قد تضيق كتب التاريخ بذكر أشخاص مهووسين أقحموا بلدانهم في حروب طاحنة أشعلت فتيل الفتنة عبر العالم، مدفوعين بشهواتهم الهستيرية في التوسع والتسلط على البلاد والشعوب، للاستئثار بإنجازاتها وخيراتها، غير آبهين بالخراب والدمار اللذين يتسببون فيهما ولا بالبؤس والشقاء اللذين يخلفوهما في النفوس، ناهيك عن ألوف القتلى والجرحى والمتشردين، إنْ في صفوفهم أو في صفوف البلاد التي يقتحمونها لكنْ، في المقابل، ثمة قاعدة ثابتة لا تقبل الجدل وتعنينا جميعا، دون استثناء ولا مفرَّ منها لأحد تقول: «عندما يتقدم العمر بالإنسان يضعف»، وبالتالي فإن مرور السنين والحروب يترك آثارا سلبية في تركيبة الجسم البشري، إذ «يتآكل» هذا الجسم وينال الوهن من جميع أعضائه وأجهزته، ومنها الدماغ، مركز التفكير والقرار... ظاهرة تصيب عظماء العالم، كما تصيب صعاليكه، فتصيب من تصيبه ممن توصلوا إلى القناعة وابتلاع ما يردده على مسامعهم بعض الأطباء المراهنين الذين يحيطون بهم ويلعقون مما في صحونهم، موهمين إياهم بأنهم قد اكتسبوا عظمة تحصّنهم وتمنع الضعف والوهن من التسرب إلى أجسامهم.. إنهم مرضى حكموا العالم... عندما يكون شخص ما شديد الانتباه، يراقب عن كثب صحة ونشاط غيره من الأصدقاء والأعداء، فإنه قد يوصف بالمتصابي المريض، مطبقا على نفسه المثل القائل «من راقب الناس مات همّا»، لكنْ عندما يكون رئيس دولة بالانتباه نفسه والمراقبة نفسها (مراقبة رؤساء آخرين) فإن ذلك يوصف بأنه الحس الأمني والحيطة والحذر التي تسلكها أجهزته تجاه أنصار أجهزة أخرى أو دول أخرى في حد ذاتها... بومبيدو يراقب صحة أعدائه هكذا أمضى الرئيس الفرنسي جورج بومبيدو حياته السياسية (ولد بومبيدو في الخامس من يوليوز 1911 في العاصمة الفرنسية باريس، والذي تولى رئاسة فرنسا في العشرين من يونيو 1969 حتى وفاته في ثاني أبريل 1974، بعد أن تولى رئاسة الوزارة في عهد الرئيس شارل ديغول) في التربّص ومراقبة أعدائه وأصدقائه رؤساء الدول بحذر شديد، سالكا الاتجاه ذاته الذي سبقه إليه الرئيس الأمريكي الأسبق جون كنيدي تجاه صديقه وخصمه اللدود حينئذ، نيكيتا خروتشوف، استعدادا لمقابلات أو مواجهات محتملة (كان يرغب بتجسسه في معرفة مقدرة الانفعال والمواجهة ونقط الضعف والقوة لدى خصمه)، فشهد بومبيدو بذلك (عن قرب) تدهور صحة الرئيس الروسي خروتشوف في إحدى زياراته للعاصمة موسكو ولاحظ، دون عناء، الضعف الظاهر على خروتشوف، الذي توجه إليه قائلا (بانكسار ملحوظ) «إنني مريض جدا»... ولاحظ عن قرب، كذلك، الغيبوبة التي وقع فيها هلموث شميدت، مستشار جمهورية ألمانيا الفدرالية عندما كان في زيارة عمل لباريس وأثناء استضافته في قصر الإليزي، تلك الغيبوبة التي حدثت فجأة تحت أنظار الرئيس بومبيدو لبرهة لا تتعدى الثواني في دورة الدماغ الدموية، ولاحظ، أخيرا، الوعكة