أول ما يتمثل في المشاركة الشعبية حق الشعب في إقرار التشريعات التي تنظم الحياة العامة ووضع ضوابطها الملزمة للحكام والمحكومين، وعلى رأس هذه التشريعات «الدستور» الذي يبين هيكل السلطة ويحدد المؤسسات المختلفة التي تدير أمور الجماعة، بتفويض من الشعب، صاحب السيادة؛ وتوصف هذه السلطة التي تتولى وضع الدستور بكونها السلطة التأسيسية، تمييزا لها عن السلطات التي تنشئها نصوص الدستور والتي تعتبر هيئات «مؤسََّسة (بفتح السين)». كما تمثل -بعد ذلك- في وضع التشريعات التي تفصل ما أجمله الدستور «القوانين التنظيمية»، وحقه في متابعة نشاط السلطة التنفيذية التي يتعامل معها أفراد الشعب في حياتهم اليومية والمنبثقة حكما من اختيارهم واقتراعهم العام التفويضي، كما تشمل أخيرا حق الأفراد في الالتجاء إلى القضاء المستقل عن سائر السلطات، لتصحيح ما قد تقع فيه السلطة التشريعية أو إحدى الجهات الإدارية المكونة للسلطة التنفيذية من خروج عن حدودها الدستورية «القضاء الإداري»؛ كما تشمل حق الأفراد في طلب التعويض المادي والأدبي عما عساه يلحق هؤلاء الأفراد من أضرار مترتبة عن هذا الخروج. وتشمل الآليات الأساسية والفعالة لوضع المشاركة الشعبية موضع التطبيق العملي عدة أمور أهمها: 1 - بناء نظام انتخابي يكفل وصول الأفراد والجماعات إلى صناديق الانتخاب والاستفتاء، وممارسة حرية الاختيار والإدلاء بالرأي في البدائل المطروحة، بعيدا عن كل صور التدخل من هيئات الحكم في سير عملية الانتخاب أو سعيا إلى التحكم في نتيجتها، ترغيبا أو ترهيبا أو تزويرا سافرا أو مستترا لإدارة الناخبين واختيارهم.. ومن هنا، كانت الرقابة القضائية على العملية الانتخابية وإجراءاتها في مراحلها المختلفة ضمانا أساسيا لجدية المشاركة الشعبية وفاعليتها.. بغيرها تؤول «المشاركة الشعبية» إلى شعار كاذب يجهض القاعدة الأساس التي يقوم عليها كل نظام ديمقراطي؛ 2 - لقد شهدت العقود الأخيرة تقدما ملحوظا في مدى مشاركة منظمات المجتمع المدني في الرقابة على أداء السلطات العمومية، وبالتحديد في مراقبة مدى نزاهة العملية الانتخابية وشفافيتها؛ كما شهدت تقدما نسبيا موازيا في السماح لمنظمات حقوقية بمراقبة تلك الانتخابات، وإن كانت بعض النظم في المنطقة العربية لا تزال عاجزة عن فهم أسباب هذا التطور ولا تزال -لذلك- ممتنعة عن قبوله زعما بأن المراقبتين الوطنية والدولية معا تمثلان تدخلا غير مقبول في الشؤون الدولتية الداخلية لتلك الدول التي يراد إخضاعها لتلك الرقابة؛ وهو اعتراض نتوقع زواله في مستقبل غير بعيد -خصوصا- مع انفتاح المنظومة الحقوقية الدولية في إطار ميزان القوى الجديد قيد التشكل والمتجه صوب الاتفاق على أن تكون هذه الرقابة السياسية متبادلة يتم التراضي عليها في إطار اتفاقات دولية ثنائية أو جماعية. 2 - سيادة القانون وسمو الدستور: وإذا كان القانون الذي تقوم الممارسة الديمقراطية على سيادته وإنفاذ مضمونه هو -وفقا للتعريف المستقر في سائر النظم السياسية والدستورية- «مجموعة القواعد المجردة التي تنظم العلاقات بين الأفراد والمؤسسات المختلفة التي تمارس السلطة داخل المجتمع»، فإن دولة القانون والحق هي تلك التي تكون الحكومة فيها «حكومة قانون لا حكومة أشخاص تعلو إرادتهم على إرادة المشرع وما تقرره القوانين»؛ وهو المبدأ الذي عبر عنه الفقه