كانت الحفاوة بالغة من جانب إسرائيل بكل ما صدر عن القاهرة ضد حزب الله لا أعرف متى يمكن أن يتوقف الانفعال في الإعلام المصري بسبب موضوع خلية حزب الله، لكنني أعرف أن التصعيد الذي تؤجج ناره التعليقات المنفلتة والمتجاوزة للحدود يقلب الموازين ويسيء إلى مصر أكثر مما يسيء إلى غيرها. -1 من المفارقات أن التهمة التي وجهت إلى حزب الله بمحاولة تهريب السلاح إلى غزة سبق أن «اقترفتها» مصر في الستينيات، ذلك أن النظام الناصري حين اختار أن ينحاز إلى موقف التحرر الوطني ومقاومة الاستعمار، وجد نفسه مدفوعا إلى مناصرة حركات المقاومة خصوصا في أنحاء القارة الإفريقية. وهذه النصرة شملت تهريب السلاح بمختلف الوسائل. ولا يزال يعيش بيننا إلى الآن عدد من الضباط الذين أشرفوا على تلك العمليات، وقد تحدثت إلى بعضهم، واحترمت رغبتهم في عدم نشر أسمائهم، وسمعت منهم قصصا عن الكيفية التي كانت مصر تهرب بها السلاح إلى الجزائر الخاضعة للاحتلال الفرنسي آنذاك. وكان ذلك يتم عبر البحر والبر. العمليات البرية كانت تمر بالأراضي الليبية والتونسية دون علم سلطاتها في كثير من الأحيان. ولكي تصل إلى هدفها فإنها كانت تخترق الأسوار المكهربة التي أقامها الفرنسيون على الحدود لوقف التهريب. أما العمليات البحرية فكانت تراوغ لإنزال حمولتها على الشاطئ الجزائري. وقد غرقت واحدة من تلك السفن، في حين نجا قائدها اللواء حسن عاصم رحمه الله. تحدث بعضهم أيضا عن تهريب السلاح إلى اليمن الجنوبي، الذي كان خاضعا للاحتلال الإنجليزي، حيث كانت الأجهزة المصرية تزود القوى الوطنية بالسلاح والعتاد من تعز في اليمن الشمالي. وتكررت عمليات التهريب إلى العديد من الدول الإفريقية، ومنها تنزانيا وغانا وغينيا. وكانت شركة النصر للاستيراد والتصدير غطاء لعمليات الدعم والمساندة التي قدمتها مصر إلى حركات التحرر الوطني في تلك الدول، لذلك افتتحت الشركة مكتبا دائما لها في باريس، لأنه لم تكن هناك خطوط مباشرة مع الدول الإفريقية، لكن الوصول إليها كان يمر في الغالب بالعاصمة الفرنسية. وسمعت من الأستاذ محمد فايق، الذي كان مسؤولا عن الملف الإفريقي في مكتب الرئيس عبد الناصر، أن السلاح كان يهرب من روديسيا الجنوبية إلى روديسيا الشمالية، وحين لفت نظر الرئيس كينيث كاوندا إلى ذلك، كان رده أنه لا يقبل أن يقوم بدور الشرطي لحماية النظام العنصري في روديسيا الشمالية (زامبيا الآن). أكثر من ذلك قامت المخابرات المصرية في تلك الفترة بعمليتين عسكريتين ناجحتين ضد إسرائيل انطلقتا من دولة ثالثة ودون علمها. فقد قصف ميناء إيلات من الأردن في عام 1969 دون علم سلطاتها. وتم في 1970 إغراق الحفار الإسرائيلي الذي كان متجها إلى خليج السويس في مياه المحيط أمام أبيدجان ولم تكن سلطاتها بدورها على علم بالموضوع. -2 صحيح أن ذلك كله حدث في زمن آخر وفي ظل قيادة من طراز مختلف، إلا أن تلك الممارسات سوغتها السياسة رغم أنها مخالفة للقانون، ذلك أنه من الناحية القانونية البحتة، لا ينبغي استخدام إقليم دولة لأي غرض بغير علم أو رغبة منها وإلا اعتبر ذلك اعتداء على سيادتها. وهو ما يدعونا إلى القول بأن الرغبة في «النصرة» هي التي دفعت النظام