لأول مرة، يحكي البشير الهسكوري، المستشار الدبلوماسي في صندوق النقد العربي في أبوظبي، مرفوقا بشقيقه صالح، أستاذ الرياضيات في جامعة الأخوين، سيرة والدهما، احمد بن البشير الهسكوري، الرجل الثاني داخل قصر الخليفة، مولاي الحسن بن المهدي، والذي كان يلقب ب»البحر» والحاكم الفعلي. على «كرسي الاعتراف»، يحكي الهسكوري كيف وضع السلطان مولاي عبد العزيز ابنته، للا فاطمة الزهراء، بين يدي والده وهو يقول له: «بنتي في حجرك وفي حجر الله يا بن البشير»، وكيف رفض محمد الخامس زواجها من مولاي الحسن، وبالمقابل اعترف بابنٍ لمولاي عبد العزيز ظل ينكر نسبه إليه. في هذا الحوار الاستثنائي، نتعرف على خفايا التنافس على العرش، والصراع الذي عاشه الخليفة مولاي الحسن، بين الوفاء للسلطان محمد بن يوسف، وتأييد صهره محمد بن عرفة، وكيف أن الصدر الأعظم، المقري، انتقل إلى طنجة ليقول لبن البشير: «عافاك قل لصاحبك لكلاوي يرجع لعقلو». في «كرسي الاعتراف»، يحكي الهسكوري صراع والده مع المقيم العام الإسباني، الجنرال غارسيا بالينيو، الذي اتهمه بمحاولة قتله، وكيف أرسل الجنرال فرانكو ابنته كارمن إلى بن البشير لتلطيف الأجواء. في هذا الحوار، نكتشف أسرار دعم بلبشير للمقاومة الجزائرية بالسلاح، وعلاقته ببوضياف وبن بلة وفرحات عباس، وكيف أنجز وثائق مغربية مزورة لبومدين وأدخله مستشفى بنقريش للعلاج من مرض السل. كما نطلع، حصريا، على عشرات الرسائل المتبادلة بين بن البشير وأمين الحسيني والتي يعترف فيها الأخير للأول بدعم المقاومة الفلسطينة بالمال. - المعروف أن الحركة الصهيونية، في ثلاثينيات القرن الماضي، كانت تنشط كثيرا في شمال المغرب، وأساسا في طنجةوتطوان والعرائش؛ ما الذي كان يعرفه والدك، بحكم علاقاته بكبار يهود الشمال، عن هذه الحركة التي كانت تستعد لتأسيس وطن قومي لليهود؟ عندما لاحظ والدي أن اليهود بدؤوا يغادرون تطوان، والشمال عموما، نادى على الرِّبي اليهودي في تطوان، خاييم كوهين، وطلب منه أن ينجز له تقريرا عن وضعية اليهود في المنطقة الشمالية؛ فقد كان والدي منشغلا بما إن كان اليهود المغاربة سيبقون في المغرب أم سيغادرون إلى وجهات أخرى.. - متى حصل هذا؟ مباشرة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، في نهاية 1945، بدأ اليهود يغادرون الشمال بطرق سرية، فلم يكن يكتشف غيابهم إلا بعد مدة على اختفائهم. وفعلا، أنجز الربِّي اليهودي دراسة-تقريرا قدمه إلى والدي. وأكد في ذلك التقرير، الذي ما زلنا نحتفظ به، أن التعليم اليهودي بدأ يتقلص في تطوان والشمال، وكذلك الشأن بالنسبة إلى البيعات (دور العبادة)، وأن أعداد اليهود، وبالأخص الشباب منهم، في انخفاض مطرد.. - متى قدم رجل الدين اليهودي، خاييم كوهين، ذلك التقرير إلى والدك؟ سنة 1947، أي مدة قصيرة قبل ظهور قرار الجمعية العامة التابعة لهيئة الأممالمتحدة، رقم 181، الصادر بتاريخ 29 نونبر 1947، والقاضي بتقسيم فلسطين إلى دولتين واحدة يهودية وأخرى عربية، والذي تلاه إعلان دولة إسرائيل في 14 ماي - 1948. - هل أخبر رجل الدين اليهودي، خاييم كوهين، والدك في هذا التقرير، بأن التوجه العام للحركة الصهيونية يدفع في اتجاه مغادرة اليهود، وأساسا الشباب، لشمال المغرب؟ لا، هو لم يقل ذلك صراحة، لكن التقرير عكس وضعا عاما يتسم بهجرة اليهود، وحرص فيه خاييم كوهين على تقديم إحصائيات وأرقام، دونما تعليق عليها أو تبرير لأسباب ودوافع اليهود إلى مغادرة شمال المغرب.. (يصمت) لقد كان والدي يقول: «ليهود ما نكونوشي بلا بيهم».. - من أي ناحية؟ من الناحية الاقتصادية والصناعية. ومن ناحية أخرى، فالمخزن كان له، دائما، يهوده. وبالنسبة إلى والدي فإن اليهود كانوا «كيقضيو لو حاجة» مع الفرنسيين والإسبان وفي مصر.. - هلا سقت لنا أمثلة على ذلك؟ مثلا، غاستون بيريز كان يتوسط لوالدي لدى الإقامة العامة الفرنسية.. - من كان غاستون بيريس هذا؟ هو الذي كان مسؤولا إداريا عن ممتلكات عدد من أفراد العائلة الملكية، ومنهم الخليفة مولاي الحسن بن المهدي الذي كان غاستون بيريس يدير أملاكه ويسير ضيعاته الفلاحية.. لقد كان بيريس يتحدر من عائلة يهودية جزائرية، وكان والدي هو الذي سهل له ولأحد أشقائه أمر الحصول على جواز السفر المغربي-الإسباني، بعد أن أدلى بشهادة يقول فيها إنهما مغربيان. وقد بقي غاستون بيريس يملك ضيعات شاسعة في منطقة سوق أربعاء الغرب وغيرها إلى حدود نهاية الستينيات، حيث سيموت في باريس. كما أن والدي كان قد مكّن إحدى اليهوديات من عائلة روتشيلد «Rothschild» (عائلة يهودية ألمانية من أشهر العائلات في مجال المال والأبناك) من الحصول على جواز سفر مغربي إسباني، أثناء هروبها إلى طنجة، عقب احتلال ألمانيا النازية لفرنسا، وكانت المغنية والممثلة الأمريكية الشهيرة جوزيفين بيكر «Josephine Baker» هي من قدمتها إليه، علما بأن والدي كان قد ساعد جوزيفين بيكر بدورها على الحصول على جواز سفر إسباني-مغربي. - لماذا ؟ لأن جوزيفين بيكركانت تشتغل لصالح الاستخبارات الفرنسية وبواسطة الجواز المغربي كانت تدخل إلى الجزائر وإلى عدد من البلدان الأخرى. وبعد وفاة والدي جاءت إيديت روتشيلد، شقيقة اليهودية التي كان والدي قد مكنها من الجواز، لتعزيتنا وتحدثت عن والدي بإعجاب شديد. ومن اليهود الذين ربطتهم علاقة قوية بوالدي كان هناك اليهودي الوطني إيلي كوهين، مترجم السلاطين العلويين، الذي كان على علاقة بالعديد من كبار السياسيين في العالم، كما كان على علاقة بكل زعماء الحركة الوطنية، فقد ترجم للحاج محمد الطريس، والد عبد الخالق الطريس في مؤتمر «الخزيرات» لسنة 1906، كما كان إيلي كوهين رجل ثقة عبد الله كنون الذي كان يسلمه الرسائل التي كان يبعث بها قادة الحركة الوطنية، من أمثال علال الفاسي والطريس، إلى والدي، من القاهرة، عبر البريد الإنجليزي في طنجة باسم عبد الله كنون، فكان الأخير يسلمها إلى إيلي كوهين الذي كان يتولى إيصالها بعد ذلك إلى والدي خلال زيارة له دأب على القيام بها كل يوم خميس أو جمعة؛ وفي إحدى هذه المرات أوقف الإسبان إيلي كوهين وفتشوه فعثروا لديه على رسالة من القاهرة فاعتقلوه وقبع في السجن إلى أن تدخل والدي وأفرج عنه. وقد كان إيلي كوهين من أصدقاء والدي القلائل الذين كانت والدتي تظهر أمامهم بوجه مكشوف لأنه كان رجلا مسنا ويهوديا. وقد بعث إلي برسالة بعد وفاة والدي يقول لي فيها: إن رجال الحركة الوطنية الذين كانوا لاجئين في طنجة كان والدي هو الذي يتكفل بمصاريف إقامتهم وطعامهم ولباسهم، هم وأفراد عائلاتهم. كما أن إسحاق سلامة، ممثل اليهود في إسبانيا والمغرب، كان صديقا لوالدي ولعائلة الطريس، ونديما لأحمد الطريس، شقيق عبد الخالق الطريس. لقد كان والدي يقتفي خطوات السلطان محمد الخامس في حماية اليهود والعطف عليهم، ولذلك فبعد استقلال المغرب جاء اليهود المغاربة المقيمون في إسبانيا وغيرها إلى والدي يخبرونه بأنهم ينوون توشيحه بوسام الشرف «Légion d'honneur»، لكن والدي لم يكن ليقبل بذلك الوسام والخليفة مولاي الحسن بن المهدي موجود، لذلك وجههم إليه، فرفض مولاي الحسن بلباقة تسلم الوسام.