كشفت العديد من ملفات النصب والاحتيال التي شهدتها محاكم جهة سوس ماسة درعة وتلك التي يتداولها الناس في المقاهي والمجالس الخاصة أن محترفي النصب والاحتيال قاموا بتقمص جميع الأدوار، بدءاً بممثلي الشركات، مرورا بأعوان السلطة وصولا إلى انتحال صفة قضاة وأشخاص مقربين من القصر الملكي.. كما انتحل بعضهم صفة «مخزني» وآخر صفة قائد وآخرون صفة صحافيين وغيرها من المناصب والصفات من أجل الوصول إلى مبتغاهم وسلب المنصوب عليهم أموالهم وإيهامهم بتقديم خدمات عجزوا عن بلوغها بصفتهم «مواطنين» بسطاء مغلوبين على أمرهم.. ويتّضح، من خلال التقارير الإعلامية التي تناولت ظاهرة النصب والاحتيال ومن بعض الإحصائيات حول الجنح المرتكَبة في الجهة تنامي هذه الظاهرة بشكل لافت في جهة سوس ماسة، الأمر الذي حذا بنا إلى التوقف عند هذه الظاهرة ومحاولة ملامستها من كافة الجوانب القانونية والاجتماعية من أجل فهم ظروف تنامي الظاهرة والأسباب التي ساهمت في تفاقمها. من القصص الغريبة للنصب والاحتيال في جهة سوس ماسة درعة تلك التي وردت في محاضر الدرك الملكي أثناء التحقيق في واقعة التزوير التي اتُّهم فيها رئيس جماعة إسافن في إقليم طاطا بأنه حصل على شهادة مدرسية مُزوَّرة من أجل الفوز برئاسة الجماعة القروية، حيث صرح ابن شيخ مدرسة الرحمان العتيقة، الشيخ الطيب المنذر، والقائم بأعمال الحراسة العامة فيها أن ثلاثة أشخاص قدِموا إلى المدرسة وقدّموا أنفسهم على أن واحدا منهم «وكيل للملك» والثاني «محام» في هيئة أكادير والثالث من «شرفاء» القصر الملكي، حيث كشف عن بطاقة تحمل خطين أحمر وأخضر، دون أن يُمكّنهما من الاطلاع عليها.. وأخبروا القيمين على المدرسة أن الشيخ يوجد رهن الاعتقال في السجن المحلي لإنزكان بسبب تسليمه شهادة مزورة لرئيس جماعة «إسافن» وطالبوا منهما أن يسلموهما شهادة تراجع وسحب هذه الشهادة من أجل التمكن من «إخراج» الشيخ من السجن.. كما طالبهما الأشخاص المنتحلون للصفات سالفة الذكر بمبلغ 5000 درهم لمواجهة مصاريف الدعوى، إلا أن عدم توفرها على هذا المبلغ في تلك اللحظة جعلهما يقتصران على تسليمهم مبلغ 2000 درهم، وبعد التدقيق والتحري في الموضوع، اكتشف الشخصان أنهما كانا موضوع نصب واحتيال من طرف الأشخاص المذكورين. وكان الغرض الذي دفع منتحلي هذه الصفات سالفة الذكر إلى الطعن في أهلية رئيس الجماعة في تقلد منصب رئيس الجماعة، حيث تشبث جميع الأشخاص برغبتهم في الطعن في أهلية هذا الشخص لهذا المنصب وعملوا جاهدين على إثبات ذلك. الوالي بوسعيد والاحتيال.. عندما كان الوالي بوسعيد يتحدث عن حملته ضد البناء العشوائي، اختار أن يطلق على ضحايا عملية الهدم «ضحايا عملية نصب واحتيال». وشدد على أن المتورطين في البناء العشوائي تعرضوا لأكبر عملية نصب واحتيال وطالبهم بأن يقدموا شكاية لدى النيابة العامة من أجل أن تأخذ العدالة مجراها للوصول إلى المتورطين الحقيقين ممن وصفهم ب«المافيوزيين» الذين يريدون الاغتناء على حساب الملك العمومية وعلى حساب الفقراء من ذوي الحاجة إلى السكن. وقد كشفت التحريات، التي ما تزال في بدايتها بهذا الشأن، تورط مجموعة من المستشارين والموظفين العاملين في أقسام تصحيح الإمضاء داخل كل من الجماعة الحضرية