تؤكد تقارير إعلامية أن نحو 20 ألف مسلم لقوا مصرعهم في بورما على أيدي مواطنيهم من الهندوس، في حين لجأ عشرات الآلاف نحو الدول المجاورة، خصوصا بنغلادش، فرارا من آلة القتل التي تستهدف المسلمين أمام أعين السلطات الأمنية الرسمية. ورغم أن دولا عديدة، إلى جانب منظمات دولية غير حقوقية، أدانت هذه الأحداث وطالبت بإيقافها فورا، فإن حكومة بورما لم تتدخل بحزم ضد الجماعات البوذية المتطرفة، كما أنها ترفض السماح للمنظمات الدولية بإيصال المساعدات الإنسانية إلى ضحايا هذه الأحداث الدموية. يصوم مسلمو بورما هذا العام على إيقاعات التقتيل والدم. يقضون رمضانا استثنائيا في ظل الهجمات التي تستهدفهم منذ أسابيع من قبل مواطنيهم من البوذيين. وصل صيت أول الأحداث الدائرة رحاها في بورما إلى العالم الإسلامي عبر قصاصات تتحدث عن أعمال عنف، قبل أن تنتشر في مواقع التواصل الاجتماعي صور كثيرة لجثث بورميين. الصور كانت مصحوبة بتعليقات تبين أن الجثث لمسلمين قتلوا على أيدي بوذيي بورما. في المقابل، كانت تتداول على المواقع ذاتها الصور نفسها مصحوبة بتعليقات تنفي أن تكون الجثث الظاهرة فيها للمسلمين قبل أن يتأكد أن الأمر يتعلق حقيقة بآلاف المسلمين البورميين الذين قتلوا على أيدي البوذيين بعدما صدرت بيانات التنديد من العديد من عواصم العالم. بيانات صدرت من العالم الإسلامي وعدد من الدول العربية، بالإضافة إلى أوربا، تدعو إلى الوقف الفوري لأعمال العنف والقتل.
الشرارة الأولى
بدأ كابوس مسلمي بورما مع حلول شهر يوليوز الجاري. إذ انتفض البوذيون واستبد بهم الغضب بعد أن أعلنت الحكومة البورمية عزمها منح بطاقة المواطنة للسكان المسلمين فى إقليم أراكان، وهو إقليم بورمي أغلبية سكانه يدينون بالإسلام، علما أن المسلمين يشكلون نسبة 15 في المائة من إجمالي سكان بورما البالغ عددهم 55 مليون نسمة. وقد أرجعت تقارير إعلامية دولية غضبة البوذيين إلى المخاوف التي تتملكهم من أن يزداد الإسلام انتشارا في حال ما مضت الحكومة المحلية قدما نحو منح المسلمين بطاقة المواطنة التي كانوا محرومين منها، رغم أحقيتهم بذلك بوصفهم مواطنين بورميين. لم تتمكن الحكومة البورمية من التخفيف من مخاوف البوذيين. كما أنها لم تبادر إلى توعد المهددين بالعنف بالعقاب في حال لم يتقبلوا قرارات السلطات منح بطاقة المواطنة لمواطنيهم من المسلمين. وهكذا اتخذت أعمال العنف التي استهدفت المسلمين في البداية شكل فوضى عارمة لا يمكن استبيان المستهدف منها، غير أنه سرعان ما تبين أن هذه الفوضى عنف منظم هدفه المسلمون. تأكد هذا الأمر بعد أن أقدم نحو 450 بوذيا بورميا على مهاجمة حافلة كانت تقل عشرة علماء من أعلام المسلمين في بورما أثناء عودتهم من الديار السعودية بعد أن أدوا فيها مناسك العمرة. بعد إيقاف الحافلة، قام مهاجموها، استنادا إلى تقارير إعلامية، بتصفيد أيدي العلماء العشرة وتكبيل أرجلهم، قبل أن ينهالوا عليهم ضربا بالعصي إلى أن فارقوا الحياة. وقد كان هؤلاء العلماء أول ضحايا العنف الحالي في بورما. وقد برر المعتدون استهدافهم العلماء برغبتهم في الثأر والانتقام لفتاة بوذية زعموا أن شابا مسلما اغتصبها ثم قتلها.