«لا تدعه يبقيك مستيقظا طوال الليل لأن اللغز لن تستطيع حله والأسئلة لن تجد لها أجوبة»، لكن في «أسرار غامضة طبعت التاريخ» نقوم بالإحياء الدرامي الدقيق لتلك الأسرار التي ألهمت الخبراء وأثارت اهتمامهم وأذهلتهم لقرون وعقود وجعلت من شخصياتها أساطير في الذاكرة. سوف نقوم بكشف حقيقة بعض الشخصيات الأسطورية من خلال اكتشاف أدلة ونظريات جديدة. جثة مثقلة بجروح في الرأس وقروح مفتوحة وكسور في العظام وإبر مكسورة في ذراعيه.. يبدو أنه ضحية إهمال وإساءة معاملة رهيبين لكنه لم يكن مهملا عاديا، إنه هوارد هيوز.. فكيف يحدث هذا لأشهر ملياردير في القرن العشرين؟ تشريح صادم في 5 أبريل 1976، تلقى الدكتور جاك تايدس في مستشفى «ميتوديس»، في هيوستن -تكساس، مكالمة هاتفية غير عادية حول جثة رجل يدعى جون تي كنوفر ستُنقل من مطار هيوستن إلى مشرحة المستشفى بأقصى درجة ممكنة من السرية، لأن كنوفر اسم مستعار لهوارد هيوز، المليادير الشهير. عند رؤية الجثة للوهلة الأولى، وجد الدكتور تايدس أنه يعاني هزالا وجفافا إلى درجة ملفتة للنظر وبدا أن هيوز مات قبل وصوله إلى المستشفى. بداية، أخبر الأطباء الإعلام أن سبب الوفاة قصور كلوي، لكن هذا كان بعيدا عن الحقيقة. في التشريح الذي أجريّ لتحديد أسباب وفاة هيوز وجد الأطباء دلائل كثيرة عن حياة المليادير وما اكتشفوه كان صادما. دار همس عن أن هيوز عانى إهمالا رهيبا وتعاطى المخدرات بكثافة لسنوات طويلة. تناقلت وسائل الإعلام روايات مثيرة عن حياته الأخيرة: انعزالي، غريب الأطوار، طريح الفراش بشعر طويل وأظافر نامية، مصاب بأشكال من الرهاب المكثف الشخصي والسلوك العصبي. في أنحاء أمريكا تساءل الناس كيف لشخص بهذا الثراء والوسامة والنفوذ الوصول إلى هذه النهاية المريعة؟ فماذا حدث لهيوز، الذي كان خلال حياته رجلا ذا انجازات استثنائية وتصرفات غريبة ذائعة الصيت. رجل أعمال ناجح على مدى أكثر من 50 عاما عاش هوارد هيوز تحت الأضواء، أولا كوريث جذاب لثروة وصانع أفلام بارع وقائد طائرات تجريبي صاحب أرقام قياسية، ثم كمهندس عبقري وعابث هوليودي طائش ورجل أعمال لا يرحم، وأخيرا كرجل انعزالي غريب الأطوار.. باعتباره رائدا في الملاحة الجوية حقق عدة أرقام قياسية، مما منحه شهرة عالمية، وكمنتج أفلام كان مستقلا ثائرا ينفق بسخاء ويختبر حدود أجهزة الرقابة ويطالب ب»الكمال» وقدم للعالم جين هارلو وجين راسل. وكصناعيّ ناصر التقدم في الفضاء وتكنولوجيا التجسس والأقمار الصناعية، وكممول كان الأول من ملاك الأراضي في لاس فيغاس.. لكنْ بمرور الوقت، أصبح هيوز مشهورا لأسباب أخرى، هي السلوك الغريب: قصص اختفائه، طقوس محارم «كلينكس» وطقوس مشاهدة الأفلام قد تدوم شهورا.. رجل مهووس بالجراثيم، لكنه يرفض تبديل ملابسه أو الاستحمام.. إنه رجل تكتنفه أسرار عميقة. فكيف أصبح هيوز على هذه الحال؟ تعود الإجابة إلى أدلة طفولته، فقد كانت والدته شديدة القلق من الأوساخ.. وكانت، منذ سن صغيرة، تغرس فيه الخوف والقلق والتفحص والغسل.. كانت مصابة برهاب الجراثيم.. وبسبب مخاوف أمه، عاش طفولة محمية، مع قليل من الأصدقاء.. كبر ليصبح بالغا خجولا ومنطويا لا يشعر بالراحة بين الناس، لكن النقود عوّضت الكثير من سلوكه. ولد هيوز في واحدة من أثرى أسر هيوستن، اخترع والده حفارة بترول متطورة سوّقها في العالم تحت اسم «شركة هيوز تول»، التي كانت تدر أرباحا طائلة. في سن ال15 قام برحلة ستغيّر حياته إلى الأبد: حلّق في طائرة وشعر بالراحة الحرية واندمج هوارد مع الآلات أكثر من الناس، وسيمضي في حياته وسيقوم بأعمال عظيمة كطيار ومخترع، لكن علاقته مع الناس ستكون أقل نجاحا. انتهت طفولته المحمية في سن الثامنة عشرة بعد وفاة والديه تباعا وانتزع السيطرة الكاملة على شركة «هوارد تول» وقرر ألا يكون بائع حفارات في هيوستن، بل أراد قيادة الطائرات وإنتاج أفلام في هوليود. قدّم للعالم جين هارلو عام 1930 في فيلم كتبه وأخرجه بنفسه واستغرق تصويره 3 سنوات وكلف 4 ملايين دولار وحصد نجاحا كبيرا، فأصبح أشهر منتج في هوليود وصادق العديد من الفنانات في وقت واحد وجعلهنّ عشيقاته، وأيضا، نجماتٍ ساطعات في سماء هوليوود. في العام 1932، أعلن عن تأسيس «هيوز لصناعة الطائرات»، وبعد شهر من فتحها أبوابها اختفى.. كانت تلك المرة الأولى من مرات سيختفي فيها بصورة غريبة.. لقد ذهب إلى تكساس، وباستخدام اسم مستعار، عمل عامل أمتعة في شركة «أميركن للطيران»، وفي غضون أسابيع، تمّت ترقيته إلى مساعد طيران حتى انكشف أمره وأرجع ذلك إلى رغبته في دراسة الأعمال الداخلية لشركة طيران.. عاد إلى كالفورنيا ليس لصناعة الأفلام، بل لصناعة الطائرات، فأنتج طائرة «هيوز إتس وان سيلفر» -مبتكرة، التي كانت دليلا على عبقرية هيوز في الهندسة. وخلال سنوات الحرب، استطاع الظفر بعقود عسكرية بالغة السرية لصناعة طائرات حربية. في عام 1966 باع أسهمه في شركة خطوط الطيران لكنه استثمر تلك الأموال الطائلة في اختراع مدينة اسمها لافيغاس، إذ سيكون الرجلَ الذي أوجد لاس فيغاس التي نعرفها اليوم!.. كيف ذلك؟ نزل هوارد في جناح فاخر في فندق «ديزت آن»، وبعد أسبوع أخبرته إدارة الفندق بضرورة إخلاء الجناح لزبون آخر، فكان رده بشراء الفندق وشراء أراض في المدينة وأصبح أكبر مالك لتلك الأراضي، كما اشترى محطة تلفزيونية محلية.. لكنْ خلف قصة نجاحه كرجل أعمال وملياردير تقبع شخصية رجل غريب الأطوار والسلوك. مجنون ومدمن أثناء تشريح جثته وجد الأطباء العديد من الندوب والكسور العظام في أنحاء مختلفة من جسمه، كل منها دليل لفهم سلوكه