لم نكن نتوقع أن يتسبب قرار عادي للهيئة العليا للاتصال السمعي البصري ضد القناة الثانية لرد الاعتبار لجريدة «المساء»، في إثارة حساسية القائمين على هذه القناة إلى درجة اتهامهم الهيئة العليا للحكماء بممارسة الشطط في استعمال السلطة. وهاهي القناة الثانية تلجأ إلى المحكمة الإدارية مرة أخرى لإيقاف تنفيذ قرار الهيئة الذي يجبرها على الامتثال للقانون وقراءة اعتذارها ل«المساء» بالصوت، عوض الاكتفاء ببثه مكتوبا وبصمت. إننا نفهم أن تخطئ بعض الإذاعات الخاصة وتخضع لقرارات الهيئة العليا للاتصال وتقرأ قراراتها وتدفع الغرامات التي تحكم بها عليها، فعمر هذه الإذاعات لا يتعدى سنتين، ومن الطبيعي أن تعيش عثرات البداية وأخطاءها. لكن أن تدمن القناة الثانية على الأخطاء، هي التي تحتفل اليوم بعشرين سنة من عمرها، ثم تمتنع عن تطبيق قرارات الهيئة العليا وتحاول الالتفاف عليها لكي تعتذر اليوم كتابة لمن أساءت إليهم بالأمس بالصوت والصورة، فهذا يبعث على الخوف على مصير هذه القناة التي ينطبق عليها المثل الشعبي الذي يقول «قديم وغشيم». فقناة عمومية عمرها عشرون سنة من المفروض أن تعطي المثال لوسائل الإعلام الأخرى في المهنية واحترام الأخلاقيات. لا أن تلتف على قرار مجلس الحكماء وفوق كل ذلك تتهمهم بممارسة الشطط في استعمال السلطة. وما نسيه محامي القناة الثانية وهو يتهم مجلس الحكماء بممارسة الشطط في استعمال السلطة هو أنه إذا كان هناك من مؤسسة تمارس هذا الشطط فهي القناة الثانية نفسها. وما عليه سوى أن يرجع إلى أرشيف القناة لكي يتفرج على الروبورتاج الذي أشرفت على طبخه سميرة سيطايل في مطابخ مديرية الأخبار عندما جمعت مصالح المخابرات التي يديرها صديقها ياسين المنصوري كل من هب ودب لكي يقفوا محتجين أمام مقر مجلة «لوجورنال»، ويصرخوا محتجين على نشر المجلة لرسومات كاريكاتورية مسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم. مع أن المجلة لم تنشر أية رسومات ولم تسئ لأي أحد. ولم تكتف مديرية الأخبار بتغطية الوقفة المفبركة أمام مقر «لوجورنال» وإنما استدعت شخصيات فنية إلى مقرها بعين السبع وسجلت معهم شهادات حول قضية الرسوم المسيئة للرسول ودستها في المونتاج «بزز». فوجد هؤلاء الفنانون الذين أعطوا تصريحا حول الرسوم المسيئة للرسول في الدانمارك، أنفسهم مقحمين قسرا في روبورتاج حول الرسوم المسيئة للرسول في المغرب. والنتيجة هي أن مديرية الأخبار بالقناة الثانية عرضت، بعد بث التقرير، حياة صحافيي المجلة للخطر. فبدؤوا يتوصلون بمكالمات تهددهم بالتصفية الجسدية من متشددين صدقوا ما جاء في نشرة أخبار القناة الثانية. ورغم أن الجميع اطلع على العدد الذي أقامت حوله سميرة كل هذه القيامة، ولم يعثر للرسومات المسيئة على أثر، فإن القناة الثانية لم تعتذر لمشاهديها ولا لإدارة المجلة. أليس هذا شططا واضحا في استعمال السلطة الإعلامية؟ ولعل أكبر شطط في استعمال السلطة تمارسه القناة الثانية في حق المغاربة الذين يدفعون من ضرائبهم ميزانيتها السنوية، هو أن نشرة الأخبار الرئيسية التي تبث على التاسعة إلا ربع والتي يكون ساعة بثها أغلب المغاربة داخل بيوتهم، تبث باللغة الفرنسية. ضدا على دستور المملكة الذي ينص على أن العربية هي اللغة الرسمية للبلاد، وضدا على عباس الفاسي الوزير الأول وحزبه اللذين يريدان تعريب الوثائق والمعاملات الإدارية، فيما هما غير قادرين حتى على تعريب نشرة الأخبار الرئيسية في القناة العمومية التابعة للحكومة. وهكذا تحرم القناة