وفيما كان متوقعا أن تبادر السلطات الأمنية البورمية إلى إلقاء القبض على قاتلي العلماء المسلمين العشرة، أو على الأقل فتح تحقيق في القضية، أعلنت الشرطة المحلية إلقاء القبض على أربعة مسلمين بحجة الاشتباه فى تورطهم فى قضية الفتاة، ولم يتم إيقاف أي بوذي على خلفية قتل العلماء المسلمين العشرة. في الجمعة الأولى من شهر يوليوز الجاري، أحاط الجيش النظامي البورمي بالمساجد تحسبا لمظاهرات المسلمين احتجاجا على قتل أعلامهم من العلماء وعدم متابعة الجناة قضائيا أو حتى فتح تحقيق لكشف ملابسات أعمال العنف التي أودت بحياة أعلامهم. منع الجنود البورميون المسلمين من مغادرة المساجد جماعة عقب أدائهم صلاة الجمعة، غير أن كل احتياطات الجيش ذهبت أدراج الرياح بعد أن اندلعت اشتباكات عنيفة بمجرد خروج المسلمين من المساجد، فرد الجيش بفرض حظر تجول عام في البلاد. غير أن التقارير الصحافية الواردة من هذا البلد الآسيوي أفادت بأن حظر التجوال فرض في واقع الأمر على المسلمين فقط دون البوذيين. وتحدثت التقارير ذاتها عن عشرات، وأحيانا مئات البوذيين، يتجولون علنا وأمام أعين الأمن المحلي في الأحياء التي يقطنها المسلمون، مدججين بالسيوف والعصي ومختلف أنواع الأسلحة البيضاء. البوذيون المسلحون كانوا يحرقون منازل المسلمين ويقتلون ساكنيها. عائدة من الجحيم اسمها عائشة صلحي. فتاة بورمية مسلمة نجت من أعمال التقتيل التي تستهدف مواطنيها المسلمين. تحدثت الفتاة عن تفاصيل بشعة حول حرب وأعمال عنف تطال ملايين المسلمين هناك. أكدت عائشة أن المسلحين البوذيين يخيرون المسلمين بين شرب الخمر وأكل لحم الخنزير للنجاة بجلودهم. صلحي أكدت على أن المسلمين يختارون الموت على الخمر ولحم الخنزير. ونقل عنها قولها: «سيكتب التاريخ الإسلامي أن الموت أسهل عند شعب بورما من ارتكاب المعاصي، فكثيرا ما يتم تخييرنا بين شرب الخمر أو أكل لحم الخنزير أو الموت، وطبعا نختار الموت». وكشفت عائشة أن أهلها نزحوا جميعهم إلى دولة بنغلادش فرارا من جحيم أعمال القتل والعنف بعد أن هدم البوذيون منزلهم وقتلوا بعض أفراد العائلة وأعز صديقاتها. لم تتمالك صلحي نفسها وأجهشت بالبكاء حين تحدثت عن مأساة إحدى بنات خالتها. تعرضت هذه الفتاة إلى الاغتصاب مدة طويلة في وقت سابق. وقالت عائشة بألم وتحسر: «ابنة خالتي ظل الجيش يغتصبها لمدة ثلاثة أعوام وأنجبت طفلين لا تعرف أباً لهم». وأكدت الفتاة الناجية نفسها على أن «عشرة ملايين من المسلمين فى بورما -ميانمار حالياً- وهم 10 في المائة من السكان يعيشون في جحيم، تتعامل معهم السلطات والجيش كأنهم وباء يتوجب القضاء عليه، فما من قرية فيها مسلمون إلا تمت إبادة المسلمين فيها، حتى يسارع النظام العسكري الحاكم بوضع لوحات على بوابات هذه القرى، تشير إلى أن هذه القرية أو تلك خالية من المسلمين». كما تساءلت بحسرة عن غياب الدعم الإسلامي لمواطنيها وأسباب تأخر المنتظم الدولي في التدخل لوضع حد لأعمال القتل والتهجير التي تستهدفهم.