الغريب، منها ثلاث كسور في جمجمته.. أولها خلال حادث خطير يعود إلى عام 1928 حين كان يصور فيلم «هيلز أنغلز» لجين كارو، أراد سيطرة كاملة على الفيلم الذي تضمّن بعض حركات الطيران الجريئة، منها مناورة قريبة من الأرض.. رفض القيام بها محارب قديم شارك في الحرب العالمية الأولى، فقرّر القيام بها بنفسه، مخالفا تحذيرات الجميع.. سقطت الطائرة وأصيب هوارد بارتجاج في المخ.. ارتطم وجهه بلوح التحكم في قمرة القيادة، مسببا إصابة في القشرة الدماغية الأمامية المحجرية التي تقع خلف تجويف العين.. وتتحكم هذه المنطقة من الدماغ في تحديد الخطأ لدى البشر، وعندما تحرم هذه المنطقة من الأوكسجين يتعطل تمييز الإنسان للخطأ، وقد يبدأ في مراجعة تصرفاته أكثر من مرة، وهذا ما حدث لهيوز، وهو أحد الأسرار لفهم ما جعله يجن لاحقا. في العام 1935، وخلال هبوط اضطراري بطائرته في حقل شمندر، أخرج لنفسه فيلما تسجيليا كشف عدم توقف هيوز خلال حديثه عن نقر نفسه، وهو دليل على حالته النفسية المضطربة. في العام 1943 كان يقود حوامة جديدة عندما تحطمت بالقرب من بحيرة في أريزونا ومات أحد أفراد الطاقم وأصيب هيوز في الرأس، ومع هذه الإصابات المتكررة، بدأت تظهر لديه أكثر فأكثر أنماط سلوكية غريبة، منها الغسل القسري لتجنب الجراثيم والتدقيق المبالغ فيه بغاية الكمال.. فسر مرضه في الوقت الحاضر بأنه اضطراب الوسواس القهري الذي لم يكن معروفا في زمنه ومضى بلا تشخيص أو علاج، ومع تقدمه في السن أصبحت أعراضه أشد وتصرفه أكثر غرابة. خلال رحلة تجربة لطائرة جديدة في عام 1946 عملت الطائرة بشكل ممتاز لكن مبالغته في الارتفاع أدى إلى عطل في الطائرة وخسر هيوز المعركة وسقطت الطائرة فوق منزل في «بيفرلي هيلز» وظن الناس أنه سيموت لكنه عاش 30 سنة بآلام فظيعة جعلته مدمنا.. خلال التشريح وجد الأطباء علامات بدنية صادمة من الحادث المذكور: جروح خطيرة في الرأس وحروق من الدرجة الثالثة.. لقد كسر تقريبا كل ضلع في جسمه و3 فقرات في العنق وحتى يسيطر على آلامه الفظيعة، أصبح أكبر سر محمي في حياته وفي امبراطوريته بأكملها هو تعاطيه العقاقير بشكل مفرط للغاية.. سر آخر استطاع هيوز أن يخبئه عن الآخرين، وخاصة النساء اللواتي واعدهن، وهي إصابته بمرض الزهري، الذي نقل إليه من علاقة مع ممثلة شقراء في فترة الثلاثينيات. اكتُشف مرضه بعد أن أصيب بطفح جلدي ظهر على راحة يده ونصحه الطبيب بألا يصافح الناس طيلة ستة أسابيع.. ومع ذلك سيبدأ رهاب آخر سيلازمه إلى النهاية، إنه الخوف من الجراثيم. وقد أظهر التشريح عدم وجود أثار الزهري في أنسجة دماغه.. بحلول منتصف الخمسينيات، بدأت مشاكله الصحية تتزايد وتؤثر على العمل اليومي لإمبراطوريته التجارية، وسيصبح له أعداء كثيرون، بمن فيهم أشخاص من داخل