لأكادير وبلدية إنزكان، حيث صدرت أحكام قضائية في الموضوع. كما حلت لجن مركزية للتحقيق مع الأشخاص الذين قاموا بإعداد أراضٍ وتجزئيها بطريقة غير قانونية، حيث يرتقَب أن تتم متابعة نافذين في الموضوع. وبذلك، شكّل البناء العشوائي فرصة سانحة لقبلية النصابين، الذين استغلوا حاجة شريحة عريضة إلى السكن فأغروهم بعقود ملكية غير دقيقة وبغيرها من أساليب الخداع لتمكينهم من أراضٍ لا يملكونها، وهو ما خلّف أعدادا كبيرة من المتضررين الذين خسروا مدخراتهم دون تحقيق حلمهم في سكن يعفيهم من المعاناة مع مصاريف «الكراء». المقاولون والوجه الآخر للاحتيال تشكو شريحة واسعة من المقاولين من عمليات نصب واحتيال يتعرضون لها من طرف مجموعة من الموظفين في مختلف الإدارات، وخاصة أثناء إعداد دفاتر تحملات بعض المشاريع، حيث يتم تضخيم أحد البنود الواردة في دفتر التحملات من أجل رفع التقدير المالي الذي يقدمه المنافسون، في حين يطلب من المقاول المحظوظ ألا يعبئ هذا البند أصلا أو يقوم بتعبئته بمبلغ بسيط، لأن «الخدمة» الواردة في هذا البند يمكن الاستغناء عنها أصلا في أول مراجعة تتم لدفتر التحملات أو أثناء التنفيذ ليتم إقصاء المقاولين غير المرغوب فيهم بطريقة قانونية، والتي لا يستطيع أي أحد أن يحتج عليها، فضلا على الابتزاز الذي يمارس أثناء الأداء، حيث يظل ملف المقاولة مركونا في أدراج الخزينة العامة دون تمريره للتسوية وصرف المستحقات لأصحابها. وبمجرد أن يعبر المقاول عن امتعاضه أو احتجاجه يتم تصنيفه على أنه مقاول «مشاغب» ويتم إقصائه من كل الصفقات.
أجانب ضمن «خطط» المحتالين لم يقتصر النصب الاحتيال في جهة سوس ماسة على المغاربة فقط، بل كانت الجهة مسرحا للعديد من عمليات النصب والاحتيال، بدءاً بالدولار المزور الذي استقدمه مجموعة من الأفارقة وأسقطوا في شباكهم العديد من الضحايا، الذين أغراهم «الطمع» عندما رأوا بأم أعينهم مئات الأوراق المالية من فئة «الدولار».. إلا أنهم اكتشفوا، بعد ذلك، أن هذه الأوراق المالية مغشوشة. وطال النصب الأبناك المغربية أيضا، حيث تعرضت مجموعة من الحسابات البنكية للاختلاس من طرف عصابات قادمة من أروبا الشرقية، خاصة من رومانيا، إذ تعمد هذه العصابة إلى استعمال بطائق ممغنطة مزورة من أجل الاستيلاء على مدخرات أشخاص تبيّنَ أثناء البحث الذي أجرته مصالح الشرطة أن أغلبها لأجانب، كما أن المبالغ المختلَسة كانت جد مهمة. السياحة والنصب تعددت الشكايات التي رفعها مجموعة من الأشخاص، بعد أن اكتشفوا أن شركة متخصصة في التسويق السياحي قد «باعتهم الوهم» مقابل مبالغ مالية تبتدأ من 1000 درهم كحد أدنى، لتصل إلى 25 ألف درهم. وتباغت الشركة الزبناء بأن تطرح عليهم أسئلة بسيطة (حتى يتمكنوا من «الإجابة» عنها)، وبعد ذلك، تخبرهم أنهم فازوا بإقامة لمدة ثلاثة أيام في أحد الفنادق الفاخرة من اختيارهم وفي مدن يختارونها.. بعد ذلك، يتم استدعائهم إلى مقر الشركة لتتم مطالبتهم بالمبالغ المالية المذكورة، كل حسب «العرض» الذي يقبل به. لكن الغريب في هذه النازلة أن هذه الشركات تعمل بشكل رسمي وبمرور الوقت، يكثر الأشخاص الذين يكونون عرضة للنصب من طرفها، في حين يتحدث آخرون عن كونهم استفادوا فعبياً من هذه الرحلات، لتبقى هذه