في سنة 1958 خرج والد عبد الباري الزمزمي من جُبة أبيه الصوفية، وقال: «ألا فليشهد عليَّ المؤمنون والعلماء الصالحون أنِّي أتبرؤ من المتصوِّفة الجاهلين، وأتقرب إلى الله ببغضهم، وأدعو إلى محاربتهم». مات الأب وتوالت خرجات الابن المثيرة للجدل: حارب اليسار، ونفى الشهادة عن المهدي بنبركة، انقلب على أصدقائه في حزب العدالة والتنمية الذي وصفه ب«النذالة والتعمية» وقال عن أعضائه إن أخلاقهم لا ترقى إلى مجرد أخلاق الكلاب، كسر قاعدة «اذكروا محاسن موتاكم» غداة وفاة عبد السلام ياسين، وقال إن مرشد العدل والإحسان «غير مأسوف عليه.. وغيابه خير من وجوده»، وإنه «كان مثار فتنة وبلبلة بسبب خروجه عن منهج الإسلام». فوق كرسي اعتراف «المساء»، يحكي عبد الباري الزمزمي كيف انقطعت صلة الرحم بينه وبين أعمامه، ولماذا هجر فكر جده، وهاجر من طنجة إلى الدارالبيضاء حيث تعرض للمضايقات والاعتقال، وكيف تم إنزاله من فوق منبر خطبة الجمعة بأمر من الوزير الأول عبد الرحمان اليوسفي، وحكاية تدخل عبد الإله بنكيران لمنعه من الكتابة في جريدة «التجديد».. ثم يعود للدفاع عن فتاواه الجنسية المثيرة للجدل، ويقول إن مضاجعة المرأة للمرأة (السحاق) لا تعتبر زنى وليست من الكبائر. ثم يقدم تفاصيل حصوله على مأذونية النقل «كريما»، ويقف عند حكومة بنكيران التي يعتبرها فاشلة ولن تستطيع تطبيق الشريعة الإسلامية. - بالرغم من أن والدك كان شيخا سلفيا، فقد هاجم في كتابه «الطوائف الموجودة في هذا الوقت» الوهابية واعتبرها من بين الطوائف الضالة؛ كيف ذلك؟ كان والدي، بالفعل، مع أصل الدعوى السلفية، ولأجل ذلك انفصل عن زاوية أبيه وانسلخ من التصوف، لكنه كان يرى أن السلفيين المتشددين يبالغون في تكفير عدد من المسلمين الذين يزورون القبور ويطوفون بها ويذبحون عليها، فأمثال هؤلاء كان والدي يعدُّهم جهلة لا كفارا، لذلك اعتبر والدي الوهابيين والسلفيين وكل الحنابلة ضالين عن العقيدة. - حتى «شيخ الإسلام» ابن تيمية كان في نظر والدك ضالا؟ نعم، لأنه كان حنبليا، والحنابلة يجسدون الله تعالى حين يشرحون «استوى على العرش» بمعنى جلس على العرش؛ ولذلك كان والدي يرفض الصلاة خلف الحنابلة. وبالعودة إلى المناظرة الشهيرة التي جمعت والدي بالألباني، سنوات الثمانينيات، في منزلنا بمدينة طنجة، والتي امتدت من الصباح إلى الظهر، سنجد أن والدي لم يشأ الصلاة خلف الألباني، فعندما أذن لصلاة الظهر نزل والدي إلى الطابق السفلي من بيتنا وتوضأ وصلى لوحده، كما أنه لم يكن يصلي خلف أئمة الحرم أيضا لهذا الاعتبار. - موقف والدك هذا كان غير مقبول حتى من بعض أصدقائه من أمثال الدكتور تقي الدين الهلالي؟ الدكتور تقي الدين الهلالي كان يعز والدي، ويحرص على زيارته عندما كان يأتي إلى المغرب في عطلته السنوية، حينما كان يدرس في المدينةالمنورة، لكنه بالفعل كان يخالف والدي في موقفه الصارم من الحنابلة. وفي هذا الموضوع، دعني أحكي لك قصة طريفة وقعت لي شخصيا مع الدكتور تقي الدين، فعندما تقاعد وعاد إلى الدارالبيضاء للاستقرار بها، قمت بزيارته رفقة عدد من الأصدقاء، وصادفت هذه الزيارة درسا كان قد ألقاه والدي وتكلم فيه عن بطلان عقيدة الحنابلة و ضلال ابن تيمية. والمعروف أن الحنابلة يقدسون