الصحية التي أصيب بها أنور السادات خلال الجولة الإسماعيلية رفقة بومبيدو في دجنبر 1975... لا يصلح العطار ما أفسده الدهر... يقول فاليري جيسكار ديستان، الرئيس الفرنسي الذي خلف بومبيدو في رئاسة الجمهورية في مذكراته التي صدرت بعد موت بومبيدو بعنوان مع السلطة والحياة عام 1988: «أكتب هذه الأسطر والألم يعصر قلبي مما قاساه سلفي بومبيدو من الأوجاع والآلام التي قاساها من المرض الذي أودى بحياته، وهو مرض في الدم، أودى، بعده بقليل، بحياة ثلاثة رؤساء دول هم هواري بومدين وغولدا مائير وشاه إيران. كان مرضهم نادرا ولا يصيب عادة إلا المتقدمين جدا في السن... مرض أثبت لنا وكأن بومبيدو كان على موعد مع الرؤساء الثلاثة الذين شاركوه نفس المرض، للحاق بهم في الآخرة... مرض أثبت لنا أن الصدفة خير من ألف ميعاد وأن دماء الأمراء والملوك هي نفسها دماء بقية الشعب... دماء قد تصيبها أمراض وراثية تنقل من الأهل إلى الأولاد ومن القريب إلى القريب، دون أن يربط بين دماء هؤلاء الرؤساء ودماء بومبيدو شيء وراثي، إنه، إذن، الموت نفسه الذي يأتي ببساطة بأمراض الشيخوخة والتقدم في السن، بفعل الزمن وتوالي السنين، وقد قيل قديما «لا يصلح العطار ما أفسده الدهر»... بداياته السياسية بدأ بومبيدو حياته السياسة من معهد هنري الرابع في باريس حين عمل مدرسا هناك، قبل أن يحظى بعناية الرئيس شارل ديغول، الذي منحه منصب المستشار الخاص لشؤون التربية الوطنية في مكتبه الخاص ثم مستشارا لمجلس الدولة عام 1958 -1959 ثم ليحظى بوزارة المالية والاقتصاد في حكومة ديغول الثالثة، عام 1966، ولينصب رئيسا للجمهورية بعد استفتاء عام 1969... كان جورج بومبيدو قد أصبح رئيسا للجمهورية الفرنسية حين بدأت تظهر عليه علامات المرض الأولى، ولم يعد لديه الآن متسع من الوقت للاهتمام بنفسه. كان بومبيدو، حينها، قد أصيب بانحطاط عامّ في قواه الجسدية، حسب تصريحات طبيبه الخاص، الدكتور فينيالو الذي قال: «لا أعرف تماما ممّ يعاني منه الرئيس، لكنني أؤكد لكم أن الأمر غير مهم»... لتبدأ أيامه الأخيرة بشعوره بدوار في الرأس، مع آلام مبرحة مصحوبة بتنمل في الأطراف وبنزيف دموي من الأنف وعدم شعور بالراحة والحيوية، كل ذلك رغم تأكيدات طبيبه فينيالو والمقربين منه، الذين درجوا على استعمال عبارة بسيطة «سنهتم بالموضوع»، مفضلين عدم تخويف زبائنهم الكبار، حتى يناموا في فراش من حرير في انتظار نهاية الآخرين... سرطان الدم تفاقمت حالة الرئيس بومبيدو الصحية على نحو مجهول من لدن الطبيب فيتيالو، الذي سرعان ما اكتشف بعد إخضاع الرئيس للفحوصات الطبية أن الرئيس يعاني من تضخم في الكبد والطحال والغدد الليمفاوية وترسب لكريات الدم دون الخروج بتفسير معقول لهذه العوارض بشكل عام، رغم أنه نسبها، بداية، إلى عوامل الشيخوخة التي يعاني منها الرئيس... لكن تدهور