كان إعلان نتائج انتخابات الجمعية التأسيسية التونسية (27 أكتوبر) يوما غير عادي بالتأكيد، سواء للمواطن التونسي أو لأبناء المجال العربي السياسي ككل. لم يكن توكيد فوز حزب حركة النهضة، إسلامي التوجه، مفاجأة بالمعنى التقني، فمنذ أغلقت صناديق الاقتراع والتقارير المختلفة من محطات التصويت تشير بوضوح إلى أن النهضة كانت في طريقها إلى الفوز. وأصبحت الأسئلة تدور حول حجم هذا الفوز على صعيد نصيب النهضة من أصوات الناخبين أو حصتها من مقاعد الجمعية التأسيسية، ولاسيما أن القانون الذي نظم الانتخابات كان بالغ التعقيد. بالمعنى التقني، إذن، لم تكن هناك من مفاجأة؛ ولكن بالمعنى السياسي-التاريخي، لا بد أن ينظر إلى فوز النهضة باعتباره منعطفا تحوليا لا يؤشر على سياق تونسي سياسي جديد وحسب، بل إلى تحولات سياسية عربية أيضا. وربما تصعب قراءة هذا التطور بدون تلمس طرفي المعادلة الرئيسيين: الدولة التونسية ونظام حكمها، وحركة النهضة. لم يكن لأحد، عشية حصول تونس على الاستقلال، أن يتنبأ بما يمكن أن تؤول إليه مصائر الجمهورية بعد نصف قرن فقط من إعلانها. في تونس، كما في أغلب البلاد العربية الأخرى، سرعان ما اختطت الدولة لنفسها مسارا خاصا بها، تجلى في إجهاض آمال جيل الاستقلال ونجاح الطبقة الحاكمة في إقامة تماه لصيق بين نظام الحكم ومؤسسة الدولة. كل الدول المركزية الحديثة، بالطبع، هي مؤسسات متعالية على المجتمع ومنفصلة عنه؛ وهذا هو جوهر بروز الافتراق بين المجال العام والمجال الخاص في الدولة الحديثة. ولكن ما وقع في تونس، وفي السياق العربي ككل، أن تعالي الدولة وانفصالها وصل مستوى أدى في النهاية إلى فقدان الدولة التدريجي للشرعية، ليس فقط لأن الانتخابات كانت غالبا ما تزور، أو أنها أصبحت غير ذات معنى وصلة بوظيفتها السياسية الأولية، ولا لأن الدولة أخذت في تبني برامج وسياسات لا تجد بالضرورة دعما شعبيا واسعا أو أنها حتى تتناقض مع الرغبات الشعبية؛ ولكن أيضا، لأن الدولة تخلت عن وظيفتها الأصلية في حفظ توازنات العلاقة بين نظام الحكم والمجتمع. الحقيقة أن الدولة التونسية، كما المصرية والعراقية والسورية، بما في ذلك جهازها القضائي في أغلب الحالات، تحولت إلى أداة طيعة في يد الطبقة الحاكمة، لا تنفذ برامج الحكومات المتعاقبة وحسب، بل وتخدم مصالح طبقة الحكم وتحرس امتيازاتها وتعيد إنتاجها أيضا. سلمت مقاليد الحكم، في بداية عهد دولة الاستقلال، إلى شريحة كان يفترض أنها تمثل الأغلبية التي ناضلت من أجل الاستقلال. ولكن هذه الشريحة أخذت تضيق تدريجيا بمرور السنوات، سواء بفعل الصراعات الداخلية بين عناصرها المختلفة أو بفعل الشعور الأبوي المستحكم لدى الحكام الجدد من أبناء الإنتلجنسيا الحديثة، الذين نجحوا في حسم الصراعات الداخلية في صفوف الطبقة الحاكمة لصالحهم. بخلفيتهم الاجتماعية الثقافية وبقوة الكاريزما التي أهلتهم أصلا لقيادة حركة التحرر الوطني، أصبح قادة دولة الاستقلال أوصياء على الشعب والوطن، وتطور لديهم اعتقاد صلب بالحق والإلهام، حتى عندما بدأت الدولة التي تسلموا مقاليدها خوض حرب شعواء ضد مواريث المجتمع وقيمه. وما ساهم في تفاقم أعباء هذه الحرب، كان الفشل الذريع الذي منيت به مشاريع التنمية التي قادوها. وليس ثمة شك في أن بورقيبة كان مثالا صارخا على هذا النمط من القيادات العربية. وفرت النهاية المؤسفة التي صادفها عهد بورقيبة في