الدستوري، في كثير من الدول الحديثة، بأن النظام الديمقراطي لا تكتمل أركانه الأساسية إلا إذا كانت الحكومة، قانونيا وفعليا، حكومة تخضع جميع قراراتها وتصرفاتها لقواعد قانونية مقررة سلفا بعيدا عن مشيئة من يتصادف شغلهم لمواقع السلطة السياسية في الجماعة. ومن العناصر الأساسية الضامنة لسيادة القانون أن يكون مضمون القانون محققا لحد أدنى من الاستقرار والثبات في حياة الناس ومعاملاتهم وعلاقاتهم، فلا يفاجئهم التشريع بقواعد لم تكن قائمة ولا متوقعة وقت تصرفهم.. وإذا كان التعبير القانوني لهذا المبدأ هو ما يسميه التشريع والفقه «مبدأ عدم رجعية القانون»، فإن التسمية السياسية الدقيقة له ألا يصدر القانون مفاجئا للمخاطبين به، وأن يكون هؤلاء المخاطبون «متوقعين» للقاعدة القانونية وقادرين على ترتيب أوضاعهم وتنظيم مستقبلهم على أساسها، وإلا اختل نظام المجتمع كله وصارت علاقة الأفراد بالقانون ونظرتهم إليه أشبه بنظرة «الطير إلى الصائد منها بنظرة الجندي القائد». ومن الضروري أن ننبه إلى أن هذا العنصر المهم من عناصر سيادة القانون يقتضي -على سبيل المثال- أن يمتد الالتزام به إلى السلطة القضائية وهي تنظر في طلبات فسخ العقود أو إبطالها، وأن تلتفت إلى أن مفاجأة أصحاب المشروعات وأصحاب الحقوق بإبطال عقود وتصرفات مضت على إبرامها والعمل بنصوصها سنوات طويلة نتيجتها اللازمة أن يهتز كيانهم الاقتصادي، وأن تحيط بهم قيود ومحاذير توقعهم في شباك منصوبة وهم يرون ما بنوه في سنوات في ظل أوضاع وضوابط تشريعية موضوعية أو إجرائية ينهار أمام أعينهم انهيارا يتجاوزهم إلى مئات وآلاف ممن تعاملوا معهم وارتبطوا بهم. وهذا كله هو ما يعبر عنه في الفقهين الدستوري والقانوني بمبدأ ضرورة إمكان التوقع في التعامل مع القوانين. ويستمر نظر الدارسين إلى القانون الدستوري المقارن على أن هذا المبدأ الأساسي العام -مبدأ سيادة القانون- قد عبر عنه في إطار مرجعيتنا الحضارية الجامعة قول الله تعالى مخاطبا نبيه (صلى الله عليه وسلم): «فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر»، وهو ما يعنى أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) وكل حاكم من بعده يكشف بما يصدره من قرارات عن القواعد القانونية الملزمة للأفراد، ولا ينشئها من عنده؛ وأكدت آيات قرآنية أخرى هذا المبدأ الدستوري كما في قوله تعالى: «من يطع الرسول فقد أطاع الله». كما يكرس الوضوح في إقرار هذا المبدأ «الجوهري» ما يشير إلى أن الحاكم، وإن كان له دور في التشريع، فإنه يظل -طوال الوقت- ملتزما بطاعة هذا التشريع وتنفيذ أحكامه، شأنه في ذلك شأن سائر الناس الذين يتوجه إليهم التشريع بالخطاب الملزم ذلك: «ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين»، سورة الحاقة الآيات من 44 إلى 46. ويتفرع عن سيادة القانون ويرتبط بها ارتباطا وثيقا مبدأ آخر مؤداه «توفير المعاملة القانونية والفعلية المتماثلة للأوضاع المتماثلة، بحيث يمتنع التمييز -أي تمييز- بين أصحاب تلك الأوضاع المتماثلة»، وهو المعنى الذي عبر عنه الفقه الدستوري والقانوني في كثير من الدول بمبدأ «الحماية القانونية المتكافئة»، وهو ما يترتب عنه بطلان أي تمييز قانوني أو فعلي يستند إلى ما يخالف «أصل المساواة بين جميع أفراد البشر»، ومن قبيله إقامة التفرقة والتمييز