«أشهر من نار على علم». مثال ينطبق على الكاتب الاسباني خوان غويتيسولو، ذلك الكاتب والأديب، الذي اختار مراكش موطناً وملاذا، والمظلومين أصدقاء، والدفاع عن الحضارة الإسلامية هما وقضية. كثير هم الأدباء والمفكرون، الذين ارتبطوا بتربة سبعة رجال، إلا أن حالة استثنائية لكاتب استثنائي، هو خوان غويتيسولو، الذي استقر في مراكش أواسط السبعينيات، يفتخر بانتمائه لهذه التربة، بل يذهب في أحاديثه الصحفية إلى القول إنه ابن جامع الفنا. يتمتع غويتيسولو، الذي ولد في برشلونة، في 6 يناير سنة 1931، في أسرة بورجوازية، بحس كبير، وقدرة على التقاط التفاصيل، وقد وجد في مراكش ضالته، حيث عايش فيها على مدى أزيد من ثلاثين سنة تحولات ساحة جامع الفنا، التي تشكل بالنسبة إليه مجمع الخلق وساحة النشور. اختار خوان غويتيسولو أرض الآخر ليقيم فيها. فهذا الكاتب الكبير، الذي قال عنه كارلوس فوينتس المعروف بصرامته «إنه من عمالقة الأدب الإسباني الأحياء»، يعيش تحت شمس مراكش مستبدلا بطاقة الهوية الإسبانية ب«ثقافة العالم». كما اختار خوان غويتيسولو أرض المهجر ليقيم فيها مع الآخر. اختار الإقامة الدائمة في مدينة مراكش، التي استبدل فيها بطاقة الهوية الإسبانية بالثقافة العالمية، إذ يقول «لا أعتبر نفسي جزءا من المجتمع الإسباني، لأني لا أشاركه قيمه. فنتيجة لإقامتي الدائمة في الخارج عوّضت الأرض بالثقافة»، هذا هو شعار الوجود لهذا الإسباني المتفرد، الذي يتنسم عبق المدينة العتيقة لمراكش، ويحيا بجمالية ساحة جامع الفنا. تسمم الوالد وقصف الوالدة اتسمت كتابات خوان غويتيسولو بالالتزام بقضايا المستضعفين في العالم. من كوسوفو إلى فلسطين، مرورا بالهجرة السرية، كان صوته مجلجلا على الدوام. مثقف عنيد من طينة إدوارد سعيد، سارتر، كامو أو جان جينيه، لا يخاف في الحق لومة لائم. عاش الصبي طفولة سعيدة لم يكدرها، سوى وفاة والدته المفاجئ خلال الحرب الأهلية الإسبانية، فرحلت مربية حسه الفني الأول دون رجعة تاركة الصغير في براثن طبقة راقية، تخنقها المواضعات والنفاق الاجتماعي، والطهرانية الكاثوليكية المزيفة. ترعرع خوان وسط ثلاثة أخوة، عمل والده إطارا في شركة للمنتجات الكيماوية. تعرّض غويتيسولو لالتهاب حاد ومزمن في القصبة الهوائيّة في صغره، وكاد يهلك لكنّه نجا بفضل رعاية أمّه له، وبسبب الحرب انتقلت عائلته للإقامة في قرية واقعة بجبال كطالونيا، وفي السابعة قتلت أمّه في قصف للطائرات، أما والده الكاره للشّيوعيين، فبقي وفيا لمبادئ زعيمه الروحي فرانكو، ليقتل فيما بعد بالسّم من طرف الجمهوريين، اضطر خوان، في الخمسينيات، إلى هجرة إسبانيا هربا من فاشية فرانكو، بعد تشربه لقارتي الأدب والشيوعية في مدريد. أقام في باريس، ومن هناك أخذ يكتشف انفتاح العالم. تعرف على زوجته الكاتبة مونيك لانج، التي كانت تشتغل في دار نشر «غاليمار»، قبل أن تتوفى سنة 1996، ومن ثم انطلق الطائر الإسباني في سماء الأدب والأدباء. درس لاحقا في كاليفورنيا، بوسطن، ونيويورك. ثم جاء نداء المغرب، فسكنته مدينة مراكش الأسطورية فصار أحد أبنائها البررة. خوان ضد أثرياء العقار نداء مراكش ليس سوى موقف فلسفي جذري من العالم، لذلك فهذه الإقامة لا تمت بصلة لنزوة سائح، بل هي