حالة الرئيس الدائم جعل الهيئة الطبية المحيطة به تنصحه بضرورة تدخل كبار الأخصائيين والأطباء الفرنسيين الذين سرعان ما اكتشفوا أن لدى الرئيس قصورا في نخاعه العظمي، الذي يولّد المناعة والدفاع عن الجسم، مرجحين إصابته بسرطان الدم «اللوكيميا»، مخفين بذلك حقيقة هذا المرض عن الرئيس وزوجته ومصرحين فقط بضرورة معالجة هذا المرض في أسرع وقت ممكن، خاصة أنه لا يسمح بالحياة لأكثر من خمس سنوات في حالة عدم معالجته بشكل جدي، الشيء الذي جعل الرئيس يسارع إلى كتابة وصيته خلال شهر غشت عام 1972... وفي نهاية العام 1972، شرع الأطباء في معالجة الرئيس في منزله الخاص، حفاظا على سرية المرض وإيهاما للرئيس نفسه بأن حالته بسيطة لا تستدعي نقله إلى المستشفى ويمكنه البقاء في المنزل، حيث الراحة والهدوء بصورة أفضل. بدأت الجلسات بإعطائه المركبات الكيماوية التي تُستعمَل في علاج سرطان الدم، ومنها الفوسفايير والكورتيزون وغيرهما، فنال منه الضعف والوهن، حتى تعذَّر عليه الاشتراك في احتفالات «عيد الشجرة»، كما كانت تقضي العادة والعرف، الشيء الذي أثار، بدوره، فضول الشعب، خصوصا رجالات السياسة والصحافيين الذين كانوا ما يزالون يجهلون حقيقة مرض الرئيس بومبيدو... يقول فاليري جيسكار في كتابه: «كانت المرة الأولى التي أرى فيها الرئيس بومبيدو مريضا عندما كنت بصحبته في ماي عام 1973 في الطائرة التي حملته إلى «ريكجافيك» في إيسلندا، حيث سيجري لقاء مع الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون. كانت تلك الرحلة، أيضا، رحلة علاج للرئيس بومبيدو. رغم عدم علمي حينها، كان الرئيس قد طلب مني -وكنت حينها وزيرا للمالية- العمل معه في الجناح الذي أُعِدَّ له في مقدمة الطائرة.. كان غالبا ما يغفو، من وقت إلى آخر. كان وجهه بلون رصاصي، من شدة التعب، بدل اللون الزهري الفرح المعهود لديه... ولدى وصولنا إلى إيسلندا، لاحظ كل من كان معنا ومن ينتظرنا أن بومبيدو يهبط من الطائرة بكثير من الحذر والصعوبة، متشبثا بدرابزين الطائرة، وقد لف نفسه في معطف سميك وعنقه وأنفه بوشاح صوفي... يعتمر قبعة تغوص حتى حواجبه وتخفي جزءا من وجهه، المحتقن، أصفر اللون، الشبيه بلون الشمع... وفي الصباح، بدأت الشائعات تملأ صفحات الصحف الفرنسية والعالمية حول مرض الرئيس وأصبح التهكن (دون أن يكون الإنسان خبيرا) بأنه قد تعاطى كميات كبيرة من الكورتيزون وكان الاعتقاد حينها لدى أطبائه الذين عالجوه وشاهدوه على جهاز التلفزة أن المحيطين به قد زادوا كمية الدواء المعطاة له، معتقدين أن ذلك يسرع شفاءه»... سكرات الموت لم ينته ذلك اليوم حتى سارع الأطباء المقربون من الرئيس، والذين سهروا على عملية علاجه، خاصة الدكتور فينيالو، إلى الاعتراف بمرض الرئيس الحقيقي وخسارتهم رهان معالجته من فقر الدم. يقول جيسكار ديستان: «حينما