شلل دولي صدرت بيانات التنديد غير الرسمية الأولى من منظمات إنسانية وحقوقية دولية قبل أن تتبعها بيانات تنديد رسمية مصحوبة بدعوات إلى الوقف الفوري لأعمال العنف والقتل ضد المسلمين. وهكذا أدانت المفوضية الأوروبية المجازر التي أودت بحياة آلاف المسلمين. وقال مسؤول بالمفوضية السامية لشؤون السياسة الخارجية والدفاع في الاتحاد الأوروبي: «إن الاتحاد الأوروبي يتابع عن كثب أحداث العنف التي تستهدف الأقلية المسلمة في بورما». من جهتها، أكدت منظمة العفو الدولية في بيانات متتالية أن مسلمي بورما يتعرضون لانتهاكات على أيدي جماعات بوذية متطرفة وأمام أعين السلطات الحكومية. ولم تتردد المنظمة الدولية غير الحكومية في اتهام قوات الأمن الرسمية بالتورط في أعمال القتل التي تستهدف المسلمين عبر دعم البوذيين وإعانتهم على شن هجمات على أحياء المسلمين وقتلهم وتدمير وتخريب ممتلكاتهم. ورغم أن كثيرا من الدول تدخلت على الخط وقررت توجيه مساعدات إنسانية للمنطقة من أجل إغاثة المسلمين ضحايا أعمال العنف المسلط عليهم من قبل البوذيين، فإن هذه المساعدات لم تجد بعد طريقها إلى بورما. وفي هذا السياق، أوضح مسؤولون في منظمات حقوقية عالمية، ضمنها هيئات من العالم الإسلامي، أن حكومة بورما رفضت التعاون معها والسماح لها بإدخال بعثات تقص، رغم كافة الجهود التي بذلتها هذه المنظمات على جميع الأصعدة من أجل التمكن من الولوج إلى الأراضي البورمية والوقوف على حقيقة الوضع الإنساني بها. وأمام قطع الطريق على المساعدات الإنسانية وعدم تمكن الجهود الدولية المحتشمة من حمل السلطات البورمية على التدخل بحزم لوضع حد لعمليات القتل المستهدفة المسلمين، قرر آلاف المسلمين البورميين النزوح نحو البلدان المجاورة. وكثير منهم توجهوا نحو بنغلادش، في الوقت الذي ينزح آلاف آخرون نحو تايلاند. وتقول تقارير إعلامية إن مئات النازحين منهم يلقون مصرعهم في عرض البحر في طريقهم إلى التايلاند أو بنغلادش وغيرهما من الدول المجاورة. جدير بالذكر أن هذه الحملة التي تستهدف المسلمين في بورما ليست الأولى من نوعها في تاريخ هذا البلد الآسيوي. إذ سبق أن شن هندوس وبوذيون ينشطون في جماعة متطرفة تحمل اسم «ماغ» حملة إبادة ضد مواطنيهم المسلمين في السنوات الماضية. وقتلت هذه الجماعة ألف مسلم وتسببت في جرح 5 آلاف منهم وخطفت منهم نحو 3 آلاف. كما قامت الجماعة ذاتها بهدم 20 قرية يقطنها مسلمون وألفي منزل، وهو ما أجبر 300 ألف مسلم على النزوح عن بورما خوفا من الموت على أيدي عناصر «ماغ» المتطرفة.