شكل تطور الحياة الإنسانية، وخاصة في شقها المرتبط بتطور الأفكار التي تعبر عن الثقافات المجتمعية، محكا رئيسيا تمخض عنه الإعلان عن تأسيس مجموعة من المنظمات أو الجمعيات التي اصطلح على تسميتها بالمنظمات غير الحكومية. هاته التسمية جاءت لتميز بين الأنشطة الموكول القيام بها إلى مؤسسات الدولة والأنشطة التي يمكن للجمعيات المدنية القيام بها في سياق تشاركي يجعل من المواطن شريكا فعليا في صناعة الخريطة التنموية للدولة. إن المجتمع المدني، كمصطلح مستورد حديثا من أوربا والغرب مع موجة العولمة، تؤمه غالبا منظمات غير حكومية تعمل في مجال حقوق الإنسان؛ بينما وُجدت في أمتنا، عمليا وتاريخيا، أشكالٌ مختلفة من المجتمع المدني تشكلت من مؤسسات طوعية تراوحت بين مؤسسات مجتمع القرب ومؤسسات الدولة. ومن هذه الأشكال التاريخية للمجتمع المدني العربي والإسلامي نذكر، على سبيل المثال لا الحصر، «نظام الوقف وروابط الحرف والصناعات». ومن هذا المنطلق، لا ينبغي أن نحصر مفهوم المجتمع المدني في المنظمات غير الحكومية التي جاءت ضمن منظومة العولمة، بل لا بد من التذكير بأن مفهوم المجتمع المدني امتد إلى النقابات المهنية والعمالية والجمعيات الأهلية والتعاونية والأندية الثقافية والاجتماعية والرياضية والروابط والاتحادات النوعية، الشيء الذي أسس لنشأة وتراكم فكر إنساني لا يستهان به في رسم معالم التنمية الإنسانية بمختلف تجلياتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافة، وكذا السياسية. إن الثقافة السائدة في المجتمع المدني تنم عن تراكم تاريخي للفكر الإنساني لا يمكن حصره في الزمان ولا في المكان، الأمر الذي يجد تفسيره في مبدأي الوجودية والاستمرارية الإنسانيين. ومن هذا المنطلق، يمكننا القول إن منظمات المجتمع المدني ذات الطابع العالمي لطالما ساهمت في امتصاص مجموعة من المشاكل المرتبطة بتدبير الحياة الإنسانية، مما يبين الأهمية التي تحظى بها هذه المنظمات في رسم معالم الحياة الإنسانية، على اعتبار أنها تشكل محطة أساسية لطالما ساهمت في تفعيل ثقافة القرب المواطن التي نجدها تمر عبر محورين رئيسيين: - المحور الأول يتمثل في ثقافة الحقوق بمفهومها العام وليس الفردي، أي الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ كما يشمل أيضا فهم الحريات التي ينبغي أن يتمتع بها المواطن والواجبات الملقاة على عاتقه تجاه وطنه؛ - المحور الثاني يتجلى في ثقافة المشاركة، بحيث لا يمكن تصور قيام منهاج الديمقراطية طالما أن المواطنين يتهربون من الممارسة والمشاركة السياسية والاجتماعية الفاعلة. إن قيام المجتمعات على مبدأ الديمقراطية الحقة رهين برد الاعتبار إلى الثقافة المدنية، وخاصة بالمجتمعات السائرة في طريق النمو كالمغرب، الأمر الذي يجد تفسيره في كون مختلف الدول المتقدمة جعلت من منظمات المجتمع المدني شريكا حيويا وأساسيا في رسم معالم الدولة الديمقراطية، وذلك من خلال خلق: - جمعيات تشتغل في الأمور ذات الصبغة العامة؛ - منظمات متخصصة في تدبير مجال إنساني دون غيره؛ - اتحادات مدنية