(الانقسامية ليست نظرية تفسيرية.. إنها تهمل التاريخ.. وتهمل السيرورة..) عبد الله العروي بصفة عامة كانت الأنتربولوجيا الانقسامية محط نقد لاذع وتشريح دقيق من قبل عبد الله العروي، خصوصا في كتابه المميز «الأصول الاجتماعية والثقافية للوطنية المغربية» الصادر سنة 1977، معتبرا أن الأبحاث الأنجلوسكسونية مجموعة من التأويلات التي لم تأت بجديد، وأن كل ما قامت به لا يعدو كونه استعادة سطحية لنتائج أبحاث سابقة، وهكذا برأي عبد الله العروي تم تحويل ديمقراطية روبير مونتانيي إلى انقسامية، وتحويل وصف بيرك للانزواء التاريخي إلى هامشية، معتبرا أن الأبحاث الأنجلوسكسونية عبارة عن مقولات فارغة. كان مونتانيي ينطلق من الديمقراطية فيما كان بيرك ينطلق من الارتباط بالوطن، في حين لجأ الانقساميون إلى اختزال الأشكال الاجتماعية الموجودة في المغرب، والتي تعرفوا عليها في إفريقيا، في بنية واحدة. فكان طبيعيا أن ينطوي التفسير الانقسامي على إهمال عناصر المضمون التي تعبر عن صنوف التمايز. لعل من أخطر نتائج هذا الاختزال التخلص من التمييز بين المستوى الملاحظ والمستوى الافتراضي كالقبيلة. وبالتالي لم تعد هناك فرصة لتحديد مجموعة حاسمة، حيث الانقسام يمثل العلامة الرئيسية، وحيث المجموعات تنقسم إلى مجموعات فرعية ضمن توازنات محددة. ثغرات في انقسامية كلنر تقدم الانقسامية برأي عبد الله العروي خطاطة أولية عن الواقع، لكنه لا يعتبرها نظرية تفسيرية إلا في حال كان التوازن دليلا على التكافؤ الفعلي بين القوى الاجتماعية وأدى إلى إلغاء التأثير المتبادل لمكونات هذه القوى. يستدعي ذلك الاعتماد على المقاربة البنيوية: حيث فعالية الوقائع تقاس بمدى الدينامية التي تحدثها في القوى الكامنة. وهو تفسير يستند إلى بنيات الحاضر، كما يقول كلنر، باعتبار الماضي تابعا له، أي عكس التفسيرات التكوينية. فالوقائع التاريخية تنتهي مفاعيلها في اللحظة التي تعلن عن وجودها. لم يضمن كلنر، برأي العروي، المفهوم الانقسامي كل معطيات القبيلة المغربية. إذ يجب وصف القبيلة انطلاقا من عناصر ملموسة. عندما يعتبر كلنر الاستناد على تعريف إيفانس بريتشارد للقبيلة باعتبارها أكبر جماعة بشرية يظن أعضاؤها أن من واجبهم حل نزاعاتهم باللجوء إلى التحكيم، يؤدي إلى اعتبار المجتمع المغربي برمته قبيلة واحدة. إلا أن كلنر لا يقبل بهذا التعريف لأن المغاربة أنفسهم يعترفون بالتعدد القبلي، لكن برغم ادعاء كلنر تجاوز هذا التعريف فإن عبد الله العروي يعتقد أن السؤال الجوهري لم تتم الإجابة عنه، إنه سؤال ما إن كان المجتمع المغربي القبلي انقساميا أم لا. فوفقا لتعريف بريتشارد ليس المجتمع انقساميا، وبالتالي لا معنى للبحث عن تعريف دقيق للقبيلة المغربية. لقد تورط كلنر برأي العروي في مفارقة وليدة نظرية لا تنتمي إلى مجالها الاجتماعي. برغم تأكيد كلنر على الاستقلال الذاتي للقبائل، غير أنه قام بتعميم دور الزوايا وال»أكرام»، على عكس وجهة نظر روبير مونتانيي، بهدف إعطاء القبائل البربرية صبغة انقسامية مبالغا فيها. كما أنه عرف الزوايا بحسبانها جماعة وراثية تحظى بالبركة وتحول الأولياء إلى أصنام تعبد. وهو ما ينكره جاك برك بقوة. بهذا المعنى تتحول الزاوية، بوصفها وحدة انقسامية متفردة، إلى عامل ضروري لانقسامية القبيلة. يلجأ كلنر لتأكيد أطروحته إلى تفسير بروز ال»أكرام» بدوره في التعاقدات التي تنضوي في إطارها القبائل لاستغلال مشترك (الانتجاع) للأراضي بصفته الضامن، غير أنه لا يمكن تعميم هذه الحالة، لأن هناك مناطق لا تقوم فيها مثل هذه التعاقدات. يرى عبد الله