الشركات التي تقدم نفسها على أنها سياحية لغزا محيّرا. ويحكي أحد الأشخاص ممن مروا من «تجربة» هذه الشركة أنه لم يتنبه إلى الأمر إلا بعد أن سلم ممثلي الشركة شيكا بمبلغ مالي يقدر ب3000 درهم، وبعد عودته إلى البيت، انتبه إلى أنه وقع ضحية نصب، ليعود إلى الفندق الذي تم استقباله فيه رفقة أسرته، مطالبا باسترداد الشيك، إلا أن القائمين على الشركة رفضوا ذلك، مما حذا به إلى اللجوء إلى وسائله الخاصة، الأمر الذي لم يبق معه أمام أصحاب الشركة إلا أن يعيدوا المبلغ إلى صاحبه لتفادي ما لا تحمد عقباه.
احتيال لإسقاط النفقة من الملفات المثيرة التي أثارت العديد من ردود الفعل ملفات وصل فيها النصب والاحتيال إلى حدود بعض الحقوق المشروعة، كما وقع في ملف زوجين قررا وضع حد لعلاقة زواج شرعية كانت نتيجتها طفلة استحقت، بموجب نص حكم قضائي، النفقة إلا أن الزوج ربما كبرت في نفسه أن تحظى هذه الطفلة بمستحقاتها، فقام يفكر ويدبر من أجل إسقاط هذه النفقة.. وربما أشار إليه بعض العارفين بالنصب والاحتيال أن الوسيلة الوحيد القانونية الموجبة لسقوط النفقة هي تورط الزوجة في الخيانة الزوجية.. فقام الزوج بتنفيذ «الخطة». حيث اتفق مع شخصين، أحدهما رجل مسن، من أجل التحايل على الزوجة و«ضبطها» في حالة تلبُّس. ادعى الشخص الأول أنه مارس الجنس مع الزوجة، إلا أنه وأثناء الاستماع إليهما من طرف الشرطة القضائية، اعترفا بأنهما اتفقا مع الزوج من أجل التحايل على طليقته، من أجل ضبطها في حالة «تلبس». وبالتالي إسقاط النفقة عنها.. فاعترف الأول بأنه تلقى مقابل ذلك مبلغ 2000 درهم، بينما تلقّى الثاني تلقى وعدا بتشغيل ابنته في إحدى المؤسسات السياحية من طرف الزوج، وأقر بأن التصريحات التي أدلى بها في قرص مدمج لفائدة الزوج، والتي يحكي فيها عن تفاصيل معاشرة جنسية للطليقة مجرد إرضاء للزوج من أجل الحصول على وضيفة لابنته، ليتم الحكم عليها بشهرين حبسا نافذة. وللصحافة نصيب تفتقت «عبقرية» أحد المحسوبين على الجسم الصحافي عن فكرة «عبقرية » للنصب والاحتيال على صاحب مصبنة في إنزكان، حيث اغتنم «الصحافي النصاب» فرصة توفره على لائحة لتوقيعات مجموعة من ساكنة أحد الدوواير في جماعة «أمسكرود». فقام بعرضها على صاحب المصبنة، مدعيا أنها للسكان المجاورين للمصبنة التي يعتزم فتحها وقام بتهديده بنشرها إن هو لم يُمكّنه من مبلغ 5000 درهم، وأوهمه أن نشر العريضة سيعرقل حصوله على التراخيص اللازمة لفتح المصبنة.. ولم يكن من صاحب المصبنة إلا أن خضع لمساومة «الصحافي النصاب». ولكنه أخبر الشرطة بتفاصيل القضية وأعد مبلغ 1000 درهم وحدد مع «الصحافي» موعدا داخل إحدى المقاهي المعروفة في إنزكان، وعندما التقى صاحب المصبنة ب«الصحفي النصاب» أخبره أن المبلغ المتوفر حاليا هو 1000 درهم، فما كان من «النصاب» إلا أن قبل بتسلّمه، ومباشرة بعد ذلك، تم القبض عليه، ليتم الحكم عليه بسنة ونصف حبسا نافذة.. لم تكن هذه الحادثة وحدها التي تم فيها النصب والاحتيال باسم الصحافة، بل إن شابين استغلا برنامجا إذاعيا يعمل على جمع المساهمات لبعض الحالات الإجتماعية فقاما بإيهام أحد التجار في مدينة أكادير بأنهما يعملان لفائدة البرنامج وبأنهما على صلة بالقائمين على البرنامج