ابن تيمية، فبدأ الدكتور تقي الدين الهلالي ينتقد والدي دون أن يعرف بأنني من جملة الحاضرين، لأنه كان قد فقد البصر، وعندما أطنب في نقد والدي أخبره بعض الحضور بوجودي، فأصيب ببعض الحرج والارتباك، وللتخلص من هذا الحديث عرض علي الذهاب إلى المدينة للدراسة بها. - بعد استقرارك في الدارالبيضاء، تم منع عمك الشيخ عبد العزيز من الخطابة في مساجد طنجة، وكانت هناك حملة تضامن واسعة معه من طرف أغلب العلماء والخطباء، إلا أن عريضة تضامن الدارالبيضاء خلت من اسمك؛ لماذا لم تتضامن معه؟ أنا نفسي حينما كنت خطيبا في مسجد الحمراء بالدارالبيضاء، بدءا من سنة 1976 تعرضت للمنع وللعديد من المضايقات والضغوطات من قبل السلطات، وفي سنة 1978 قضيت ليلة كاملة في مخفر الشرطة، وكنت كلما ألقيت خطبة لا تعجب السلطات استُدعيتُ من قبلها للتحقيق معي، وبقيت كذلك إلى أن اندلعت الثورة الإيرانية، حينها أذكر أنني ألقيت خطبة أناصر فيها الثورة على ظلم الشاه، فتم اعتقالي شهرا كاملا في مقر سري لمكتب الديستي في شارع مولاي يوسف بالدارالبيضاء، قرب القنصلية الأمريكية، وخلال ذلك الشهر خضعت لمجموعة من الاستنطاقات، فقد كانوا يظنون أن هناك علاقة تربطني بنظام الخميني، وقد أكدت لهم أنني فقط أناصر الثورة على الظلم، وهذا كل ما في الأمر. ورغم كل ما عانيته لم يساندني عمي ولا العلماء الذين ساندوه، لذلك فقد تصرفت بدوري بالمثل. هذا الموقف يذكرني بما حصل حين توفي الشيخ عبد السلام ياسين، فقد عاتبني العديد من معارفي على كوني لم أُقدم العزاء في وفاة مرشد حركة العدل والإحسان، لكنني أجبتهم بأنني لم أتلقَّ العزاء منهم أيضا حين مات أبي وأخي صُهيب، وكانا من العلماء البارزين. - هل سبق لك أن التقيتَ بعبد السلام ياسين؟ لا أبدا، لم أبادر أنا ولم يبادر هو. - كيف جاء انتقالك من طنجة إلى الدارالبيضاء للاستقرار بها؟ الأمر يعود إلى ما قبل ولادتي، فحين تزوج والدي بأمي، قال يوما بحضور عدد من أفراد العائلة إنه يريد أن ينجب ثلاثة أولاد ذكور، يذهب كل واحد منهم إلى بلد من البلاد العربية لينشر الدعوة، وبالتالي فانتقالي إلى الدارالبيضاء كان لهذا الغرض، أي أن أحقق جزءا من إرادة والدي، لكن على نطاق وطني. من ناحية أخرى، بما أن طنجة كانت حينها تعرف اكتفاء ذاتيا من العلماء، فقد فكرت في الانتقال إلى الدارالبيضاء. - حيث عملت كخطيب في مسجد الحمراء الذي اشتهرت فيه.. أول ما انتقلت إلى الدارالبيضاء كنت أعمل في مساجد مختلفة، ألقي فيها الدروس وأنوب فيها عن الخطباء أحيانا. وفي سنة 1976، كان عبد اللطيف الجاي ناظرا للأوقاف بالدارالبيضاء، فأخبرني بأن أحد المنابر صار شاغرا، ومنذ ذلك الحين صرت خطيبا للجمعة في مسجد الحمراء، كما كنت أعطي الدروس الدينية في نفس المسجد يومي السبت والأحد. - في هذه الفترة، بداية السبعينيات، كانت الحركة الإسلامية في المغرب تعرف فورتها الأولى بالدارالبيضاء؛ هل حدث أن التقيتَ بعبد الكريم مطيع ومجموعة الشبيبة الإسلامية؟ لم أتصل به أبدا، خصوصا وأنه كان يروج عن عبد الكريم مطيع منذ بداية تحركاته أنه شخص مشبوه، وأنه خصم لكثير من التيارات، لذلك لم أشأ أن أُقحم نفسي في صراعات مجانية، ولاسيما أني كنت حديث العهد بالدارالبيضاء.