اعترف الأطباء بحقيقة المرض وبفشلهم في نظام المعالجة الذي وضعوه، كان الرئيس نفسُه لا يعلم حتى تلك اللحظة بحقيقة مرضه... وفي صباح يوم الأربعاء، 27 مارس 1974، ذهبتُ إلى قصر الإليزي لإطلاع الرئيس (بعد عودته من رحلة العلاج) على الملفات الاقتصادية والمالية التي أحملها، وكان من الطبيعي، حينئذ، أن أستفسر عن صحته. وقبل أن أشرع في السؤال، شعر الرئيس بومبيدو بما يعتريني فأجاب على الفور: «بما أنك ستتكلم عن صحتي، والتي أعرف ما يروى من أكاذيب وترهات بخصوصها، سأشرح لك الحقيقة بالكامل: إنني الآن قيد المعالجة من مرض يعرفه الأطباء تماما، لكن هذا يُتعبني كثيرا، ليس المرض بل العلاج... فبسبب مركزي، يقسون علي بهذا الشأن. لقد أصبحت بنزلة برد تحولت إلى مرض مزمن، لكنني سأوقف هذا العلاج فورا وسأذهب يوم السبت لتمضية عطلة الأسبوع في أورفيلي وسأذهب، في الأسبوع القادم، إلى «كارجالك» وأبقى هناك حتى أعياد الفصح ومنتصف أبريل، ومن الطبيعي أن استعيد صحتي وعافيتي ونشاطي فأعود لممارسة مسؤولياتي بشكل أفضل، فخلال تلك المدة، سأبقى على اتصال بكم للاطلاع على مجريات الأمور وسأجري الترتيبات اللازمة بهذا الشأن... ويتابع جيسكار «في صباح يوم الجمعة، 29 من ماي، انتقل الرئيس فعلا إلى أورفيلي، طلبا للراحة والنقاهة، فابتعد حينها عن العاصمة وجوّها الضاغط وضجيجها الذي يقض المضاجع، حيث البروتوكولات الرسمية، لكنْ بعد أيام قليلة من وصوله إليها، وقع ما كان يخشاه أطباؤه منذ أشهر عديدة سابقة، فبدأت متاعبه بنزيف بسيط في إحدى عينيه، وكان ذلك إنذارا أوليا للإسراع بنقله وعلاجه، فسرعان ما تبعه نزيف أنفي حاد ثم أصيب بدمل (ورم صغير) في مخرج الجسم شرعت تتمدد وتتضخم في جميع الاتجاهات، خاصة صعودا في اتجاه المستقيم ليدخل الرئيس مرحلة العذاب المرير»... «هنا، بعد نقاش مرير -يضيف ديستان- قرر الأطباء نقل الرئيس المريض بسيارة إسعاف إلى منزله في باريس، وهناك وقفوا مكتوفي الأيدي، عاجزين عن مساعدته، خاصة بعد أن أصيب بحمى مرتفعة الحرارة، فشلت جهودهم في تخفيضها، الشيء الذي جعل الرئيس بقول: «لقد انتهى كل شيء.. لم يعد بيدي حيلة، وقريبا سأرتاح من عذاباتي، إنني أعلم أن ساعات قليلة متبقية لي لا أكثر»... وما هي إلا ساعات حتى دخل الرئيس في مرحلة فقدان الوعي وسكرات الموت الأخيرة، بعد أن هاجمته الأمراض في الدم بحلول الساعة ال12 من ظهر يوم الثلاثاء، ال22 من أبريل 1974، لتستسلم الأوعية الدموية بحلول الساعة العاشرة مساء ويغرق في دمه ويسلّم الروح، في نهاية مأساوية، ليترك البلاد غارقة في ويلات الحاجة والمعاناة، نتيجة الحظر البترولي التي فرضته الدول العربية المنتجة للنفط، وفي ظل ملفات متراكمة ومصاعب تتفاقم لحظات غرقه في همومه وأوجاعه، لتدفع فرنسا ثمن مرض رئيسها... كاتب وصحافي فلسطيني مقيم في المغرب