شارك الملك الراحل الحسن الثاني شخصيا في إلقاء بعض الدروس الحسنية في شهر رمضان، خلال نهاية الستينات وبداية السبعينات من القرن الماضي. فهو لم يكن يكتفي بأن يجمع العلماء من شتى أنحاء العالم الإسلامي لتكريس صورته كرجل دولة مسلم يرعى التقاليد الإسلامية، وتقوية دبلوماسيته الدينية في العالم الإسلامي، بل خاض بنفسه تجربة إلقاء دروس دينية أمام العلماء الذين كانوا يحضرون مجالسه، علاوة على مشاركته في مناقشة تلك الدروس بعد إلقائها من طرف المشاركين المدعوين. لقد كان الحسن الثاني يسعى إلى إظهار الجانب الديني من شخصيته كرجل فكر ودين وليس فقط كرجل دولة، ربما كنوع من التبرير أو البرهنة على لقب «أمير المؤمنين» الذي يتصف به، إذ إن صفة أمير المؤمنين في تاريخ الإسلام ترتبط بالتفقه في الدين. وقد تزامنت تلك المرحلة مع فترة الصراع على زعامة العالم العربي بين الاتجاه الإسلامي، ممثلا في الوهابية، الذي كانت تقوده المملكة العربية السعودية، والاتجاه القومي الذي كانت تقوده مصر بزعامة جمال عبد الناصر، وهو صراع سياسي وظف فيه الإسلام والفكر القومي بين الطرفين، وكان الحسن الثاني يقف في الصف الأول إلى جانب السعودية، لذلك كان الجانب الديني أحد العناصر التي جرى توظيفها لتحديد معسكره السياسي. في شهر رمضان عام 1386 هجرية، الموافق ل25 دجنبر 1966 ميلادية، ألقى الحسن الثاني درسا دينيا انطلاقا من الحديث النبوي»من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان». وفي مقدمة ذلك الدرس قال مخاطبا العلماء الحاضرين: «وقد أجهدت نفسي على أن لا أرجع إلى مرجع، ولا أطالع كتابا أو تفسيرا أو تأويلا، حتى يكون حديثي هذا بمثابة امتحان، لا لي فحسب، ولكن لجيلي، ذلك الجيل الذي قضى أكثر أيامه في الكفاح، ذلك الجيل الذي حجبت عنه حضارته، ومنع من ثقافته، ذلك الجيل الذي كان يذهب إلى الدرس وإلى التعليم خلسة، خفية من الأعداء ومن المستعمرين. فإذا وفقنا الله سبحانه وتعالى تمكنا من أن نقول إن جيلنا رغم ضيق علمه وعدم اتساع اطلاعه ومعرفته باجتهاده ومقارناته، أمكنه أن يعلم ولو النزر القليل من الديانة الإسلامية والسنة النبوية، وإن نحن والعياذ بالله لم نوفق فسيكون لنا ذلك حافزا لأن نسعى دائما وراء العلم، ونعاشر أهل العلم ونجالسهم حيث إنه يقال: لا حد للكمال، ولا نهاية للفضيلة». وقال الملك الراحل إنه سيفسر الحديث المذكور«ليس تفسيرا فقهيا أو تفسير علماء الحديث، فأنا وأعوذ بالله من قولة أنا لا زلت طالب علم، وتلميذا لكم، ولكن سأحاول أن أفسره على ضوء السياسة الاجتماعية، وعلى ضوء فصل السلط، وعلى ضوء تنظيمها، وذلك شغلي، فأهل مكة أدرى بشعابها». وقد قام الملك الراحل بتفكيك الحديث إلى أجزاء، وفسر كل جزء منه، حيث قال إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقل: «من رأى منكم منكرا فليغره» فقط، لأن قول ذلك وحده سيفتح الباب أمام الفوضى والاقتتال، بل حدد مراتب ذلك وقال: «بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»، وقال إن لفظ الرؤية لا يفيد المشاهدة بالعين فقط، بل لا بد من الحكمة، واستشهد بالخضر والنبي موسى عليهما السلام، عندما رأى سيدنا موسى الخضر يغرق السفينة ويقتل الغلام ويعيد بناء الجدار، ففهم الأمور بحسب ما رأت عيناه، قبل أن يشرح له الخضر فيما بعد أن ما رآه وحسبه منكرا هو أفعال حسنة. وأضاف الملك الراحل مفسرا تغيير المنكر باليد واللسان في الحديث: «بيده بمعنى: إذا كان لك أيها الإمام أو أيها الملك أو أيها الرئيس تلك السلطة التشريعية، ورأيت إما ببصرك أو ببصيرتك أو بلسانك، بمعنى المخبرين، والحقيقة أن اليوم اللسان هو الهاتف والتليفون والراديو، حيث إنه يمكن للرسائل أن تصل بسرعة، إذا رأيت هذا المنكر أو رآه من هو ينوب عنك وعلمته ولم تغيره، فسوف تكون إذاك مذنبا مجرما بالنسبة لله أولا، وبالنسبة لذلك المجتمع الذي جعلك الله عليه قيما وراعيا ومسؤولا، فإن غيرته كنت من المؤمنين المسلمين الذين إذا تحملوا الأمانة كيفما كانت هذه الأمانة جسيمة أم صغيرة، حملوها بصدق وأمانة»، وأضاف مفسرا اللسان أيضا: «واللسان هنا الإخبار، أو الكتابة، عليه أن يكتب إلى عامل الإقليم أو إلى والي المدينة أو إلى قاضي القرية، أن يكتب لهم ويمضي كتابه، أو يبلغه بواسطة الهاتف وهو لسان المنكر الذي رآه وشهده وشاهده، حتى يمكن للقائمين على الأمر تغيير ذلك المنكر»، أما عن القلب فقال: «ما معنى بقلبه؟ لا أعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال بقلبه قصد القلب، لأنه ليس من شيمة النبي صلى الله عليه وسلم ولا من عبقرية الإسلام أن ننطوي وننزوي، ونكون كالرهبان نتعبد ونستغفر لغيرنا، بل أراد بذلك عملية إيجابية وحركة، بمعنى: بخلقه، في نظري، بسيرته، فليكن مواطنا صالحا، موظفا تقيا، رجلا نزيها في أمانته، رب أسرة لا يقوم بأي منكر ولا بأي فاحشة بكيفية عامة، بقلبه بمعنى بقلبه وجوارحه، في سيرته، في مكتبه، في معمله، في حقله». كما ألقى الحسن الثاني درسا آخر في رمضان عام 1398 ه، الموافق لشهر غشت 1978، خصصه لتفسير الآية: «إن الله عنده علم الساعة، وينزل الغيث، ويعلم ما في الأرحام، وما تدري نفس ماذا تكسب غدا، وما تدري نفس بأي أرض تموت، إن الله عليم خبير». ولعل الملك الراحل أراد من ذلك الحديث توجيه رسالة معينة إلى من ينتقدون سياسته المنحازة للغرب وللثقافة الغربية، وسياسة التراجع عن تعريب التعليم في تلك الفترة، فقال في مدخل الدرس: «كان في إمكاني ووسعي ألا أقوم بإلقاء أي حديث في هذا الشهر المبارك، كما كان في وسعي أن أختار غير هذه الآية، ولكم ارتأيت أن أدلو بدلوي حتى أجعل شباب جيلي والشباب المقبل موقنين ومؤمنين بأن الازدواج أو التثليث في اللغة والتثقيف والتكوين لم يكن ولن يكون عرقلة بين المسلم وبين المعرفة، بل يكون جسرا يمكن الطالب من أن يسير عليه آمنا من الزلل، مطمئنا بفضل الله على معارفه وحسن إدراكه». وعند التطرق لتفسير تلك الآية قال: «فعلم الساعة بيد الله سبحانه وتعالى، ولكن الله فتح لنا حتى في هذه الآية أبوابا ليمكننا ألا نقع في ساعات بشرية هي بيدنا، في انتظار الساعة الكبرى، الساعة الكونية». وأتى بالحديث النبوي الذي يقول فيه جبريل للنبي عن علامات الساعة: «أن تطلع الشمس من مغربها، وأن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة يتطاولون في البنيان»، وقال الحسن الثاني: «وبهذه العلامات تكون الساعة أصنافا، فهناك الساعة الاجتماعية والأخلاقية، وهناك الساعة السياسية، وهناك الساعة الكونية، فالساعة الأخلاقية والاجتماعية هي أن تلد الأمة ربتها فتنعدم المقاييس والموازين، وتفسد الديار وتتخرب البيوت، وهذا بيدنا وبوسعنا أن نصلحه وألا نقع في الساعة الأخلاقية، وهناك الساعة السياسية وهي أن يقلد الناس أمورهم لغير المؤهلين، أن يقلدوا أمر المسلمين من ليس أهلا لها، والدليل على هذا أن هناك أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب، فقد قال: «إذا أسندت الأمور إلى غير أهلها فانتظر الساعة»، وقال: «إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة»، فالساعة السياسية هي أن تسند الأمور إلى غير أهلها. لذا أرى شخصيا أن أحسن نظام لتسيير شؤون المسلمين هو إما النظام الملكي الدستوري وإما النظام الجمهوري البرلماني المبني على الديمقراطية الحقة، لأن في كلا النظامين نرى أن التكوين المهني مضمون بالنسبة لمن سيسوس أمور المسلمين». وفي ختام ذلك الدرس قال: «أرجو الله سبحانه وتعالى ألا أكون قد أخطأت أو جازفت في تفسيراتي، أرجو الله ألا يرى في مشاركتي إياكم في هذه المحاضرات والدروس الدينية إلا تعبيرا صادقا عما قلدني سبحانه وتعالى من حفظ لأمانة المسلمين، الأمانة الدينية والروحية، فلا يعقل أن يكون إنسان يميز بين الصالح والطالح، وبين الحلال والحرام، أن يكون إنسان يميز هذا التمييز ملقبا بأمير المؤمنين دون أن يظهر ولو القدر مما أعطاه الله من فهم وما وهبه من تعلق قبل كل شيء بكتاب الله وسنة رسوله».