آذانكم جيدا، وكل من لا يستطيع القيام بذلك عليه أن يعود إلى الجبال ليحرس قطعان أغنامه». ساد الساحة صمت مطبق ولم نعد نسمع سوى الخطوات الآلية للقايد الذي غادر المكان على عجل إلى أن اختفى عن العيان تاركا خلفه كتلة بشرية ساكنة يتملكها الخوف والقلق. شعرت بحساسية الموقف وبدأت أرتجف مثل ورقة الخريف، لو أن والدتي شاهدت هذا الموقف لما تحملت أن ترى ابنها يُعامل بهذا الشكل، ولما ترددت في اصطحابي معها قائلة بغضب: «لم يولد بعد الشخص الذي يعاملك بهذا الشكل السيىء»، وبمجرد ما خطرت هذه الجملة في خيالي، أحسست بدمعة حارة تسيل فوق خدي. كلما تحركت الشمس أكثر في السماء، ارتفعت درجات الحرارة أكثر محرقة معها الأجساد الواقفة في الساحة منذ الصباح. طالت مدة الانتظار، وأحس الجميع بالعطش والجوع، وارتفع عدد الحاضرين بعد التحاق شبان جدد بنا وانضافت إليهم مجموعة أخرى من الأشخاص من القرى المجاورة يتمنون أن يحققوا حملهم الكبير. انتشر الغبار فجأة في الأجواء ووصل مخزني إلى الساحة وصرخ فينا قائلا بحدة: «سيأتي السيد موغا قريبا، قفوا جيدا وتوقفوا عن الكلام، اصمتوا الآن». حضر كل شباب المنطقة، وكلهم أميون يجهلون القراءة والكتابة، في الساحة ببنايتهم القروية القوية، لذا فقد كانوا قادرين على استخراج ما في جوف الأرض، خصوصا الفحم الموجود شمال فرنسا. وأخيرا، جاء موغا، بسحنته الأوربية الوردية وعينيه المتيقظتين اللتين بدأ يعاين بهما الصدور العارية للمرشحين، وقبل إجراء أي امتحان معمق للرجال، كانت نظرة واحدة منه كافية للحكم بعدم كفاءة بعض الشباب، ليتم رسم طابع بالصمغ الأحمر على صدورهم ويُطلب منهم ارتداء ملابسهم من أجل العودة إلى قراهم. المرشحون الذين تم قبولهم تُصبغ صدورهم باللون الأزرق ويلتحقون بمراحل أكثر دقة وصعوبة في امتحانات الانتقاء. تردد أن بعض المرشحين اختبؤوا لكي يمسحوا الصباغة الحمراء من على أجسادهم بالبطاطس والتصقوا بشكل مواز بأجساد أصدقائهم المقبولين الملطخين بالصباغة الزرقاء، ليمروا معهم في فوج الناجحين في الاختبار الأولي. استعرضت بفخر صدري بالصباغة ذات اللون الأزرق الذي أصبحت له دلالة خاصة في حياتي لأنه أصبح يرمز في نظري، منذ الآن فصاعدا، إلى الحرية والسعادة. لدى عودتي إلى القرية، استغرب والدي كثيرا كيف قام موغا باختيار ابنه، فهو لم يكن يشاطر موغا وجهة نظره وكان يشك في قدراتي الجسمانية على العمل، وفي مثل هذه الحالات، كان والدي يحب أن يستشهد بأقوال الأجداد لكي يعبر عن أحاسيسه، ولم يجد في ذلك اليوم سوى أن يخاطبني قائلا: «في عصر الانحطاط الذي نعيشه الآن، نادرون هم أولئك الذين يعتزون بكونهم رجالا حقيقيين. عليك أن تكون رجلا في بلدك أولا قبل أن تدعي ذلك لدى الآخرين». أثناء يوم إجراء عمليات الانتقاء، التقيت بالحسين، وهو راع شاب قادم من الجبال بعد أن ترك قطيعه لوالده العجوز وأتى ليجرب حظه مع موغا؛ قال إن البهائم لم تعطه شيئا وإنه يعول كثيرا على موغا لكي يقبر إلى الأبد حياة الرعي البئيسة التي يعيشها. كان الحسين يعلم الكثير عن فرنسا لأن عمه سافر إليها قبل سنوات خلت، ولم يتوقف عن وصف هذا البلد الأوربي مثلما يحكي البعض عن بلد العجائب، وازداد إعجاب الشباب بما كان الحسين يرويه عن فرنسا، واختلطت صورتها في أذهانهم بذكريات حكايات الطفولة البعيدة.. «سافر عمي، يقول الحسين، إلى فرنسا بعد أن كان مجرد راع بئيس في جبال الأطلس.. لقد أصبح اليوم غنيا ويملك العديد من المنازل وسيارة جميلة. كان يخبرنا بأن شوارعهم أكثر نظافة من بيوتنا. ومنذ وصوله إلى فرنسا، عاش في بيت مؤثث وأعطوه الملابس ووفروا له الأكل، وأضاف أن الكلاب تعيش حياة سعيدة هناك؛ وكان يمازحنا في بعض الأحيان متمنيا أن يكون كلبا في فرنسا، فرنسا فقط وليس في غيرها من الدول». انتابتني أحلام لذيذة عن هذا السفر بعد أن ابتسم لي القدر وجعلني محظوظا، بل وبدأت أتخيل نفسي عائدا من هناك لأرى عائلتي، منتصرا مثل الأبطال؛ في ذلك اليوم سيأتي إلي والدي ويحضنني مرددا: «اليوم أصبحت رجلا يا ولدي». استبدت حمى موغا بكل أفراد القرية ولم يستثن ذلك الأمر أحدا، من إمام المسجد إلى الموظف فاقد الأمل، مرورا بالراعي وباقي الأشخاص البؤساء من مختلف الطبقات الاجتماعية. وداخل القرى التي هجرها شبابها، وحدهم الشيوخ كبار السن لم يغادروها وانتقلت إليهم مسؤولية الإشراف على القرية والعناية بالنساء اللواتي انتزعت منهن الهجرة فلذات أكبداهن وأزواجهن وألقين المسؤولية على موغا الذي «اختطف» أبناءهن، حسب رأيهن، واشتكين من بقاء كبار السن معهن وكأن الحرب حلت بالبلاد. تساءل من بقي عما سيفعلونه دون وجود الرجال الأقوياء، وبدأت النساء يبكين بلوعة وحزن مرددات: على من أبكي إلى درجة أنني لا ستطيع التوقف عن النحيب أبكي اليوم الذي غادر فيه زوجي وابني الباخرة مثل الثعبان تسير بهدوء فوق البحر وابتلعت أفراد عائلتي سيصبح حبهم لي مؤقتا لأنه الآن انتقل إلى فرنسا هناك سيكتب حبنا من جديد.