أفرز الربيع العربي وضعا جديدا في مناحي مختلفة من الحياة السياسية في المغرب، شأنه شأن ما وقع في العالم العربي برمته. ولعل أبرز هذه الإفرازات شديدة الأهمية، تصدرُ التيار الإسلامي المشهد السياسي في جل البلدان التي مسها الربيع العربي، بل أكثر من ذلك الخلخلة التي أصابت هذا التيار، فأدت بالعديد من فصائله إلى القيام بعملية مراجعات كبيرة لم تكن لتحدث لولا هذا الحراك المجيد. فمصر تحكم فيها جماعة الإخوان المسلمين وتتسيّد حقل المؤسسات المنتخبة، ليس فقط بفعل آلتها التنظيمية المنضبطة والمتجذرة في المجتمع مند زمن بعيد، ولكن عاملا أساسيا أوصلها إلى ذلك، تجلى في الدعم الكبير الذي أهداها إياه التيار الإسلامي بمختلف تلاوينه، وأبرزه السلفيون بتشكيلاتهم المتنوعة -حزب النور، الجماعة السلفية...- وحزب الوسط وغيره، باستثناء التيار الصوفي البعيد فكريا وسياسيا عن الإخوان، وهو الذي لم يتوان في انتقاد سلوكياتهم، بل أبرم تحالفات لمواجهتهم مع ألد أعدائهم. إن الدعم الكبير الذي تلقته الجماعة من باقي التيارات الإسلامية قد مكنها من الاكتساح الكبير لصناديق الاقتراع، من جهة؛ وأكسبها، من جهة أخرى، مناعة وصمودا كبيرين في وجه الضربات المتتالية للتيار المضاد (على سبيل المثال، ما قام به الشيخ «أبو إسماعيل» وأنصاره في مواجهة اعتصامات جبهة الإنقاذ). كما أن تجربة النهضة في تونس -رغم التباين بين التجربتين، حيث النهضة دخلت الانتخابات التونسية بدون تنظيم موجود على الواقع بفعل خيار السرية الذي انتهجته الحركة أيام حكم بنعلي- قد توحد الإسلاميون التونسيون لدعمها (النهضة) في الانتخابات الأخيرة، مما أعطاها الريادة وأوصلها إلى موقع تسيير البلاد. في المغرب، لا ينكر أحد أن من قطف ثمار حراك 20 فبراير هو أحد فصائل التيار الإسلامي «ممثلا في حزب العدالة والتنمية، ومن ورائه حركة التوحيد والإصلاح ذات البعد الإصلاحي المؤسساتي، والمعروف بتماهيه بشكل كامل مع المؤسسة الملكية». لكن فاعلا إسلاميا آخر أثث الفضاء العمومي عبر المشاركة في احتجاجات 20 فبراير -إلى جانب القوى العلمانية، وجماعة العدل والإحسان باعتبارها العمود الفقري للحركة- كان له دور في رسم الخريطة الانتخابية بشكل أو بآخر، ألا وهو الفاعل السلفي بكل أطيافه: العلمية والجهادية، والوهابية أحيانا. وقد ظهر السلفيون المغاربة بشكل واضح في ساحة الاحتجاجات المغربية في اختلاف تام مع سلفيي شبه الجزيرة العربية الذين أدانوا هذه الاحتجاجات واعتبروها خروجا عن الحاكم، وبالتالي غير جائزة شرعا. وقد كان الهدف من خروج التيار السلفي في الاحتجاجات بشكل أساسي إلى المطالبة بإطلاق سراح المعتقلين، ورد الاعتبار إليهم بعد تعرضهم لما اعتبروه «اعتقالات ومحاكمات تعسفية لهم من طرف السلطات». وقد نتج عن الإفراج عن شيوخ التيار السلفي (الفيزازي، أبو حفص، الكتاني،...) من قبل السلطة الحاكمة في البلد والترخيص بعودة رمز التيار الوهابي «محمد المغراوي» من المملكة السعودية، والسماح له بإعادة فتح دور القرآن... (نتج عن ذلك) دخولُ التيار السلفي في مراجعات فكرية مهمة، أفرزت قدرا كبيرا من التنازلات، لعل أبرزها اتخاذهم موقفا إيجابيا من الديمقراطية والملكية، بل أكثر من ذلك أعلنوا دعمهم للحزب الإسلامي المشارك في الانتخابات، وحشدوا دعما مهما لحزب العدالة والتنمية ساهم في تبوئه المرتبة الأولى. هذا الدعم الذي أبداه التيار السلفي بمختلف تلاوينه للحزب طرح جملة أسئلة من قبيل: - هل كان دعم السلفيين للعدالة والتنمية خيارا استراتيجيا أملته قناعة تامة بتصور الحزب ومواقفه الكاملة أم إنه فقط خيار تكتيكي أملاه فراغ الساحة من منافس إسلامي آخر يمكنه أن يحدث المفاضلة؟ - ما هي التحالفات الممكنة بين التيارات الإسلامية في مستقبل مغرب التغيير؟ مع من يتماهى التيار السلفي من الإسلاميين المغاربة «الكبار»: حركة التوحيد والإصلاح أم العدل والإحسان، وما هو موقع التيار الصوفي من كل هذه التجاذبات؟ إن سؤال التحالفات الممكنة بين الإسلاميين تطرحه الوقائع والأحداث التي تعيشها مصر وتونس... كما تفرضه المتغيرات المتلاحقة داخل بيوت التيارات الإسلامية المغربية (مراجعات التيار السلفي، بروز قادة جدد لهذا التيار، وفاة المرشد العام لجماعة العدل والإحسان، وما ترتب عن ذلك من انفراج في العلائق بين هذه التيارات، تزايد نفوذ التيار الصوفي في البلد بسبب أحمد التوفيق، وزير الشؤون الإسلامية في الحكومة الملتحية). ثم إن البحث في موضوع كهذا يستوجب فحصا دقيقا للتوجهات العامة والعلائق السائدة والإشارات المتبادلة بين مكونات الحقل الإسلامي الرئيسية في البلد، مما يصعب الإجابة عنها في مقال كهذا. لكن الواقع يفرز، على الأقل، وبشكل جلي، توجهين أساسيين في الوقت الراهن: الأول: تنشده حركة التوحيد والإصلاح وذراعها السياسي حزب العدالة والتنمية، وتطالب بالتغيير من داخل النظام السياسي القائم، بالانخراط في المؤسسات السياسية الموجودة بدءا بالسلطة التشريعية ووصولا إلى السلطة التنفيذية -في شقها الحكومي الضيق، على اعتبار أن الملك يحتفظ بالصلاحيات الاستراتيجية والكبرى- وهو ما تحقق له حتى الساعة؛ الثاني: تطرحه جماعة العدل والإحسان، أكبر تنظيم إسلامي وسياسي منضبط في المغرب. ويدعو هذا الاتجاه إلى ضرورة إحداث تغيير جذري في بنية النظام السياسي القائم في البلد، وذلك بعد أن يصل مرحلة الإفلاس السياسي والاقتصادي، وتبلغ الاحتجاجات مداها في شريانه وينهار كليا. إن حدث دخول العدالة والتنمية إلى الحكومة المغربية يعتبر، في اعتقادنا، حدثا مفصليا للمفاضلة بين هذين التوجهين، خاصة وأن إرهاصات فشل خيار التوحيد والإصلاح بدأت تلوح في الأفق، بعد أن تجلى مدى تحكم الملك في خيوط اللعبة الكبرى والأساسية، وإن ما تنازل عنه بموجب دستور 2011 ما هو إلا فتات لا يسمن ولا يغني من جوع، مما يجعل الكفة تميل إلى الطرح الثاني الذي تنادي به العدل والإحسان، ويجعله يمتلك درجة مهمة من المصداقية، كما يمكنه من جذب الفاعل السلفي -في شقيه الجهادي والعلمي- المتذمر من تجربة العدالة والتنمية، إذا ما استحضرنا التماهي المطلق للتيار الوهابي «صورة طبق الأصل لسلفية الخليج ضامنة الأنظمة الملكية وسندها المطلق» مع النظام الملكي المغربي. كما أن أحداثا أخرى تفيد بأن تقاربا مهما يمكن أن يقع بين شيوخ التيار السلفي وجماعة العدل والإحسان. ولعل في حدث وفاة المرشد العام للجماعة، وما رافقه من إشارات تضمنتها رسائل التعزية التي أرسلتها الفرق السلفية -كنعي «عبد الوهاب رفيقي» للمرشد العام وما جاء فيه من ثناء وإعجاب بشخصية الراحل- قد أوحت في مجملها بتقارب غير مخفي. كما أنه بدا جليا صمت وتراجع جزء كبير من السلفيين المغاربة عن انتقاداتهم المعتادة للجماعة في الآونة الأخيرة، مما أوحى بأن خيوطا للود قد تنسج، أو نسجت، قد تتحول يوما ما إلى تحالف تاريخي على غرار ما يقع بين الإخوان المسلمين والتيار السلفي في مصر. بالمقابل، لا يجد التيار الصوفي بُدّا من التقارب أكثر مع العدالة والتنمية بحكم التفاهمات الكبيرة الموجودة بين التيارين، خاصة حول المؤسسة الملكية وعنوانها الكبير إمارة المؤمنين. أحداث كبيرة وقعت وتقع، وأسس كثيرة تغيّرت وتتغير داخل مكونات الحقل الإسلامي المغربي، لذلك تبدو مسألة التقاربات، ولم لا التحالفات، ولو على مستوى المواقف الظرفية، متاحة أكثر من أي وقت مضى.