ويقومان بجمع التبرعات للحالات الاجتماعية التي تُعرَض على البرنامج، إلا أن أحد الذين تم الاتصال بهم من أجل ذلك تنبه إلى الأمر، ليخبر الشرطة، حيث تم الإيقاع بهما. النصب على المسنين من القضايا المؤثرة التي ارتبطت بالنصب والاحتيال في جهة سوس ماسة درعة ما تعرض له مسن ومقاوم سابق في جيش التحرير، في عقده التاسع. تعرض هذا الشخص لأخطر عملية نصب واحتيال وسرقة، ففي سنة 1999، أصيب بجلطة دماغية نتج عنها ضعف عقلي وبدني، وقتها، كانت زوجته هي التي ترعاه وتساعده وتلازمه في مرضه، لكنْ مع توالي الأيام، تقرب إليهم أخوان شابان من نفس المنطقة، مدعيين رغبتهما بمساعدته في وضعه الصحي وحاجته الملحة إلى الغير في استخلاص راتب تقاعده من مؤسسة «بريد المغرب». ونظرا لهذا الوضع، فكر الأخوان في أساليب احتيالية للاستيلاء على أمواله، وعند زيارتهم له في منزله بشكل متكرر من أجل كسب ثقته والاطّلاع على أمواله ووثائقه الشخصية، قاما في سنة 2002 بإقناعه بإنجاز جرد لممتلكاته ليتمكنا من معرفة مقدار ثروته العقارية. كما قاما بدفعه إلى التوقيع على عقد استمرار قصد بيع عقار يملكه مع الورثة مساحته 4 هكتارات بتكلفة قدرها 530.000.00 درهم.. ولم ينته «طمع» هذين الشقيقين عند هذا الحد، بل عمدا، مرة أخرى، إلى النصب والاحتيال، بدفع الشيخ المريض إلى تفويت منزله الذي يقطنه، مع جل أملاكه وأملاك غيره من الورثة، وهي على الشكل التالي: الأول عقد هيبة عرفية تقدر مساحته ب2500 متر، بمقدار 100.000 درهم، والثاني عقد بيع عرفي يملك بموجبه منزلا فقط وهكتارين للورثة، بمقدار 100.000 درهم، والثالث عقد بيع عرفي يملك المسن بموجبه هكتارين ليسا في ملكه، بمقدار 100.000 درهم.. والغريب في هذه «العقود» المبرمة، والتي تم النصب بها لم يملك فيها هذا الرجل إلا الهيبة والمنزل فقط، أما الباقي فهو للورثة والغير، كما أن تاريخ إمضاء هذه العقود تم في يوم واحد (17/11/2008)... كما تمكن الشابان من إقناع الرجل الضرير بالسكن معه في منزله ل«الانفراد به». ونظرا لوضعه الصحي فقد كانا يحتجزانه في غرفة مظلمة ويقومان بتجويعه قصد التخلص منه إلا، ان الألطاف الإلهية شاءت حضور أحد الجيران لزيارته، حيث اطّلع على معاناته ليتصل ببعض أفراد عائلة الرجل ويخبرهم بأحواله المزرية، والتي استدعت رفع شكاية لدى وكيل الملك لدى ابتدائية إنزكان، فأمر بفتح تحقيق في الموضوع، ليتم البحث وتقديم الجناة أمام الضابطة من أجل ارتكابهما جنح النصب والاحتيال والسرقة وخيانة الأمانة والتصرف في مال مشترك بسوء نية، فتوبع الظنينان أمام نفس المحكمة بالتهم ذاتها في جلسة علنية، وحكم عليهما بالسجن سنتين حبسا نافدا وبغرامة مالية 1000 درهم وتعوض مدني مقداره 150.000 درهم، مع الصائر
النصب والاحتيال.. «فن» من فنون الإجرام النصب والاحتيال جريمة تطرّقَ لها المشرع المغربي في الفرع الثاني من الباب التاسع المتعلق بالجنايات والجنح المتعلقة بالأموال من مجموعة القانون الجنائي المغربي، المنفذ بمقتضى الظهير الشريف رقم 413/59/1 بالمصادقة على القانوني الجنائي الصادر بتاريخ 26 نونبر 1962. وجريمة النصب والاحتيال منصوص عليها في الفصل ال540 من القانون الجنائي، وهي، كغيرها من الجرائم، تنبني على