نهاية الثمانينيات، وتولي بن علي، على خلفية أزمة محتدمة كادت تطيح بالسلم الأهلي واستقرار الحكم، فرصة كبيرة لإعادة النظر في بنية الجمهورية ككل، سياسة واقتصادا وثقافة، ولاسيما أن تولي بن علي وضع في سياق تصحيحي ووجد ارتياحا واسعا في أوساط الطبقتين الوسطى والفقيرة وفي دوائر سياسية متعددة، بما في ذلك الدوائر الإسلامية السياسية. ولكن ما إن استقر بن علي في الحكم حتى بدأ دورة جديدة من الاستبداد والإخفاق التنموي. على نحو ما، لم يستطع ابن السلطة الحاكمة السابقة إطلاق حركة إصلاح جوهرية لمؤسسة السلطة والتحكم التي أنجبته. الفارق أن استبداد بورقيبة العقلاني أصبح أقل عقلانية، وإخفاق مشاريع التنمية التجريبية التي تعهدها بورقيبة أصبح إلحاقا سافرا لاقتصاد تونس بمراكز وأسواق الاقتصاد النيو ليبرالي الغربي. أطاح بن علي بخصومه في صورة فجة، بغض النظر عن خلفياتهم الفكرية والسياسية، بل وعمل جاهدا على صناعة الخصوم، معتمدا وسائل قمع منهجية، طالت شرائح مختلفة من التونسيين. وفي الوقت نفسه، وبينما كانت مستويات ثراء الأسرة الحاكمة والملتفين حولها تصل مستويات فاحشة، في بلد صغير ومحدود الموارد، كانت معدلات النمو المتداولة في أوساط مناصري النظام الغربيين تخفي أرقام ديون وطنية متصاعدة، وفوارق مستويات معيشة متسعة. في النهاية، أدت سياسات بن علي إلى خسارة النظام لقطاعات متزايدة من الطبقة الوسطة، والطبقات الدنيا بأكملها، ولم يعد أمام الشعب التونسي سوى الثورة. لم تكن حركة النهضة هي التي فجرت الثورة التونسية. الثورة هي فعل شعبي تونسي، هي حدث أكبر من النهضة ومن أي حزب سياسي آخر. ولكن النهضة كانت الجهة الأكثر وعيا بمعنى الثورة، الجهة التي أدركت أن الشعب لا يريد إطاحة الدولة التونسية، بل إصلاحها، وإصلاحها في صورة ملموسة، وأن الشعب يريد تحرير الدولة من نظام بن علي واقتلاع النظام من جذوره، وأن الشعب يأمل في بناء جمهورية على صورته لا على صورة فئة ما بعد الاستقلال الحاكمة. على أن أكثرية الشعب التونسي لم تصوت للنهضة لهذا السبب وحسب، إذ إن ثمة أسبابا أخرى خلف هذا الانتصار الانتخابي الكبير. قبل أكثر من عقد ونصف العقد، نشر الفرنسي أوليفييه روي كتابا أثار قدرا كبيرا من الاهتمام والجدل، خاصة بعد أن نشرت طبعته الإنكليزية، باسم «فشل الإسلام السياسي». كتب روي نصه على خلفية من الصراع المحتدم بين منظمات المجاهدين الأفغان، بعد الانسحاب السوفياتي وقبل الصعود الطالباني، ومن بداية ظهور التشققات في صفوف قوى الحكم في الجمهورية الإسلامية في إيران وفي السودان، ومن انفجار العنف الإسلامي بمصر. خلال النصف الثاني من التسعينيات، ومطلع العقد الأول من هذا القرن، ولاسيما بعد أحداث الحادي عشر شتنبر وغزو العراق، وتصاعد معدلات العنف باسم الإسلام، بدا أن مقولة روي قد تأكدت. ولكن مقولة/ نبوءة «فشل الإسلام السياسي»، لم تستطع الصمود طويلا. خلال السنوات القليلة التالية لغزو العراق، واحتلال القاعدة لمساحة هائلة من الخطاب حول الإسلام، حقق الإخوان المسلمون المصريون نتائج كبيرة في المرحلة الأولى من الانتخابات المصرية البرلمانية في 2005، ولم يمنعهم من الفوز بأكثرية مقاعد مجلس الشعب سوى التزييف الصريح والفج في المرحلتين الثانية والثالثة من الانتخابات. وتلت المفاجأة المصرية مفاجأة أكثر ثقلا، عندما حققت حركة حماس انتصارها الانتخابي في مناطق سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني، بينما كان حزب الله، وحلفاؤه، يفوز بالأغلبية العظمى من أصوات الشيعة اللبنانيين. وما إن انطلقت حركة الثورة العربية وأخذ العالم يتعرف على الواقع السياسي لدول مثل تونس ومصر وليبيا واليمن وسورية، حتى شاع الحديث عن «صعود القوى الإسلامية السياسية»، سواء في الكتابات العربية أو الغربية. كان روي، الباحث الفرنسي البارز في الاجتماع السياسي، مخطئا بلا شك في تبنيه المتسرع لأطروحة «فشل الإسلام السياسي». ولكن القائلين اليوم ب«صعود القوى الإسلامية السياسية» لا يقلون خطأ. كلتا المقولتين تستبطن نموذجا تآمريا، مصمتا، وساكنا للقوى الإسلامية السياسية؛ وكلتاهما تغفل الجذور الاجتماعية للتيار الإسلامي السياسي. تسيطر الفرضية التآمرية على أغلب المقاربات الغربية (والعربية المتأثرة بها) للتيار الإسلامي السياسي؛ والنموذج الأقرب إلى هذا التصور هو نموذج الحزب الشيوعي الروسي، ونجاح خليته القيادية التآمري في السيطرة على الإمبراطورية الروسية في 1917. مشكلة هذا التصور أنه يتجاهل كلية الظروف السياسية والاجتماعية والثقافية التي أدت إلى ولادة الإخوان المسلمين في 1928، والقوى الإسلامية السياسية الأخرى بعد ذلك. ولد التيار الإسلامي السياسي ليس لأن حسن البنا، أو بعد ذلك الترابي أو الغنوشي، كان شخصية تآمرية كفأة، بل في استجابة لمتغيرات كبرى طالت المجال العربي الإسلامي منذ بداية التحديث العثماني في منتصف القرن التاسع عشر والانهيار الفادح في موازين القوى لصالح الإمبرياليات الغربية. وما لا يقل أهمية أن القاعدة الاجتماعية الرئيسة التي استندت إليها القوى الإسلامية السياسية لم تكن طبقة العلماء التقليدية التي تكلمت باسم الإسلام وحرست قيمه طوال قرون، بل الطبقات الاجتماعية الحديثة، إنتلجنسيا المدينة العربية الإسلامية، طبقتها الوسطى، وخريجو المدارس والجامعات الحديثة. الغنوشي هو أستاذ فلسفة والأمين العام للنهضة، حمادي الجبالي، مهندس، وكذلك الأغلبية العظمى من قادة النهضة، ومعظم كوادر قوى التيار الإسلامي السياسي، في العالم العربي وفي دول إسلامية أخرى. بنشأته وبقاعدته الاجتماعية، يجب رؤية التيار الإسلامي السياسي باعتباره تجليا إسلاميا لما هو حديث، سواء من حيث تعدد أصواته وتعبيراته (ليس على مستوى المجال العربي الإسلامي وحسب، بل وضمن حدود كل دولة على حدة كذلك)، أو من حيث كونه مشروعا غير ناجز، بمعنى أنه ليست هناك لحظة، منذ ولادة حركة الإخوان المسلمين في نهاية العشرينيات، كان من الممكن فيها القول إن هذه أو تلك من قوى الإسلام السياسي قد وصلت نهاية نضجها. هذه ظاهرة سياسية ديناميكية، متغيرة، تتمتع بقدرات متفاوتة على الاستجابة لتغيرات الواقع الذي يحيط بها. وربما يجدر التذكير بأن جماعة الإخوان المسلمين في مصر لم تتجه من البداية توجها سياسيا، وأن عقدا كاملا مر على تأسيس الجماعة قبل أن تنخرط في الحياة السياسية المصرية. نهضة 2011 ليست نهضة الثمانينيات؛ والنهضة بعد عشر سنوات من الآن، ستختلف عن نهضة 2011. ولا ينبع هذا التغير من انتهازية سياسية، من رغبة جامحة للسيطرة على مقاليد الدولة، كما هو التفسير الشائع والمبتذل، بل من المرونة التكوينية لجذري القوى الإسلامية السياسية: الإسلام والحداثة. وهذا هو السبب الثاني، والأهم، لبروز النهضة التلقائي في مناخ الحرية التونسية الوليد.