الثانية بشططها اللغوي ملايين المغاربة الذين لا يفهمون الفرنسية من حقهم الأساسي في الخبر. ومن يريد منهم أن يشاهد نشرة الأخبار باللغة العربية عليه أن ينتظر «نشرة حوالي». تلك النشرة العربية التي لا أحد، بمن فيهم مخرجوها، يستطيعون التحكم في ساعة بثها. وتأملوا هذه المفارقة العجيبة، النشرة الفرنسية توقيتها مضبوط ويمكن أن تحقق عليه ساعتك، أما توقيت النشرة العربية فيخضع لقاعدة «وقت ما» عملا بالمثل القائل «الخبار يجيبوها التاليين». ومن آخر أخبار الشطط في استعمال السلطة الإعلامية التي تمارسها القناة الثانية ضد المغاربة الذين يمولون ميزانيتها، هو تأخيرها لتوقيت البرامج السياسية والحوارية إلى منتصف الليل، وبرمجة سلسلة تافهة تسمى «الربيب» في وقت الذروة. فيبدو أن المدير الجديد للقناة القادم من شركة «البقرة الضاحكة»، يهتم فقط بالمساحات الإشهارية التي تجلبها البرامج السخيفة التي «تكلخ» الشعب وتجر ذوقه الفني نحو الأسفل. ولا يريد للبرامج السياسية والحوارية التي «تفيق العمى لضرب الحجر». وهكذا أصبحنا نشاهد الشابة الداودية وحجيب في برامج القناة الثانية أكثر مما نشاهد السياسيين وزعماء الأحزاب. أما المثقفون والمفكرون والفلاسفة فيمكن أن تعثر على أسنان الدجاج ولا تعثر على واحد منهم في برامج ونشرات القناة الثانية. والواضح أن السياسة الإعلامية الجديدة التي بدأت القناة الثانية تطبق خطتها مع وصول مديرها الجديد «الشيخ سالم»، تقتضي تحويل القناة من أداة إخبارية تثقيفية ترفيهية إلى وكالة إشهارية لبث إعلانات «العظمة» وحافظات «بومبيرز»، وبطاقات «وانا». أما «أنا» و«حنا» و«نتوما» وبقية المغاربة المجبرين على دفع ضرائب لهذه القناة كل شهر عبر فواتير الكهرباء الباهظة أصلا، فإن حقنا في الخبر والتحليل السياسي يبقى مؤجلا إلى «نصاصات» الليل. فالمرحلة الدقيقة التي يجتازها المغرب اليوم تقتضي المزيد من «الدرديك» فوق «القعدة» والمزيد من حصص «الجرة» برفقة الشابة الداودية صاحبة «الكامنجة» العتيدة والوقفة الصامدة على جبهات الليالي التلفزيونية الساهرة. إن معركة الجمعيات والمؤسسات التي تناضل ضد تبذير الأموال العمومية يجب أن تتوحد وتنصب على مطلب واحد وعاجل وضروري، وهو مطلب إعفاء ملايين المغاربة من دفع ضرائب لقطب إعلامي عمومي متجمد الأطراف متبلد الإحساس، لا يحترم أذواقهم ولا يقوم بدوره الإعلامي في إخبارهم بمهنية ومصداقية. فليس من المقبول أن نمول جهازا إعلاميا يخاطبنا في نشرة أخباره الرئيسية بلغة غير لغتنا، ويهتم بانشغالات غير انشغالاتنا، وعندما تريد جهات مخابراتية تصفية حساباتها مع خصومها تأخذ هذا الإعلام العمومي كرهينة وتستعمله كسلاح، مستغلة أموال دافعي الضرائب في تمويل معارك شخصية تخفي طموحات صغيرة لبعض المرتزقة والوصوليين الذين يعتبرون التلفزيون ضيعتهم الخاصة «يحرثونها» كيفما ووقتما أرادو، عملا بالمثل القائل «الحبة والبارود من دار القايد». لقد آن الأوان لكي يفهم ملاك هذه الضيعة الإعلامية أنه حان الوقت لكي يطلقوا سراح التلفزيون العمومي، وأن يفرجوا عن الأخبار ويطلقوا سراح النقاش السياسي المفتوح. فهذه القناة ليست قناتهم، وإنما قناة الشعب الذي يصرف عليها من رواتبه كل شهر. وإذا كانوا مصرين على الاحتفاظ بملكية هذه الضيعة وبحقهم في زراعتها بالبذور التي يريدون، فعليهم أن يحولوها إلى قناة خصوصية وأن يعفوا المغاربة من تمويلها بضرائبهم. «وديك الساعة ماشي يزرعو فيها غير السلاوي، يزرعو فيها حتى الخيار إلى بغاو».