إمبراطوريته نفسها.. هيوز اللا مرئي بدأ هوارد ينسحب من الحياة العامة وبدأ يرفض، بشكل قاطع، مصافحة الناس والإمساك بالمقابض. كان يستعمل المحارم (كلينكس) بكثرة.. بدأ يتصرف بجنون وبدؤوا ينادونه «العجوز».. وبدا احتمال قوي بإيداعه مصحة عقلية، لكنه فاجأ الجميع بزواجه مرة ثانية، في سرية تامة، من نجمة صغيرة تدعى جين بتيرز كان يواعدها منذ عقد، وقد برّر البعض خطوته تلك بقطع الطريق على من يريد إيداعه مصحة نفسية، لأن زوجته هي الوحيدة التي تستطيع فعل ذلك.. عادا هيوز إلى لوس أنجلس بعد إتمام مراسيم الزفاف في نيفادا، وبعد أقل من عام، دخل في واحدة من أغرب النوبات.. أخبر محيطه برغبته في مشاهدة فيلم في قاعة وحيدا، وبقي هناك يشاهد فيلما تلو الآخر لمدة 4 شهور متواصلة، وكان يدير أعماله بالهاتف ويكتفي بتناول الشكولاطة والحليب، والأغرب أنه جلس في كرسيه عاريا تماما.. تراجعت نظافته الشخصية مع امتداد إقامته، لكن في الوقت نفسه أصبح هاجس تفادي الجراثيم يستحوذ عليه.. في ربيع 1958 خرج من القاعة أخيرا.. كانت ملابسه موحلة، في حالة رثة، لم يستحمّ أو يحلق ذقنه وكان منظره مثيرا للشفقة.. وأكد المحللون النفسيون أن هيوز كان مصابا بانهيار عصبي شديد وفضّل إنشاء ملاذه الخاص بعيدا عن الجميع.. عند مغادرته قاعة العرض، نزل في فندق «بيفرلي هيلز» واستأجر غرفا كثيرة لزوجته ومساعديه وأيضا لحبيباته الكثيرات.. لقد أنفق حوالي 11 مليون دولار في ذلك الفندق وعاد إلى عادته: الجلوس في الظلام في قاعة العرض عاريا لا يغطيه سوى منديل وردي. ومع تزايد غرابة سلوكياته ظل مسيطرا على إمبراطوريته المذهلة. نهاية غامضة انهار زواج هوارد عام 1971 وصرحت زوجته عقب الطلاق بأنه مريض اجتماعي، «مُحصَّن» تماما أمام مشاعر الآخرين.. كان هيوز قد غادر ليلا صوب الباهاماس وأقال أقرب مساعديه وسلّم أموره للمافيا المرمونية الذين عزلوه عن العالم واستطاعوا السيطرة عليه وعلى كل اتصالاته وسيتمادون في استغلاله إلى درجة إبتزازه بتوقيع عقود لصالحهم مقابل منحه عقاقير.. غادر إلى لندن وقرر أن يحلق فوق سمائها عاريا.. لقد أحبّ الطيران وكان يشعر بالراحة في قمرة القيادة أكثر من وجوده على الأرض. في لندن كسر وركه ولم يعد باستطاعته المشي مجددا واعتمد على مسكنات الألم.. في العام 1976 عاد من «أكابولكو»، في المكسيك، إلى هيوستن جثة هامدة في السبعين من عمره، وكانت ظروف وفاته غير عادية دفعت نوح ديترك، أحد أقرب مساعديه الذين تخلى عنهم، إلى القول: «إن كان الإهمال التام يصلح سلاحا فالإجابة نعم». لو عاش هوارد هيوز في زمن كان بإمكان الطب معالجته من آلامه بعقاقير أفضل وتم التعرف على اضطرابه النفسي لكان العالم تذكره كواحد من عباقرة القرن العشرين وليس فقط كملياردير غريب الأطوار.