تقوم بمهمة التدبير المباشر لقضايا الفرد والمجتمع... إلخ. لقد استطاعت مختلف الهياكل المدنية، المشار إليها أعلاه، تحقيق نتائج إيجابية، إن على مستوى الفرد أو المجتمع، إذ ساهمت في توسيع قاعدة المشاركة المدنية في تدبير الشأن العام، مما تحققت معه استجابة أكبر لآمال ومطالب الشعوب، وذلك لأن المجتمع المدني يستهدف ضمن نشاطه تفعيل ثقافة الديمقراطية في المجتمع، وكذا ثقافة الحوار مع الآخر والقدرة على طرح ومناقشة المشكلات وإفراز القيادات، ذلك أنه كلما نجح هذا المجتمعُ في إفراز القيادات وجد الناسُ من يمثلهم ويعبر عن مطالبهم الشخصية، هذا دون أن ننسى أن هذا الأخير يستهدف أيضا تعميق ثقافة العمل الجماعي واكتساب خبرة العمل العام الذي ساعد الدول المتقدمة على تحقيق نتائج تنموية إيجابية جدا، بحيث مكنها من تفعيل ثقافة التمكين والاستمرارية لمؤسسات المجتمع المدني عن طريق العمل المؤسسي والتشبيك بين كافة أطرافه، بما يجمع التمويل والخبرة الفنية والموارد البشرية من أجل تحقيق التنمية، وبالتالي فإذا ما أردنا بناء نظام مدني فاعل وفعال، وجب القيام: - بتحقيق الاستقلال المالي للمؤسسات المدنية وتفعيل ثقافة تمويل أعمالها وأنشطتها، من جهة، وضمان احترام مبدأ المشاركة المواطنة المبنية على سياسة الانفتاح، من جهة أخرى؛ - إنشاء مركز حوار المجتمع المدني لعقد ندوات متخصصة تناقش موضوعات الشراكة والتمويل المدنيين من أجل وضع استراتيجيات لعمل المجتمع المدني في أفق التأسيس لقيام المجلس الاستشاري للعمل الجمعوي الذي تم التنصيص على إحداثه بمقتضى دستور 2011، الأمر الذي سيتمخض عنه وضع برامج عمل مضبوطة الإمكانيات البشرية والمادية واللوجستية، مما سيمكننا في آخر المطاف من تطبيق مبدأ الشفافية الدستوري على أرض الواقع؛ - تفعيل الوحدة والتعاون بين وحدات المجتمع المدني العربي والدولي، الأمر الذي سيمكننا من تبادل خبرات الدول الناجحة في هذا المجال، ولمَ لا إنشاءُ بنك للمعطيات والتجارب المدنية يكون بمثابة مرجع لمختلف الفاعلين في ميادين تدخل المجتمع المدني... إلخ. ومن هذا المنطلق، يمكننا القول بأن منظمات المجتمع المدني هي عبارة عن مشاتل حقيقية لتكوين أطر قادرة على تدبير الشأن العام الوطني والمحلي بشكل يتحقق فيه مبدأ الشراكة ثلاثية الأبعاد: مجتمع مدني/قطاع عام/قطاع خاص، والتي من خلالها سيمكن للمغاربة قاطبة توحيد جهودهم في سبيل إتمام مسلسل بناء دولة الحق والقانون، من جهة، وضمان التطبيق الفعلي لمبدأي المساءلة والمحاسبة الدستوريين على أرض الواقع، من جهة أخرى. إن تحقيق المجتمع المدني لأهدافه الإنسانية النبيلة لا يمكن أن يتم في معزل عن محاكاة الفكر الإنساني الذي يزاوج بين الأصالة والحداثة، لا لشيء إلا لأن التنمية الحقة تنطلق من وإلى الإنسان، وبالتالي فالثقافة الإنسانية لبنة أساسية لمواصلة بناء صرح دولة الحق والقانون، الأمر الذي لن يتحقق إلا بضمان مشاركة منظمات مجتمع القرب المدني المواطن الذي يحمل في ذاكرته ماضي الإنسانية وحاضرها في أفق التخطيط الاستراتيجي لمستقبلها.