السياسي في المرحلة الناصرية إلى غض الطرف عن مقتضى القانون والمغامرة بانتهاك السيادة، باعتبار أن حلم التخلص من الاستعمار شكل إحدى الضرورات التي تبيح «المحظورات»، كما تقول القاعدة الشرعية الشهيرة. الذي حدث في حالتنا أن السياسة لم تكن راغبة في غض الطرف عن مقتضى القانون، ولذلك جرى ما جرى، الأمر الذي يدعونا إلى القول بأن سعي حزب الله إلى استخدام القاهرة لإطلاق أي أنشطة ضد إسرائيل دون علم الدولة المصرية أو رغبة منها هو، من الناحية القانونية، خطأ تورط فيه ولا سبيل للدفاع عنه. (لاحظ أنني لم أتحدث عن إقدام الحزب على ممارسة أي أنشطة تستهدف الاستقرار في مصر كما ذكر بيان النائب العام المصري، لأن المجال الأول لم يعد محل منازعة بعد اعتراف السيد حسن نصر الله به). لا مشكلة، إذن، في التعامل القانوني مع القضية. وسواء تخلت السياسة عن «النصرة» أو رأت أن تمارسها بشكل آخر، فتلك أيضا حساباتها التي قد يختلف الرأي حولها. لكن المشكلة برزت حين صعدت الأبواق الإعلامية المصرية من لهجة الاشتباك مع الحدث ووسعت من نطاقه، بحيث حولته من خطأ قانوني ارتكبه حزب الله إلى حملة شرسة وظالمة ووسعت من نطاقه، واستخدمت في ذلك أساليب غير كريمة حطت من شأنه وجرحت تاريخه وقيادته. وقد استندت في ذلك إلى ما ذكره بيان النائب العام بخصوص بلاغ لمباحث أمن الدولة تحدث عن مخطط لزعزعة الاستقرار في مصر من شأنه أن يهدد أمنها القومي. وكانت النتيجة أنه خلال أيام قليلة تحول حزب الله إلى عدو لمصر، وتمت «شيطنته»، وهو الذي ارتفعت أسهمه إلى عنان السماء بعد انتصاره على إسرائيل في عام 2006. -3 لا تفوتنا هنا ملاحظتان، إحداهما تتعلق بما وراء حملة الشيطنة، والثانية يثيرها توقيت إطلاق الحملة. في ما يخص المسألة الأولى ينبغي أن ندرك أن ثمة أطرافا في المنطقة تمنت لحزب الله أن يختفي من الوجود، وإن لم يتحقق ذلك فعلى الأقل تسود صفحته وتشوه صورته، لا لأن أعضاءه من أتباع المذهب الشيعي، وليس لأن لديهم تحالفا مع إيران، أو لأنهم يشكلون قوة سياسية مسلحة في لبنان تكاد تقارع سلطة الدولة، ولكن لسبب واحد هو أنه فصيل مقاوم لإسرائيل بالدرجة الأولى، استطاع أن يثبت في مواجهتها وأن يتحداها بنجاح، لأول مرة في تاريخ الدولة العبرية. ولو أنه تخلى عن المقاومة وانخرط في اللعبة السياسية وأبقى كل صفاته وارتباطاته الأخرى لغفر له، ولربما منح السيد حسن نصر الله جائزة نوبل تقديرا لجهده في دفع «عملية» السلام. وإذا جاز لنا أن نتصارح في هذا الصدد، فإننا نقرر أن الأطراف التي أعنيها ليست إسرائيلية وأمريكية فقط، ولكنها لبنانية وعربية أيضا. ومن يقرأ عناوين وتعليقات بعض الصحف والفضائيات العربية يستطيع أن يحدد تلك الأطراف بالاسم والعنوان. أما توقيت إطلاق الحملة فإنه يثير أسئلة عديدة، ذلك أن عضو حزب الله الذي اتهم بقيادة الخلية ألقى القبض عليه في 19 نوفمبر الماضي، وظل محتجزا هو ورفاقه منذ ذلك الحين. بحيث لم يعلن رسميا عن القضية إلا في 9 أبريل الحالي، أي بعد حوالي خمسة أشهر. وتزامن ذلك الإعلان مع سخونة حملة الانتخابات النيابية اللبنانية، التي تجرى في 7 يونيو، ويتصارع فيها تيارا 14 و8 مارس. والأول ضد المقاومة