عندما اقتحمت عليه «المساء» خلوته في باريس، كان يسند رأسه إلى رأس شقيقه بايزيد، يتحاكيان ذكريات يختلط فيها المجد بالمرارة. فوق كرسي اعتراف «المساء»، حكى مدحت «René» بوريكات عن والده التونسي الذي تعلم مبادئ الاستخبارات في الأكاديمية العسكرية بإسطنبول، فقادته إلى الرباط؛ وعن والدته العلوية، قريبة محمد الخامس؛ وعن نشأته وإخوته في محيط القصر الملكي واحتكاكه بالأمراء.. يتذكر مدحت يوم بعثه والده في مهمة خاصة إلى محمد الخامس في فرنسا بعد عودته من المنفى.. ثم اشتغاله في موقع حساس في باريس جعله يتنصت على مكالمات الأمراء والوزراء.. إلى أن سمع ولي العهد يتحدث إلى طبيب والده عن المرض الذي تسبب في وفاة محمد الخامس، والتي يقول بوريكات أنْ «لا علاقة لها بالعملية التي أجريت له على الأنف». في «كرسي الاعتراف»، نتعرف مع مدحت «René» على محيط الملكين محمد الخامس والحسن الثاني، وعلى علاقة المال بالسياسة، وما يتخلل ذلك من دسائس القصور التي قادته، رفقة أخويه بايزيد وعلي، من قمة النعيم إلى متاهات الجحيم في تازمامارت، وجرجرت والدته وأخته بين دهاليز المعتقلات السرية. تفاصيل التفاصيل التي غابت عن كتابه «ميت حي - شهادات من الرباط 1973 إلى باريس 1992» يستحضرها مدحت بوريكات، الذي فقد 20 سنتيما من طوله خلال 20 سنة من الاعتقال، بقدرته المدهشة على الحكي الذي يجعله، يخرج من دور الضحية ليحاكم جلاده، بالسخرية منه طورا، وبالشفقة عليه طورا آخر. - بعد مدة من الاعتقال في تازمامارت، تعودت معدات من بقي حيا منكم على تناول كمية قليلة من طعام لم يكن يخلو من حشرات وغيرها، كما تعودتم على وجود القوارض والزواحف والعناكب السامة في زنازينكم؛ اِحك لنا عن ذلك.. بل اعتدنا على وجود كائنات سامة في طعامنا، فذات مرة سقطت عقرب كبيرة من سقف البناية في طنجرة الطعام.. أو هذا ما ادعاه الحراس، لأنني لست متأكدا من هذه الرواية وأشك في صدقها، وأعتقد بالمقابل أن أولئك الحراس قد وضعوا العقرب عنوة في آنية طهو الطعام. المهم أننا سمعنا الحراس، موزعي الطعام، يكررون ذلك بصوت عال لكي يصل إلى أسماع جميع السجناء؛ فقام أحد السجينين اللذين كانا معتقلين معا بالزنزانة الأولى، وقال لهم: «غير سربيونا راه فينا الجوع». - وأكلتم ذلك الطعام؟ «معلوم. واش نضيعو فغدا». لقد حصل ذلك أثناء توزيع وجبة الغداء. - من كان ذلك السجين؟ (بعد كدٍّ للذهن في محاولة لتذكره) لا أذكر. - ألم يُصب أحد منكم بمكروه؟ لا، لقد حركوا الطنجرة بالمغرفة مرات ومرات إلى أن عثروا على العقرب، فأزالوها، ووزعوا علينا الأكل. - في كتابك «Mort vivant» (حي ميت) تتحدث عن واقعة غريبة ومقززة حصلت لك مع وجبة السردين في تازمامارت؛ اِحك لنا عنها.. ذات يوم، وعلى غير العادة، دخل الحراس إلى بنايتنا في الصباح الباكر، بعدما كنا قد تعودنا على مجيئهم عقب النفخ في الصور «الكورنيطا» الذي يسبق تقديم التحية العسكرية ورفع العلم إيذانا ببداية يوم جديد، كما يسبق إعلان نهاية اليوم وإنزال العلم. ذلك اليوم، كما قلت، جاء الحراس في حوالي الخامسة أو السادسة صباحا، وفتحوا أبواب زنازيننا، ثم طلبوا من كل واحد منا إخراج صحنه و»الكار»، ففعلت ذلك