العروي أن الانقسامية مقاربة انتقائية للمجتمع المغربي، ولذلك لم يتحرر كلنر من أبحاث الضباط الكولونياليين «المتعاطفين» مع الثقافة البربرية، حيث تبدو الانتقائية واضحة في تركيزهم على الأطلس المتوسط لأبحاثهم، وكلنر تبعهم في ذلك وحاول تعميم النتائج دون أن يكلف نفسه عناء إجراء المقارنات. ويبين عبد الله العروي كيف أن كلنر برغم اعترافه بأن الزاوية عبارة عن عالم منتشر، حيث يتوزع أبناء الشيخ المؤسس على المناطق والجهات لإقامة زوايا أخرى، مما يجعلهم بالضرورة يتفاعلون مع تلك البيئات الجديدة، بيد أن كلنر يؤكد أن الزاوية لها استقلالية كاملة كما لها القدرة على استيعاب المؤثرات الخارجية وتكييفها مع ديناميتها الداخلية. غير أن عبد الله العروي يرى أن هذا التفسير لا يقوم على فرضيات سليمة ولا قدرة له على الصمود، مما اضطر معه كلنر إلى اللجوء إلى مفهوم «الهامشية»، والقول من ثم بوجود قبيلة حقيقية وقبيلة بدائية وقبيلة هامشية، وبإضافة هذا المفهوم فقدت الانقسامية جدواها. مرد ضعف النظرية الانقسامية برأي عبد الله العروي له مستويان: الأول: المبالغة في الشكلانية مما يحرمها من امتلاك قوة تفسيرية، فتقدم لنا تعريفا خاطئا لمفهوم القبيلة. الثاني: الاعتماد على نماذج غير تمثلية يسقطها بالضرورة في تناقض استنتاجاتها، (مشكل الانتقائية والتعميم). لقد حاول كلنر الجمع بين مفاهيم البنيوية والانقسامية والهامشية، فكانت النتائج مفارقة، وأوضح مثال على ذلك عندما حاول تطبيق تلك المفاهيم على الأساطير والحكايات المروية، فيما أبحاث أخرى أثبتت عكس ما توصل إليه كلنر، الذي حاول، عبر تأويل تلك الأساطير، التدليل على هامشية القبيلة البربرية، لكن نزعته نحو البنيوية أفضت به إلى ممارسة تأويل من دون الاستناد إلى تاريخ المغرب. الأمر ذاته حصل لكلنر عندما حاول تأويل الروابط النسبية (الأنساب) التي وصفها بكونها وهمية، في حين أن النسب الشريف في المغرب يخضع لرقابة الأشراف و»أهل البركة». إن إقرار كلنر بأن للنسب وظيفتين متناقضتين، وظيفة أساسية ووظيفة ثانوية، راجع إلى الانتقائية النظرية التي لجأ إليها باستخدام التفسير البنيوي. هذه الانتقائية أفقدت التفسير البنيوي بالقدر الذي أفقدت فيه مفهوم الهامشية كل قوتهما، وجرد الأطروحة الانقسامية من قدرتها التحليلية والتفسيرية، لذلك بقيت الانقسامية برأي عبد الله العروي مقولة تجريدية وسطحية. في المحصلة النهائية، فشل الاتجاه الأنجلوسكسوني (الذي اعتبره عبد الله العروي طفيليا) في تجاوز الإرث الكولونيالي. وتوقف عند إعادة إنتاج أطروحات بحاجة إلى كثير من المراجعة والتدقيق، وبتعبير عبد الله العروي فإن الانقسامية ليست سوى صياغة جديدة لديمقراطية روبير مونتانيي، فيما مفهوم الهامشية تعبير بديل عن الانزواء الذي وصفه بيرك. حاول عبد الله العروي في كتابيه: «مجمل تاريخ المغرب» و»أصول الوطنية المغربية»، إثبات عجز المنظور الأنتربولوجي عامة والانقسامية بصفة خاصة، عن فهم السيرورة التاريخية للتحولات الاجتماعية، ما جعلهما يميلان أكثر إلى منهج اختزالي وتعسفي بالاعتماد على سببية بنيوية سكونية تلغي العوامل والديناميات التاريخية التي تعتمل في سيرورة التحولات، كما تلغي العوامل التي تساعد على التحكم بتلك التحولات لأجل توجيهها أو إعاقتها. بناء على ذلك، يشكك عبد الله العروي في قدرة الانقسامية على تقديم فهم أفضل للمجتمع المغربي. Laroui A., 1977, Les origines sociales et culturelles du nationalisme marocain (1830-1912), Paris, Maspero. pp. 174-177. * باحث في السوسيولوجيا