على أساس من الأصل أو الجنس أو اللون أو الدين أو العقيدة». وهذا التفسير الواضح لمبدأ سيادة القانون يتممه ما استقر عليه الفقه والقضاء في أكثر الدول الديمقراطية المعاصرة من أن القيمة الحقيقية لهذا المبدأ الذي يعبر عنه بمبدأ «المشروعية» أو خضوع جميع أعمال الدولة ومؤسساتها للقانون، هذه القيمة لا تتحقق ولا تكتمل إلا إذا قامت على إنفاذها والتحقق من احترامها سلطة قضائية مستقلة ترد كل محاولة للخروج عن أحكام القانون ومضمون قواعده. والواقع أن هناك علاقة تأثير وتأثر متبادلين بين العناصر الثلاثة التي يقوم عليها النظام الديمقراطي، وهي: مبدأ المشاركة الشعبية ومبدأ سيادة القانون ومبدأ توفير الحقوق والحريات وما يحيط به من ضمانات تعزز الاستقرار السياسي والسلم الاجتماعي، فإذا غابت الديمقراطية أو أجهضت بتزوير الانتخابات أو تزييف إرادة الناخبين وحريتهم بالضغط عليهم، ترغيبا أو ترهيبا، وإذا جرى تمييز قانوني أو فقهي غير جائز، تعذر قيام سيادة القانون بعناصرها التي عددناها، ووجدت السلطة التنفيذية مداخل وثغرات تدخل منها إلى فرض إرادتها على أفراد المجتمع جميعا. 3 - دور «الحريات» في تحقيق النهضة الحضارية للامة ومصالحة الدولة مع المجتمع: أما العنصر أو المكون الثالث للنظام الديمقراطي فهو تصحيح النظر إلى دور «الحريات» في تحقيق نهضة المجتمع، وتوظيف علاقات التنافس والتدافع بين مؤسسات الدولة وأفراد المجتمع لتحقيق تلك النهضة التي يتحقق بها في النهاية تقدم المجتمع كله. ومن الأمانة الواجبة أن نقرر أن الثقافة السياسية السائدة في أكثر الدول العربية والإسلامية لم تلتفت إلى أهمية الدور الذي تلعبه الحريات العامة، وفي مقدمتها حرية الاعتقاد وما يتبعها من حرية التعبير في تحقيق الاستقرار والسلم الاجتماعيين، فضلا عن تحقيق التنمية بجوانبها السياسية والاجتماعية والاقتصادية. نعم.. إن خطاب أكثر الحكام والساسة والأكاديميين وقادة الأحزاب والجماعات السياسية في العالم العربي كله لم يخل أبدا من عبارات تدعي الانحياز إلى الحرية وإلى سيادة القانون بصورها المختلفة، ولكن الممارسات العملية والوجدان الجماعي في تلك الدول ظل -معظم الوقت- مكتفيا بإعلان هذا الانحياز دون أن يترجمه إلى مواقف عملية من شأنها أن تحقق ثمراته الكبرى النافعة، بل إن سنوات القهر والاستبداد التي وضعت كثيرا من الحكام في مقام التقديس والارتفاع فوق كل صور المساءلة قد دفعت كثيرا من المحكومين إلى حالة من حالات الدفاع عن النفس عن طريق نفاق أولئك الحكام والغضاض عن خطاياهم وأخطائهم فسكتوا مضطرين عن كشف الظلم الذي تعرض له آلاف منهم، كما سكتوا عن نقد سياسات كان مقطوعا أنها تفسد المجتمع وتغتال فرصته في التقدم وتحقيق النهضة.. كما تؤجج نيران الاستقطاب الحاد بين فئاته المختلفة. وعلى الساحة الدولية، أدى هذا كله إلى تهميش دور المغرب وتراجعه في العوالم الثلاثة التي ينتمي إليها: العالم العربي والعالم الإسلامي والقارة الإفريقية، وآن لنا جميعا أن ندرك أن هذه النتائج الكارثية ترتبط ارتباطا مباشرا بإهدار قيمة الحرية وتجاهل وظيفتها في ترشيد حركية المجتمع نحو مزيد من النهضة والتقدم في ظل نظام سياسي قانوني ثابت الجذور ينزل عند حكمه جميع الحكام والمحكومين. باحث في العلوم السياسية عضو المجلس الوطني لحزب العدالة والتنمية