اختيار منطقي لكاتب فكّك علاقته الثقافية والفكرية مع الغرب. دافع عن التاريخ العربي الإسلامي لإسبانيا التي «تناست» في لمح البصر خمسة قرون من التمازج والإغناء الحضاري العربي الإسلامي. في مقالاته «في الاستشراف الإسباني»، مثلا، ينتقد خوان غويتيسولو العماء التاريخي الإسباني، الذي لا يرى الآخر المسلم في شساعة ذاكرته الراهنة. عماء مقصود غذته مدارس بكاملها في كتابة التاريخ الإسباني القديم، من «سيموني» إلى «إيمليو غارسيا غوميز»، مرورا ب«سانشيز البورنوز». غير أن خوان غويتيسولو أعاد هذا الفكر، الذي يمشي على رأسه إلى التقدم على رجليه مستفيدا من حسه النقدي «المتوحش»، وقراءته الحوارية للثقافة الإسبانية في ضوء الثقافة العربية الإسلامية. هذه النظرة، أزال عنها الكاتب غبار الكليشيهات، والأفكار الجاهزة التي تعمي كل المجتمعات البشرية مستعينا بالمؤرخين الإسبان القلائل الذين أنصفوا الحضارة العربية الإسلامية من أمثال «لوثيه لوبيز» أو «بدورمو نثابيث». إذا كانت ساحة جامع الفنا تراثا إنسانيا، اليوم، تحت حماية اليونسكو، فالفضل يعود لخوان غويتيسولو. أقام هذا المراكشي الحقيقي الدنيا ولم يقعدها، عندما أراد بعض المضاربين العقاريين تحويل هذه الساحة الفريدة من نوعها في العالم إلى عمارات ومواقف سيارات تشوه وجه المدينة الحمراء. التف حوله المثقفون المغاربة والعالميون وأجهض «جنون أثرياء العقار» في مهده. نجت ساحة جامع الفنا بفضل وجود كاتب كبير فيها. نال خوان غويتيسولو فيما بعد العضوية الشرفية لاتحاد كتاب المغرب لاعتباره كاتبا مغربيا وعربيا دافع دائما عن قضايا الشعوب المضطهدة. كما دافع خوان غويتيسولو دائما عن مغربية سبتة ومليلية المحتلتين، والصحراء المغربية، في كتاب يقول فيه: «في المقالات التي خصصتها للاستعمار الإسباني في المغرب ولمشكلة الصحراء، في ضوء العلاقات الثقافية التي تجمع بين بلدينا، استفدت كثيرا من قراءتي لمفكر مغربي كعبد الله العروي ومفكرين مغاربة آخرين، إذ تحدثت عن الإنسان المغربي الحقيقي في القرن العشرين من زاوية نظر مناهضة للاستعمار، ديموقراطية مناصرة لتحرر الشعوب». هكذا أحب خوان غويتيسولو مملكة الشمس، كما أحب ودافع عن البوسنة، وفلسطين، والجزائر. مثقف لا يكل من محاربة الطواحين الحقيقية. تكريم بعيد عن جامع الفنا حاول الكاتب، في بداية الستينيات، من خلال روايات مثل «الألعاب الأولى» و«حقول نيخار» سبر أغوار المجتمع الإسباني، الذي كان يرزح تحت سياط البؤس الاجتماعي والاقتصادي، ولا سيما في منطقة الأندلس. وقد تبنى هذا المسار الجذري في أعماله الروائية التالية ك «ضون خوليان»، و«خوان بلا أرض»، و«مقبرة» وغيرها. يقول الكاتب عن أدبه: «النص الأدبي ليست له علاقة مباشرة وسطحية مع مرجعه، بل تمر هذه العلاقة بأكثر من مصفاة». بين مراكش وباقي عواصم العالم، استطاع خوان غويتيسولو أن يبني جسرا حقيقيا بين الشرق والغرب، جسر صغير، بالتأكيد، لكنه متين متانة القناعات الفكرية، التي يدافع عنها حفيد سرفانتس. لقد تم تكريم هذا «الطائر المتوحد» تكريما رمزيا في المغرب من لدن جمعية «الثقافات الثلاث»، التي تهدف إلى تقريب الحضارات، في فندق فاخر بعيد عن عنفوان «ساحة جامع الفنا»، قلب الكاتب النابض.