ثلاثة أركان، الركن المادي والركن المعنوي والركن القانوني. وقبل توضيح هذه الأركان، لا بد من توضيح بسيط يتعلق أساسا بطبيعة هذه الجريمة، التي تعتبر جريمة مادية لا شكلية، وتتميز بذلك بالسلوك المتعدد فيها، أي إلى المضمون النفسي لمرتكب الفعل، المتمثل في القيام بفعل الاحتيال على الغير، إلى جانب السلوك المادي الملموس والمتمثل في الوصول إلى تحقيق المنفعة المادية، أي الاستيلاء على مال الغير. وهذه الجريمة، كغيرها من الجرائم، قد تكون مُرتكَبة من إما بواسطة فاعل أصلي وحيد أو عدة فاعلين، كما قد يكون لها، إلى جانب الفاعل الأصلي، مساهم أو مشارك أو عدد من هؤلاء، ويكون هذا التصور بطريقة الاتفاق أو التحريض أو المساعدة. ومعلوم أن هذه الجريمة، كغيرها من الجرائم، حسب ما تعمق فيه شراح السلوك الإجرامي وواضعو نظرياته، أن للمجني عليه دورا في وقوع هذه الجريمة، فغالبا ما يستغل الفاعل، الذي قد تتعدد صوره، من شخص عادي أو مؤسسة أو شركة أو غيرها إلى إيهام المجني عليه ببعض المنافع المالية والامتيازات التي قد يحصل عليها من خلال الوسائل التي يستعملها كطرق احتيالية لإيقاعه في الغلط والدفع به إلى الوقوع في شباكها، فالمجني عليه في هذه الحالة يسعى إما إلى منفعة مادية أو امتياز أو صفقة أو مرتبة، فغالبا ما يكون الجاني خبيرا بنفسية المُتعامَل معه، أي المجني عليه، لذلك اعتبر بعض فقهاء القانون أن النصب ليس جريمة فقط، بل فن من فنون الإجرام لتعدد ما يبدعه الفاعل وما يخترعه. وعُرفِت جريمة النصب والاحتيال في كل زمان ومكان وتاريخ. ويشهد علم الإجرام بالوقائع الكثيرة والفريدة للعديد منها، وأظن أن انتشار هذه الجريمة في جهة سوس ماسة يظهر من خلال كثرة الملفات المعروضة على القضاء الجنحي بهذا الخصوص وكذلك من خلال إحصائيات النيابة العامة والشرطة القضائية ومراكز القضائية للدرك الملكي. والملاحظة التي يمكن تسجيلها بهذا الشأن هي أنها تؤشر فعلا على الارتفاع المهول لجرائم النصب والاحتيال، بمختلف صورها، والتي تتصدر فيها الشيكات بدون رصيد المرتبة الأولى، متبوعة ببقية أشكال الجنح. وتعود أساب هذا الارتفاع إلى استهداف فئات اجتماعية معينة من المواطنين، لحاجاتهم الأساسية إلى بعض متطلبات الحياة، كالحق في السكن مثلا، حيث يعمد النصابون إلى «بيع الأراضي» للناس بواسطة وثائق مزورة، كما أن بعض الأشخاص الباحثين عن الربح السريع غالبا ما يسقطون ضحية نصب من طرف من يبيعونهم الوهم. الحسين بكار السباعي عضو هيئة المحامين في أكادير
هناك جرائم نصب صادرة عن عصابات منظمة وخطيرة تصدرت جرائم النصب والاحتيال موقعا متقدما في ترتيب الجرائم الخطيرة التي يعاني منها المجتمع المغربي عامة والسوسي خاصة. وتتفق هذه الجرائم، مع اختلاف صورها، مع غيرها، في التمويه والخداع والتغرير.. بسبب اتصاف الضحايا بالبساطة والسذاجة، الناتجتين عن خلل كبير في القيّم الثقافة والتربوية، إلى جانب وجود نفوس «شريرة» لا يهنأ لها المقام، وهي ترى المال بين أيدي هؤلاء البسطاء، ولو كان من عرق جبينهم وكدحهم.. ونظراً إلى أهمية هذا الموضوع، فقد حرصنا في فرع المركز المغربي لحقوق الإنسان في إنزكان على تسليط الضوء عليه وتناول جوانبه المختلفة ومناقشتها قصد توعية