ومع لبنان «المعتدل» جدا، والثاني مع المقاومة ومع لبنان المستقل والرافض للهيمنة الأمريكية. لا أعرف إن كان ذلك التزامن مجرد مصادفة أم لا، لكن الذي حدث أن الحملة المصرية ضد حزب الله وظفت لصالح تيار 14 مارس في المعركة الانتخابية الدائرة في لبنان، حتى قيل إن 15 ألف نسخة من الصحف القومية المصرية التي تسب حزب الله وتخوف منه وتجرح زعيمه تنقل يوميا من القاهرة إلى بيروت، لتسهم في إضعاف موقف الحزب في الانتخابات. -4 في حملة شيطنة حزب الله، ارتكب الإعلام المصري عدة خطايا لا تغتفر، على الأصعدة المهنية والأخلاقية والسياسية. فمن الناحية المهنية، فإن أبواقنا الإعلامية أجرت المحاكمة وفصلت في القضية حيث أعلنت إدانة حزب الله، وتنفيذ حكم الإعدام السياسي والأدبي في حقه. كل ذلك والتحقيقات لم تتم، والقضية لم تنظر أمام القضاء، ولم تسمع للقاضي فيها كلمة. وفي هذا الجانب كان ما نشرته الصحف المصرية إعلانا عن حجم النفوذ الكبير الذي تمارسه الأجهزة الأمنية في المحيط الإعلامي. من الناحية الأخلاقية، كان السقوط مدويا، فقد كان الصوت العالي في الصحافة القومية والبث التلفزيوني الخاضع للتوجه الأمني، للسباب والشتائم والإهانات التي عبرت عن إفلاس في الحجة وهبوط في مستوى التعبير، وإيثار لغة «الردح» على أسلوب الحوار والمناقشة الموضوعية. من الناحية السياسية، كانت أبرز الخطايا ما يلي: < أن الإعلام المصري بالغ في التجريح والإهانة حتى وجد نفسه يقف في مربع واحد مع المربع الإسرائيلي. ولذلك كانت الحفاوة بالغة والترحيب شديدا من جانب إسرائيل بكل ما صدر عن القاهرة ضد حزب الله. ولم يفوت الإسرائيليون الفرصة، فأصبحوا يتحدثون عن الحزب بأنه «العدو المشترك» للقاهرة وتل أبيب. < إعلامنا وهو يندد بمحاولة تهريب السلاح إلى غزة لم يذكر مرة واحدة أن المشكلة الحقيقية هي في الاحتلال وأن التهريب هو نتيجة لذلك الاحتلال، واضطر الناس بالضرورة إلى اللجوء إليه لمواجهة ذلك الاحتلال. لم يفرق إعلامنا بين التناقض الرئيس والثانوي. والأول هو ما بين مصر والعرب أجمعين وبين إسرائيل، والثانوي هو كل ما يقع بين العرب والعرب. وبسبب الخلط بين الاثنين بالغ إعلامنا في هجومه على حزب الله بشكل ضار وكأنه أصبح يمثل تناقضا رئيسا مع مصر، بينما أن يكون الحزب مع مصر في مربع واحد ضد إسرائيل. الغريب والمدهش أن إعلامنا لم يعتبر إسرائيل النووية المصرة على التوسع ونهب الأرض تهديدا للأمن القومي المصري، وصدق أن شابا واحدا ومعه آخرون، مهما كان عددهم، يمكن أن يشكلوا ذلك التهديد. لم نجد وعيا بحقيقة أن عدو عدوي صديقي، ووجدنا في المتابعة الإعلامية المصرية خطابا مدهشا يتصرف وكأن عدو عدوي، عدوي أيضا، وكأن معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل جعلت أعداء إسرائيل أعداء لنا أيضا. ولأن حزب الله المقاوم يمثل رصيدا يجب الحفاظ عليه فضلا عن الاعتزاز به، فإننا يجب أن نتعامل معه بروح مغايرة، فنعاتبه ولا نخاصمه، ونصوبه ولا نجرمه، لكي نكسبه في النهاية ولا نخسره. وللأسف، فإن إعلامنا أهدر هذه المعاني والضوابط، الأمر الذي يطرح بقوة سؤالا عن طبيعة العلاقة بين الإعلام والسياسة في هذه الحالة.