بنية أنهم سيوزعون علينا فطورا عاديا: قليلا من القهوة في «الكار» وخبزة في الصحن.. ثم سحبت «الكار» وبه القهوة، والصحن وبه بعض السردين، دون أن أنتبه، وسط الظلام الدامس، إلى أن الصحن يحتوي على ثلاث أو أربع سردينات. وكما أفعل عادة بشكل ميكانيكي، فقد وضعت «الكار» فوق العتبة، ثم نفضت الصحن في ثقب المرحاض، وما إن غادر الحراس وبدأت أحتسي قهوتي حتى سمعت زملائي المساجين يتنادون في ما بينهم: «أفلان.. شحال جاتك من سردينة؟»، فيأتي الجواب: «أنا جاوني جوج.. أنا جاوني ثلاثة.. أنا جاوني ربعة». وعندما كثر اللغط حول السردين، توجهت إليهم قائلا: «بديتو تتفلاو على الصباح.. خليونا نكملو نعاسنا؟»، فأجابوني مؤكدين ومقسمين على أنهم تلقوا وجبة سردين. - لم يكن قد سبق لكم قبل ذلك اليوم أن أكلتم وجبة سمك في تازمامارت؟ كانت تلك أول مرة نرى فيها السمك بعد سنوات من القطاني المطهوة بالحشرات. المهم أنني عندما مددت يدي أتلمس الصحن «لقيتو مزيت»، فعرفت أنني نفضته «سستو» بما فيه، كما أفعل عادة، دون أن أنتبه إلى أنه كان يحتوي على وجبة استثنائية. - ما الذي فعلته والحالة هاته؟ حشرت يدي في ثقف المرحاض وسحبت السردينات، واحدة واحدة، وحاولت أن أمسحها بقليل من الماء، من الغائط العالق بها، لأنه من الصعب غسل سردينة معلبة «ديال الحك» بشكل جيد، ثم أكلتها.. وقد حكيت ذلك للحراس، فلم يصدقوني. - عموما، أنت كنت قد اعتدت على وضع خبزك في ذلك الصحن الذي كنت تقضي فيه حاجتك، بعدما صرت مقعدا «زحّاف». بالمناسبة، كيف حدث لك أن أصبحت مقعدا، لا تقوى على الوقوف والحركة في تازمامارت؟ من قلة الأكل والفيتامينات، أصبت بهشاشة في العظام، ثم فقدت القدرة على الوقوف بعد حوالي أربع سنوات على مجيئنا إلى تازمامارت، وبقيت مقعدا، أزحف، لمدة خمس أو ست سنوات، إلى أن غادرنا تازمامارت. - كيف شعرت أول مرة بأنك لم تعد تقوى على الوقوف؟ حدث أني كنت أقضي حاجتي وأنا جالس القرفصاء «مقرد»، وعندما حاولت أن أقف، وجدتني عاجزا عن ذلك، وفجأة سقطت فوق ثقب المرحاض، وبقيت أحبو إلى وصلت جنب العتبة، وعندما حاولت صعودها عجزت أيضا، بل إنني عندما أمسكت بحافتها وبذلت جهدا جهيدا للصعود إليها وجدتني خائر القوى، فما كان مني إلا أن سحبت بطانيتي وبقيت مطروحا على البلاطة لأزيد من خمس سنوات إلى أن جاء الفرج وغادرنا تازمامارت. - نفس الشيء حصل لشقيقك بايزيد؟ نعم، بايزيد أقعده المرض بعدي بمدة قليلة، وبقي بدوره مقعدا إلى أن أفرج عنا. - سنة 1984 سوف تصلكم (الإخوة بوريكات) بعض الأخبار من الخارج عن أفراد عائلتكم؛ اِحك لنا عنها.. أصبح امبارك الطويل مسموحا له بمغادرة زنزانته والتجول في الساحة، بعد أن قامت زوجته الأمريكية، نانسي، بحملة ضغط واسعة للتعريف بوضعه في الولاياتالمتحدةالأمريكية، أخبرنا عن وضعية شقيقتي. وبالرغم من أن إدارة تازمامارت حذرت الطويل من الاقتراب إلى بنايتنا «B2» فقد غامر ودخلها، فكان من جملة الأخبار التي نقلها إلينا الطويل أن شقيقتي خديجة استطاعت مغادرة المغرب بطريقة سرية نحو فرنسا وأنها تقوم بمجهودات من أجل التعريف بقضيتنا. كما عرفنا منه أن زوجته تقود حملة واسعة لوضع حد لاعتقالنا في تازمامارت.