المواطنين بالظاهرة وخطورتها. وقد وقفنا، في المركز، على بعض جرائم النصب المرتبطة بعصابات منظمة وعلى أخرى ترتبط بأشخاص عاديين يمارسون هذه الأعمال بشكل فردي وبأساليب مبتكرة وخطيرة في النصب والاحتيال، وهي القضايا التي أصبحت تتناسل وتتعدد صورها حسب موضوع الشكايات والملتمسات في شأن الدعم والمساندة التي ترد علينا والتي لا يمكن حصرها، والتي نشتغل عليها بمساعدة مستشارين قانونيين في المركز المغربي لحقوق الإنسان من خلال آليات عملنا التي أتيحت لنا من خلال الاطلاع والبحث ومتابعة جلسات المحاكمة والتقصي عن الأحداث التي ترتكب بشأن جريمة النصب والاحتيال وانتهاكات حقوق الإنسان . وتشترك جريمتا النصب والسرقة في كونهما تعتديان على ملك الغير، إلا أنهما تختلفان في الوسائل المُستخدَمة لارتكاب الجريمة، فالسارق يستخدم العنف والتهديد لسرقة ضحاياه، بينما يوظف النصاب الحيل و«الدهاء» في الغالب للوصول إلى مبتغاه. وكثيرا ما يلتجئ النصابون إلى حيّل ومقالب ذكية وماكرة، تجعلهم يكسبون ثقة وطمأنينة ضحاياهم ويتوصلون إلى ما يسعون إليه من مكاسب أو غايات مادية أو معنوية، ولا يتفطن الضحايا إلى هذه المقالب إلا بعد فوات الأوان، فيكتشفون متأخرين أنهم وقعوا ضحايا لعمليات نصب واحتيال. وجريمة النصب منصوص عليها في الفصول ما بين 540 و546 من القانون الجنائي المغربي. ويجدر بنا هنا التساؤل عن أسباب تزايد هده الظاهرة، التي تبقى في بعدها ظاهرة اجتماعية خطيرة في المجتمع، ويجب الضرب على أيدي الذين «يقتاتون» على آلام وجراح الآخرين ويأكلون أموال الناس بالباطل عن طريق النصب والاحتيال والتلاعب بأموالهم، حيث ينبغي التصدي لهم ومحاربتهم من قبل الجهات المختصة وتعزيز مبدأ عدم الإفلات من العقاب لتحقيق الأمن وحماية حقوق الإنسان من كل اعتداء. مطيع حسن فرع المركز المغربي لحقوق الإنسان في إنزكان
عنبي: النصب والاحتيال لا يتم بالطرق التقليدية بل بات يوظف مؤسسات الدولة وبعض رموزها يرى عبد الرحيم عنبي، أستاذ علم الاجتماع في جامعة ابن زهر في أكادير، أنه يتم التطرق لدراسات الاختلاس والنصب والاحتيال، في الغالب، من زاوية القانون الجنائي، على اعتبار أنها تقع ضمن السلوكات الإجرامية. وقال إن الدراسات السوسيولوجية نفسها وضعت تخصصا دقيقا يهتم بالانحرافات ذات البعد الجنائي، وفي هذا الاتجاه علما اجتماع الجريمة وعلم الاجتماع الجنائي. كما أشار عنبي إلى الاختلاف على مستوى المقاربة بين القانوني والسوسيولوجي، فالقانوني غالبا ما يبحث في النازلة عن تطبيق نصوص قانونية معينة، بينما يسعى السوسيولوجي إلى تطوير نسق نظري من أجل تحليل السلوك الإجرامي أو الانحرافي، وخلص إلى أن ما سبق يشكل السياق الذي يمكن أن تتم من خلاله مقاربة ظاهرة النصب والاحتيال، التي أضحت في تزايد مستمر. - ما هي الدوافع الاجتماعية التي قد تكون وراء تنامي ظاهرة النصب والاحتيال؟ إن تنامي هذه الظاهرة مرتبط أساسا بالتغير في نسق القيّم الاجتماعية للمجتمع المغربي، أعني أن التغير الاجتماعي أضحى اليوم أوسع مما كان عليه في الماضي. كما أن التغير الاجتماعي أضحى، من جهة ثانية، شاملا وسريعا، حيث وضع العديد من القيم الاجتماعية للمجتمع محط تساؤل. وقد ساهمت في تغير القيم الاجتماعية عوامل عدة تكنولوجية وبيئية أدت إلى إحداث خلخلة في البناء الاجتماعي للمجتمع المغربي، بصفة عامة، ولجهة سوس ماسة درعة، بصفة خاصة. وصحبت هذه التغيرات، التي عرفها المجتمع المغربي، عموما، تغيرات على مستوى البنيات الاقتصادية، مما ساهم في ظهور تيارات الهجرة، حيث عرف المغرب هجرات واسعة ومكثفة من المجال القروي في اتجاه المجال الحضري، هجرة لم تكن المدن مهيأة بشكل كبير، من حيث الخدمات الاجتماعية وكذا من حيث النسيج الاقتصادي والعمراني. هؤلاء الوافدين الجدد لهم مطالب عدة على مستوى العمل والسكن والاستهلاك، مما جعل المدن والضواحي مجالا لعدة سلوكات إنحرافية انتعشت وسط تغير في بنية السكان، حيث أدى إلى إحداث جرح اجتماعي في المجتمع، ارتفعت معه معدلات الفقر والبحث عن الخلاص منه، في غياب تأهيل وتأطير يؤهل كل الأفراد للانخراط في النسيج الاقتصادي والاجتماعي، مما جعل ظواهر الانحراف، كالدعارة والسرقة وبيع المخدرات والنصب والاحتيال، ظواهر للكسب المالي. أعتقد أن هذه التحولات الاجتماعية، التي عرفها المجتمع المغربي، عطلت وظائف عدة تتعلق بالتنشئة الاجتماعية. كما أدت إلى اضطرابات عدة على مستوى نفسية الأفراد وجعلتهم عاجزين عن الانخراط بشكل طبيعي في المجتمع، خاصة أننا أمام مجتمع مغربي أضحى منخرطا بشكل كبير في الاستهلاك الواسع، مما ساعد على بروز قيّم جديدة تحدثت في معظمها على كسب المال وكسب الكثير منه، حتى يتمكن الفرد من مسايرة ركب الحياة. إننا أمام نمو «ثقافة» تؤكد بقوة على كسب المال، غير أنها لا تؤكد بنفس القوة على كسب هذا المال بالطرق المعيارية أو القيمية، لذا يختار بعض الأفراد أسهل الطرق لكسب المال، وتأتي في مقدمتها كل السلوكات الانحرافية، من دعارة ومتاجرة في المخدرات والتسول والاختلاس والرشوة وكذا النصب والاحتيال على أفراد المجتمع. إن الممارسين للنصب والاحتيال يدركون أن أعمالهم غير شرعية ومخالفة لنظام القيم الاجتماعية وللقانون. كما أنهم يدركون أن أعمالهم هذه لا تحظى باحترام الناس أو المجتمع. غير أنهم يستغلون سذاجة بعض الأفراد وأمية أفراد آخرين ثم الأمية القانونية للعديد من أفراد المجتمع الذين يقعون ضحية هذه الشبكات. إن ما يحدث اليوم في المجتمع المغربي من تغيرات اجتماعية واقتصادية جعل من «ثقافة النقود» أساس مختلف العلاقات الاجتماعية. كما أن اأموال أضحت هي عصب الحياة، في غياب ثقافة تجعل الأفراد يستوعبون قيمة النقود أو قيمة المال وقيمة الحصول عليه بالسبل المشروعة، مما ساعد على انتشار اللا معيارية في علاقة الفرد بكسب المال.. ساعدت هذه العوامل كلها في توجه الأفراد نحو طرق سهلة من أجل الكسب المادي، وتبقى ظاهرة النصب والاحتيال من أهم هذه السلوكات، التي أخذت تتوسع في مجتمعنا، متخذة كذلك طرقا عدة ومتنوعة، حيث لم يعد النصب والاحتيال يتم بالطرق «التقليدية». بل بات يوظف مؤسسات الدول وبعض رموزها.. كما يتم توظيف مؤسسات نقابية وسياسية والنسب الشريف، كل هذا من أجل الوصول إلى نفس «الهدف». - هل من تفسير لتنامي هذه الظاهرة في جهة سوس ماسة خلافا لبعض المناطق الأخرى؟ في جهة سوس ماسة تسير وتيرة النصب والاحتيال بسرعة. كما أنها تتسع بشكل مخيف، حيث لم يعد النصب والاحتيال يهدف إلى جمع المال فقط، بل بدأ يشمل العلاقات الاجتماعية والزوجية، حيث «يتخلص» بعض الأزواج من زوجاتهم بطرق ملتوية، بعدما يكونون قد دخلوا في هذا الزواج «على طمع». حيث يتم سلب بعض الزوجات أموالهن أو تفويت عقارات لصالح الزوج المحتال، ثم يتم استغلال أمية الزوجات من أجل جعلهن يوقعن على عقود تتهمهن في شرفهن أو تهدف إلى الطلاق الاتفاقي دون علمهن بما يحاك ضدهن.. وهناك في سوس ماسة من يدّعي أن له «مركزا اجتماعيا» أو «مهنيا» ما من أجل النصب على الأسرة السوسية، انطلاقا من نصبه واحتياله على الفتيات، بدعوى أنه يريد الزواج. لكنْ، بعد ربط العلاقة مع الأسرة، يستعمل النصاب طرقا أخرى من أجل النصب على الأسرة ككل، بدعوى تشغيل بعض أفرادها العاطلين عن العمل أو ما شابه ذلك.. يشمل النصب والاحتيال في جهة سوس ماسة استعمال الدين أيضا، حيث هناك من ينصبون على السكان، موظفين الدين وطرق الشعوذة، خاصة ما يسمى «السماوي».. وأعتقد أن تنامي ظاهرة النصب والاحتيال في جهة سوس ماسة درعة يعود، بالأساس، إلى سيادة الأمية ثم إلى الهشاشة المركبة، التي ما زالت تعاني منها الجهة. كما أن هذه الجهة تعد خزانا بشريا، حيث استقطبت مهاجرين من مختلف جهات المملكة، مما ساعد على خلخلة البنية الاجتماعية فيها وأدى إلى تهديم البناء التقليدي للمنطقة. - هل سبق لكم أن أجريتم بعض الدراسات والأبحاث لتجليات هذه الظاهرة؟ في الحقيقة، لم يسبق أن أنجزنا دراسات في هذا الباب بشكل مباشر. غير أنه سبق لنا أن أجرينا بعض الأبحاث التي تلامس ظواهر اجتماعية مختلفة، كالدعارة أو تعاطي الشعوذة، ثم سرعان ما نجد أنفسنا أمام ظاهرة النصب والاحتيال، حيث تنتعش هذه الظاهرة كلما ارتفعت معدلات الانحراف. - أي دخل للمؤسسات العمومية في تنامي هذه الظاهرة؟ من الصعب أن نقر بدور المؤسسات العمومية في تنامي الظاهرة. كما أنه من الصعب أن نبعد مسؤوليتها عن هذا الوضع، على اعتبار أن الظاهرة تنتشر داخل المؤسسات العمومية، حيث يلجأ بعض ممن يمتهنون النصب والاحتيال على المواطنين إلى داخل هذه المؤسسات من أجل عرض «خدماتهم» على المواطنين. ومن هنا فإن، جل «الخدمات» التي يعرضها المحتال تأتي كنتيجة لغياب التواصل بين المؤسسات العمومية والمواطنين وعدم ضبط مساطر التعامل مع بعض القضايا بشكل دقيق وكذا لعدم سد الفراغ الحاصل على مستوى التأطير وتثقيف المواطنين في ما يتعلق بالنقص القانوني وتنمية روح التعامل مع المؤسسة. من جهة أخرى، فإن ما يحدث هو «ثقافة» نمت في إطار التحولات السوسيو اقتصادية التي يعرفها المجتمع المغربي، إذ كان لهذه الثقافة دور كبير في نمو العديد من السلوكات الانحرافية، التي بدأت تطال جميع مؤسسات المجتمع. - ما هي، في اعتقادك، الحلول الاجتماعية الممكنة للظاهرة؟ من الصعب التفكير في وضع حد للظاهرة، لأنها كما أسلفت، مرتبطة بعوامل خارجية وأخرى ذاتية نفسية. لكن، ينبغي التفكير على الأقل في الحد منها ومن تأثيراتها السلبية على المجتمع، وهذا لن يتأتى إلا من خلال تعبئة لكل مؤسسات الدولة والمجتمع المدني والإعلام وانخراطهم جميعا من أجل محاربة الأمية والهشاشة والنهوض بأوضاع الساكنة وتقريب الإدارة من المواطن، مع خلق تواصل دائم بينه وبين مؤسسات الدولة.